تحرير الرمادي ، كلاكيت عاشر مرة!
استهبال الشعوب؛ سمة أساسية في أي نظام ديكتاتوري يفتقر لأبسط معاني المشروعية والديمقراطية والحرية.والاستهبال أو قل الاستخفاف وسيلة قديمة قدم البشر والاستبداد ، ذكرها الله عز وجل في محكم التنزيل في قوله عز وجل ( فاستخف قومه فأطاعوه)
[الزخرف 54] في ثنايا قصة فرعون وصراعه مع موسى عليه السلام، وهي بالمناسبة أكثر قصص الأنبياء تكرارا وذكرا في القرآن الكريم ، لأنها تكاد تكرر في كل عصر ، فثنائية الحاكم المستبد والشعب المقهور من متلازمات النفس البشرية ، بحيث لم تخلو الأرض من الفراعين وأدواتهم وسياساتهم منذ فرعون موسى حتى اليوم .
آخر فصول استهبال الشعوب ، كان في العراق ، الذي شهد في الأيام الأخيرة ، حالة انتشاء رسمي ، وفرحة نظامية طاغية ، بعد الاعلان عن رفع العلم العراقي على المبنى الحكومي في مدينة الرمادي إيذانا وإشارة بتحرير المدينة من قبضة تنظيم الدولة " داعش " بعد سبعة شهور من سيطرة التنظيم على المدينة ، فقد قال محافظ الأنبار صهيب الراوي يوم الاثنين الماضي في خطاب متلفز على محطة "الأنبار" الفضائية: "نزف إليكم بشرى النصر برفع العلم العراقي فوق مبنى المجمع الحكومي في الرمادي بعد تطهير أبنيته من براثن ومخلفات داعش".
أيضا رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ألقى كلمة بهذه المناسبة بثها التلفزيون الرسمي الإثنين قال فيها:"ها قد تحقق الوعد وانهزم داعش، لقد عادت مدينة الرمادي إلى حضن العراق وستعود كل مدينة عراقية إلى حضن الوطن الكبير" .
والحقيقة أن الاستهبال والاستخفاف بالشعب العراقي هو سمة النظام الشيعي المدار مباشرة من قم وطهران،خاصة فيما يتعلق بمحافظة الأنبار وعاصمتها الرمادي،أو بالأحرى وضع أهل السنّة ومستقبلهم السياسي بعد أكثر من عشر سنوات من الاحتلال الأمريكي وسقوط نظام صدام حسين.فسقوط الرمادي بيد مقاتلي تنظيم الدولة ، ثم الادعاء بتحريرها كان فصلا جديدا سمجا وفجا من فصول الاستهبال الرسمي بالشعب العراقي .
فبعد سيطرة بعض مئات من مقاتلي التنظيم على مدينة كبيرة مثل الرمادي في مايو الماضي ، والفرار المفاجئ والمخزي للجيش العراقي ، ظهرت علامة استفهام كبيرة أمام الرأي العام العراقي والعالمي ، كيف حدث ذلك ؟ وصدمة الحدث نفسه دفعت أوباما نفسه للقول في مقابلته مع مجلة ذي أتلانتك الأمريكية بأنها "تراجع تكتيكي بسبب أن المدينة في وضع هش منذ وقت طويل" ليبرر للناخب الأمريكي سبب ضياع المليارات التي أنفقت لتسليح وتحديث الجيش العراقي الفاشل . فالانسحاب المفاجئ للقوات الحكومية العراقية من القتال، بعدما جعلت مسلحي تنظيم الدولة في وضعية دفاعية كما تواردت الأنباء من المدينة، يجعل الأمر محل تساؤلات عدة؛ فالقوات الحكومية العراقية كانت مدعومة من التحالف الدولي على داعش الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي وفر لها غطاء جوي، إذ تشير مجلة "فورين بوليسي" أنه تم تنفيذ 165 ضربة جوية في الرمادي خلال شهر واحد دعمًا للقوات العراقية في حربها ضد تنظيم الدولة بالمدينة، ورغم ذلك انسحبت القوات العراقية بشكل مفاجئ ودون مبرر تاركة الأرض لتنظيم الدولة .
فهذه الهزيمة الغريبة التي منيت بها القوات العراقية للمرة الثانية أمام تنظيم الدولة بعد هزيمة الموصل ، جعلت مجلة "سترايبس" التي تصدر عن وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون"، تؤكد أن هزيمة القوات العراقية في معركة الرمادي تعد الأسوأ ، وقد وصفت المجلة سقوط الرمادي بالكارثة العسكرية، بعدما وفرت الولايات المتحدة للجيش العراقي كافة المعدات العسكرية المطلوبة والغطاء الجوي للحرب، في المقابل تخلت الوحدات الخاصة العراقية عن هذه المعدات الأمريكية تاركة إياها غنيمة لعناصر تنظيم الدولة كما حدث في الموصل .
ولكن سرعان ما اتضح أن انسحاب الجيش العراقي من الرمادي والأنبار كان مقصودا ومدبرا من أجل إفساح المجال لعمل المليشيات الإيرانية والشيعية " الحشد الشعبي" وشرعنة جرائمها بحق أهل السنّة ، والتخلص من الضغط الأمريكي علي حكومة العبادي من أجل كبح جماحها ، وهو ما يراه البعض بيت القصيد بالنسبة للعبادي، فبينما تضغط الولايات المتحدة على العراق لتنحية الحشد الشعبي من الصورة، تسقط الرمادي ويكون أول استدعاء للحكومة العراقية هو استدعاء للحشد الشعبي للمشاركة في استعادة المدينة،هذا التوازن الذي تريده إيران ومن خلفها العبادي في العراق، يشرعن تواجد قوات الحشد الشعبي على الأرض .
وكما كان السقوط مخزيا وفاضحا ، وتبريره كان استهبالا للشعب العراقي واستخفافا به ، أيضا كان الادعاء بتحرير الرمادي هذا الأسبوع نوعا من الاستهبال والاستخفاف بشعب يعاني من سلطة إيرانية الهوي والهوية لا يهمها إلا إرضاء رغبات السادة والملالي في قمّ وطهران. فرغم الرنّة الإعلامية الكبيرة المصاحبة لحدث رفع العلم العراقي على المبني الحكومي في الرمادي ، والتصريحات الجسورة التي أطلقها العبادي وصهيب الرواي محافظ الأنبار عن دحر قوات داعش وقتال ألف من مقاتليه ، إلا إن الكاميرات لم تنقل للشعب العراقي أي صورة تدعم هذه التصريحات العنترية ، كما أنها لم تفسر للمواطن العراقي من هي الجهة المسيطرة على أحياء ألبو فراج والسجارية والملعب والصوفية والزراعة وألبو علوان وجزيرة الرمادي غيرها من القرى وغيرها من الأحياء التابعة للرمادي التي يدعي العبادي وزلمته الراوي تحريرها!.كما يريد المواطن العراقي أن يسأل نظام العبادي ومن يقف ورائه في طهران وواشنطن عن الأجواء داخل أحياء الملعب والجمهوري والثيلة الشرقية والجمعية وجويبة والزراعة؟ ولماذا جعل إعلام العبادي من سيطرة قوات مكافحة الإرهاب على أحياء التأميم والأرامل والبكر والضباط والحوز والمجمع الحكومي تحريرًا لكامل مدينة الرمادي؟ والإجابة المريرة واضحة وضوح خيانة كل أزلام طهران وواشنطن ، فالرمادي لم يتحرر منها سوى 10 أو 20% على الأكثر من كامل أنحائها ، وذلك بعد أن تم قصف المدينة ب600 طلعة جوية من طيران التحالف خلال فترة وجيزة ، لتدخل المدينة موسوعة جينيس للأرقام القياسية لأكثر مدينة قصفت بالطائرات في العصر الحديث.والحق أن المدينة قد أصبحت أطلالا وخرابات بعد أن تشارك الطرفان ؛ الجيش العراقي، وتنظيم الدولة في تدميرها ، باتباع نفس السياسة ؛ الأرض المحروقة ، فالرمادي شأنها شأن كوباني وتكريت وبيجي، مدمرة بالكلية .
والأدهي من ذلك في مسلسل الاستهبال والاستخفاف الحكومي بالشعب العراقي ، التجاهل الرسمي لمعاناة أهالي الرمادي الشديدة سواء من كان منهم داخل المدينة أو خارجها، فهم الطرف الأضعف في معادلة الصراع، فقد اتبعت الأطراف المتصارعة سياسة الأرض المحروقة في معركة استعادة الرمادي، سواء القصف الجوي لطائرات التحالف والقصف المدفعي للجيش العراقي من جهة، أو تنظيم الدولة وزرعه للعبوات وتلغيم المنازل من الجهة الأخرى، ولم يبق من بيوت الأهالي سوى أنقاضها،معاناة الأهالي بدأت مع دخول تنظيم الدولة إلى مدينتهم ، وخروجهم منها أفواجًا نحو المناطق المجاورة ، هاربين من لهيب المعارك بما عليهم من لباس، متوجهين إلى حضن حكومتهم التي أغلقت ولأكثر من مرة باب بغداد في وجوههم عبر منفذ بزيبز، ليهيموا في مخيمات النزوح بين مناطق العراق المختلفة ، في الوقت الذي يمرح الإيرانيون كيف شاءوا دخولا وخروجا في أي مدينة عراقية شاءوا بلا جوازات أو ثبوتات أو أي شيء ، أيضا عيون عناصر الحشد الشعبي وأيديهم كانت لهم بالمرصاد، فبعد أن أُبعد الحشد عن الاشتراك في معارك الرمادي خوفا من تأجيج حرب طائفية تعقد الموقف الصعب أصلا ، تجمع على محاور المدينة الكثير من عناصر الحشد الشيعي ، ووجد عناصره وظيفة لهم باصطياد الأهالي العزّل ليقعوا فريسة بين اعتقال أو إنهاء حياة، كما حدث في معبر الرزازة المؤدي الى جنوب العراق، حيث صرح مسؤول من الأنبار عن خطف العشرات من أهالي الرمادي عند ذلك المعبر من قِبل عناصر الحشد الشعبي، وهو ما قابلته حكومة العبادي بالتجاهل والاستهبال التام.
والقضية الأهم في مسألة الرمادي ، إنها إحدى تداعيات وتجليات الوضع السنّي القلق والمهمش في العراق ، فقد عاني السُّنة في العراق، منذ الغزو الأمريكي عام 2003، تهميشًا واضحًا، ولم يقتصر ذلك على الجانب السياسي وإنما تعداه إلى الجوانب الاجتماعية والاقتصادية؛ فقد قادت الأحزاب والجماعات الشيعية، بدعم مطلق من إيران يقابله تقاعس عربي وإقليمي ودولي، حملة منظمة تهدف إلى القضاء على أهل السنة، فقاموا بتنفيذ عمليات اغتيال وتهجير واعتقال منظمة، ثم لم يكتفوا بذلك، بل عمدوا إلى محاولة تغيير ثقافة السكان عن طريق تغيير المناهج الدراسية في المدارس والجامعات، بما يضمن بناء جيل محمل بالعقائد والأفكار الإمامية الإثنا عشرية.
وفي المقابل انشق الصف السنّي بعد الاحتلال الأمريكي إلى جماعتين؛ لأولى اختارت النهج السياسي وشاركت في مجلس الحكم، أما الجماعة الثانية فقد اختارت العمل المسلح ضد القوات الأمريكية والقوات العراقية التي تشكلت بعد الاحتلال، على حدٍّ سواء.
وما زاد ترنح الدور السني وضعفه، العداء وعدم التنسيق الذي كان يخيم على العمل السني، ولم تكتف الأحزاب والفصائل السنية بالمناكفات الإعلامية ومحاولة استمالة الرأي العام السني، بل تعدى ذلك إلى الاستهداف المباشر لبعض قادة ورموز العمل السياسي السني.
واليوم بات مستقبل سنة العراق أكثر غموضًا وضبابية بعد دخول تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى العراق، وسيطرته على معظم المحافظات السنية، فرغم تشجيع كثير من أهل السنّة للتنظيم في حربه ضد المليشيات الشيعية ، إلا إن أسلوب ونمطه في الحكم والإدارة لم يرق للغالبية من أهل السنّة ،وقد أدى ذلك إلى نزوح كثير من أهالي هذه المناطق إلى داخل العراق وخارجه، بالإضافة إلى معاناة من تبقَّى منهم اقتصاديًا وصحيًا.
يتم تشكل إقليم شيعي تابع ومُدار من قبل إيران، قوي اقتصاديًا، وغني بالنفط والموارد، وبذلك سيكون هذا الإقليم منفذ إيران العسكري والاستخباراتي على دول الجوار ، مع بقاء الوضع على ما هو عليه سيؤدي أيضًا إلى سيطرة إيران المطلقة على العراق،لذلك يجدر بسنة العراق، وبمساعدة عربية وإقليمية،أن يقوموا بتشكيل بيت سني على غرار "البيت الشيعي"، يستفيد من وجود تحالف سعودي تركي قطري مجابه للمحور الإيراني في المنطقة ، فدعم سنة العراق يمثل دعامة أساسية للحفاظ على أمن المنطقة وحل أزماتها وصراعاتها، فمن يدير الملف العراقي هو ذاته من يدير الملفات: السوري واللبناني واليمني،والوقوف في وجهه في العراق سيضعف أذرعه في باقي المناطق المتنفذ فيها ، وهو ما سيخلق حالة من توازن القوى التي سيمتد أثرها حتمًا إلى دول الجوار،خصوصًا إلى سوريا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق