منازلة «الصائل» الإيراني: للقيادة ثمنها
قطعت السعودية علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع إيران، ومنعت مواطنيها من السفر إليها، بعد الاعتداء على ممثلياتها في طهران ومشهد (احتجاجاً على إعدام نمر النمر)، واقتناع السلطات في الرياض أن الاعتداء حصل بضوء أخضر وتشجيع من النظام الإيراني.
للسعودية الحق، كل الحق، في الغضب من انتهاك حرمة سفارتها وقنصليتها، وهما رمزان سياديّان يتمتعان بالحصانة بحسب المواثيق الدولية.
والحقيقة أن مهاجمة البعثات الدبلوماسية في إيران ليست بدعاً من السلوك الإيراني منذ ثورة 1979 التي أطاحت بالشاه، فقد تكرر ذلك لاسيما ضد سفارات غربية في طهران، الأمر الذي يرسّخ القناعة بأن الدولة الصفوية الإيرانية ليست دولة بالمفهوم الحديث، بل كيان مارق يتصرف بمنطق الميليشيات التي أجاد صنعها وتشكيلها في عدد من الدول الرخوة والمضطربة، واستغلّها لتحقيق مآربه الإيديولوجية والقومية.
جاء قرار الرياض بقطع العلاقات مع طهران في سياق معركتها مع المشروع الإيراني، والذي أشهرته بانطلاق عملية «عاصفة الحزم» في اليمن أواخر آذار (مارس) 2015.
لم يعد في قوس الصبر منزع، هكذا رأت الرياض الردَّ الإيراني الهستيري على تنفيذ حكم قضائي في مواطن من مواطنيها أُدين بارتكاب جرائم خطيرة، فقررت رفع درجة الصراع، ووضع المنطقة كلها أمام مسؤولياتها في مواجهة العربدة الإيرانية.
وبالرغم أن السلطات السعودية أعدمت النمر ضمن 47 شخصاً، معظمهم ينتمي إلى أهل السنّة، لتوحي أن القضاء لم يفرّق بين مواطن وآخر وفق خطوط مذهبية، إلا أن طهران (وحتى بعض الجماعات الحقوقية وجزء كبير من الصحافة العالمية) تجاهلت الرسالة، مركّزة على «الشيخ الشيعي المعارض»، من دون اهتمام يُذكر بجرائم التحريض على العنف التي أُدين بارتكابها.
توقعت الرياض، فيما يبدو، تشنّج طهران، فقررت تصعيد المعركة، وتعبئة الدول الشقيقة والحليفة ضد مشروع عنفي عابر للحدود، ويمتاح من أساطير دينية وقومية.
والحال أن أعمال الشغب ضد الممثليات السعودية، والتصريحات الهائجة التي صدرت عن مسؤولين إيرانيين وعراقيين إثر إعدام النمر، لا تجسّد الاحتجاج على الإعدام فقط، بل تنبي بالقلق الذي يسيطر على المنظومة الصفوية في المنطقة من تداعي مشروعها، وإصرار القيادة السعودية على لجم هذا المشروع وإجهاضه.
يتجلى ذلك مثلاً
في تدوينة للمرشد الصفوي، علي خامنئي، زعم فيها أن «الانتقام الإلهي» سيحلّ بالساسة السعوديين «لأنهم سفكوا دماء شهيد من دون وجه حق»، وتصريح لأحمد خاتمي، عضو مجلس خبراء القيادة في إيران، قال فيه إن «هذه الدماء الطاهرة ستلطّخ أسرة آل سعود، وستمحوها من صفحات التاريخ»، واستنكار نوري المالكي (رئيس وزراء العراق السابق الذي طالما قدّمته قناة العربية بوصفه مقاتلاً عنيداً للإرهاب) إعدام النمر بوصفه من «الممارسات الطائفية المقيتة» التي «ستطيح النظام السعودي مثلما أطاحت جريمة إعدام الشيخ الصدر بنظام صدام»، وتهديد الصفوي العراقي موفق الربيعي (أحد الأولاد المدللين في قناة العربية وجريدة الشرق الأوسط) في مقابلة مع قناة الميادين بأن العنف سيكون الرد على «الفيروس الوهابي» في شرقي السعودية والبحرين ولبنان، ودعوة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر إلى احتجاجات في دول الخليج والعراق، وتحريضه «شيعة السعودية» على الرد «ولو بالتظاهرات السلمية»، بحسب ما نقلته رويترز.
لا تشي هذه الردود الموتورة برمزية النمر في المنظومة الإرهابية الشيعية فحسب، بل تجسّد حال الصدمة التي أصابت هذه المنظومة من «المفاجأة» السعودية، ومن قدرة «المارد» السعودي على تجييش المنطقة، بل العالم الإسلامي برمتّه، ضد التغول الإيراني البشع والقبيح، والذي نافس الصهيونية في دمويته واحتقاره للإنسان العربي. قررت السعودية في لحظة تاريخية أن تتصدى للمشروع الإمبراطوري الصفوي بالإنابة عن المنطقة، ونشطت في تشكيل تحالفات كان أهمها «مجلس التعاون الاستراتيجي» مع تركيا. وبعد قطعها العلاقات مع طهران، تداعت دولٌ عدّة باتخاذ خطوات مماثلة كالبحرين والسودان.
لم تعوّد السعودية ساسة إيران على توجيه الصفعات المؤلمة، وربما كان هذا سبباً آخر للهستيريا التي اتسّمت بها ردودهم.
لكن إيران أدركت بعد عاصفة الحزم، وإعدام عميلها النمر، أن السعودية لن تساوم على أمنها وأمن المنطقة، وأن ثمة تاريخاً جديداً يُكتب، وأن الوقت قد حان لتحجيم العلو الفارسي، وعودة الملالي المهجوسين بالطائفية إلى حوزاتهم، وانتهاء العبث بمصائر شعوب المنطقة والتفكيك المنهجي لنسيجها الاجتماعي، من خلال ماكينة التشيع الصفوي وميليشياتها الدعائية والعسكرية.
عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي، عبّر عن صدمة القادة الإيرانيين بقوله إنهم هُزموا في اليمن، ولن يكون بمقدورهم إنقاذ الأسد في سوريا.
يبدو أن صانع القرار السعودي قد اتخذ قراراً بمغالبة الإرادة الدولية القاضية بتمكين إيران من الهيمنة على المنطقة. ولبعض الحكومات الصديقة للسعودية الحق في أن تختلف مع بعض سياساتها، لكن لا يسعها أن تختلف معها على ردع الاحتلالات والتدخلات الإمبريالية المتوحشة التي تنفّذها إيران في بلدان عربية وإسلامية عدّة.
قدر الرياض أن تقود الأمة إلى منازلة «الصائل» الإيراني، وتعبئة الحكومات في البلدان الإسلامية ضده، وصولاً إلى تعليق عضوية إيران في منظمة التعاون الإسلامي-مجهود كبير يعيد إلى الأذهان الزيارات التي قام بها الملك فيصل بن عبد العزيز إلى 29 دولة إِفريقية قُبيل حرب 1973، قطعت هذه الدول على إثرها العلاقات مع الكيان الصهيوني.
إنها الرياض، ولولا المشقة ساد الناس كلّهمو.
• @LoveLiberty
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق