عفواً: الشماتة ليست عملاً ثورياً
وائل قنديل
.. واستكمالاً لما بدأته أمس:
أظن أنه من الممكن أن تظل ثورياً و"شرعاويا" حتى، من دون أن تشمت، أو تتشفى، في موت نجوم استعملها مشروع الانقلاب في الدعاية له، ومن دون أن تعتبر تهنئة المسيحيين بعيدهم خروجاً عن مقتضيات "النضال".
ليس ذلك ممكناً فقط، بل أحسب أنه ما يجب أن يكون، إذا كنا نعتبر أنفسنا حقاً بصدد الدفاع عن مكتسبات حضارية وإنسانية، بددتها رياح 30 يونيو/ حزيران السامة.
يهم مؤسسة الانقلاب دائماً أن تضع الجميع على حافة الهاوية، وتؤجج كل عناصر الاحتراب المجتمعي، وقد رصدت ملامح هذه اللعبة غير الأخلاقية في مقال نشرته بعد ثلاثة أسابيع من وقوع الانقلاب، تحت عنوان "الهولوكوست المصري"، حذرت فيه من اللعبة التي تقوم على صناعة عدو تلصق به كل الشرور والآثام، ثم عزله، أو سلخه عن المجتمع، وتعلق عليه الأخطاء والكوارث السابقة والحالية، لتتم، فيما بعد، استباحة دماء المصريين، واسترخاص حياتهم، وامتهان حقوقهم موتى بعد قتلهم، تعبيراً عن ردة حضارية عنيفة، وانسلاخ من قيم تجسّد الحد الأدنى من الفطرة الإنسانية السوية.
إذن، رسمت مؤسسة الانقلاب حدود الهولوكوست، ثم عملت على استدعاء الجزء المعتم من الوجود الإنساني، وإطلاق أسوأ ما في الشخصية المصرية من نوازع وحشية، بحيث صار المجتمع يمور برغبات الانتقام والتلذّذ بالدماء، واستعذاب التضليل والتزييف وقلب الحقائق، لينعم المجرم بإجرامه، ويُساق الضحايا إلى الجحيم.
وإذا كان أوغاد الفاشية المجتمعية يستدرجون المعارضة إلى "حافة الهولوكوست"، من خلال العمل على فصل الثوار والمعارضين عن المجتمع، فلا يجب أن تستسلم المعارضة لهذا السيناريو الشرير، وترضى بأن تعزل نفسها داخل "جيتو" يخاصم الجميع، ويوفر هدايا مجانية لسلطة الانقلاب، من خلال الاستغراق في مشاعر السخط والشماتة والتشفي، في كل مصيبة تنزل بأحدٍ من مجتمع الانقلاب، بينما قائد سلطة الأوغاد يواصل أداء أدواره العاطفية الركيكة، بإصرار منقطع النظير، بين الكاتدرائية ودار الأوبرا.
وقف عبد الفتاح السيسي يتحدث إلى الشباب، أمس، مرتدياً أقنعة الرقة والليونة (بنص كلماته) والرخاوة التي لا تليق برجل عسكري، يخاطب شعباً، واضعاً على وجهه كميات هائلة من مساحيق الرحمة والإنسانية والتحضر، كنصير للشباب، يردّد حزمة جديدة من الأكاذيب والأوهام.
قبل ساعات فقط من كلام السيسي للشباب، كانت قواته قد قامت بتصفية ثلاثة طلاب داخل بيوتهم في محافظة الشرقية.
وقبلها كانت حصدت عشرات، بل مئات وربما آلاف، من شباب ثورة يناير، وزجّت بهم في أماكن الاحتجاز، إلى درجة أن معلومات تقول إنه تجري حالياً عمليات تفريغ لأقسام الشرطة من المحتجزين، ونقلهم إلى السجون والمعتقلات، كي تبقى هناك أماكن خالية لأفواج من المعتقلين الجدد، استباقاً لذكرى الثورة.
كان السيسي يتحدث عن الشباب، بعد ساعات من جريمةٍ ارتكبها نظامه في الغردقة، في إطار الحملة القومية "لصناعة الإرهاب المفبرك"، لترويع المصريين وتفزيعهم من التظاهر ضد النظام، حين اختطفت الشرطة محمود شيكا، وهو من شباب "وايت نايتس" من منزل أسرته في الجيزة، قبل حادث فندق الغردقة بيوم، ليظهر عقب الحادث جثة مضرّجة في دمائها، باعتباره إرهابياً.
بلغت معدلات استهداف الشباب بالتصفية، أو الاختفاء القسري، والاعتقال، ذروتها، هذه الأيام، إذ تنشط عمليات المداهمة في البيوت لأحياء سكنية بكاملها، والقبض العشوائي من الشوارع والمواصلات العامة، في خط مواز لتصعيد عمليات التفجيرات "المصنوعة"، قطعاً للطريق إلى ميادين وشوارع الغضب في 25 يناير، التي صاروا يصنفونها "حركة تخريبية خارجة عن القانون"، ويصطادون شبابها في كل مكان، في الخارج والداخل، مثل حالة أحمد المصري الذي ذهب يحجز قاعة لعقد قرانه، وإتمام حفل زفافه، في نادي الشرطة في القاهرة، فأخذوه إلى زنزانة الاعتقال مباشرة، وكل جريمته أنه يفهم ويعي، أو كما كتب على صفحته الشخصية "إحنا الجيل اللي اتقتل عشان فهم إحنا جيل 25 يناير".
انتبهوا أيها السادة: المعركة ليست مع فنان، مؤيد للانقلاب، رحل، ولا مع احتفالية كنسية صاخبة بحضور أعمدة الانقلاب، معركتنا الحقيقية هي استعادة ثورة يناير من خاطفيها، وتحرير مصر من قبضة قتلة تاريخها ومستقبلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق