صفر مشاكل على كوكب الـ "فيسبوك" السعيد
أحمد عمر
أعترف أني تعلمت ببطء، ودفعت آلاما نفسية باهظة وأنا أتلمس دربي الوعر في الحياة، وأني متأخر عشر سنوات عن عمري الحقيقي. تتأخر سوريا نصف قرن عن عمرها الديمقراطي، الذي غادرته مع انقلاب البعث في ثورة الثامن من آذار، مصر ستتأخر أربعين سنة كما قال الفيلسوف السيسي.
خدعنا الرجل عندما كان وزيرا للدفاع، وركب طروادة يونيو.
أعترف أني تعلمت بعض آداب ومناسك الفيس بوك الصحيحة، وأولها تجنب الانخراط في جدال مع أصدقاء بيننا وبينهم معاهدات حسن جوار، وبسبب سماكة جدران الصهريج الكبير في كوكب الـ "فيسبوك"، وغياب لغة العيون والوجوه، تكثر عبارات التبجيل والاحترام والتوطئة والاستئناس مثل: يا صديقي، يا عزيزي، يا حجة، يا روحي (صباح فخري)، شكرا لمرورك... فالحوادث تكثر على طرقات الـ "فيسبوك" المجلدة بثلوج الغربة الافتراضية، وقد خسرت أصدقاء كثرا بسبب ضربة إعجاب أو طعنة تعليق فلا نامت أعين الكفار، أما المشاركة فتتسبب في كوارث قطع العلاقات بين صديقين شقيقين، وقد تسبب لي الطلاق ذات يوم، وهذا حديث آخر.
وأني أطمح إلى كتابة رواية عن الـ "فيسبوك" تشبه روايات رجاء عالم السريعة، فهي روايات أخبار. ستكون علامات الترقيم فيها رموز الـ "فيسبوك".
مؤخرا اشتركت مع بعض الأصدقاء في مجموعة على السكايب سميناها " الديوان" ندير فيها حوارا ثقافيا كل أربعاء، عددنا سبعة من ساموراي الثقافة.
أشار مرة أحد الأصدقاء إلى مقال لي، فاكتشفت أن الزملاء الآخرين لم يقرأوه، فقررت من ساعتها إرسال مقالاتي إلى أصحابي الساموراي السبعة، ولعلي اقتديت ببعض مشاهير الكتاب الذين يرسلون مقالاتهم إلى معارفهم عبر البريد الإلكتروني، مع أنها منشورة في صحف ومواقع، فالزحام شديد في مجرة الشبكة العنكبوتية التي تغلي بالمعلومات والقصص والصور والأفلام. ومحطة البريد الإلكتروني أكثر هدوءا.
وكنت في كل بريد ميمون، أرفق رسالتي بعبارة مرحة؛ مثل:
خدمة توصيل المقالات إلى البيوت، مقالات ديلفري، خدمة القراءة بالزور والإكراه . يخالجني إحساس أن إرسال مقال منشور في مواقع وصحف متاحة فيه إكراه خفي... فوقع ما لم يكن في الحسبان، وما لا ينزل في ميزان أو قبان، وهو ما سأؤجله إلى ختام المقال من أجل التشويق والألوان الخلابة.
خسرت قبل هذه المرة صديقا جارا، وهو شاب يقرض الشعر الحديث، وما أسهل قرض الشعر الحديث، فهو أكثر هشاشة من البسكويت هذه الأيام، العدة اللازمة هي بعض مهارات التركيب والمونتاج اللغوي، وبعض خبرات القراءة والنحل والسرقة... فيكون التحصيل جملا وعبارات غريبة مثل (كاتدرائيات الرمان، حبيبة الناعورة الساكتة...) الشاب يقرض شعر الحب فقط لا غير، الحب ميناء سهل، وهو تكئة العاجز حسب قول شهير لمحمود درويش.
الصديق أصغر مني سنا، ولا يخاطبني إلا بلغة التبجيل، وله خمسة أضعاف ما لي من الأصدقاء الذين لا تربطنا بهم سوى دماء "اللايك" ووشائج "الكومنت"، وعصبيات المشاركة، ونمزح كثيرا سويا حقا وباطلا.
في إحدى المرات كتبت له على حاشية الخاص: ما شاء الله، تضع قبلات اللايك على حوائط الشبيحات يا جار الرضى!
وكان قد أبدى إعجابه بجملة لشاعرة شبيحة تقف على الحواجز وتدفن الثوار، فطاش صوابه وبدأ الشتم، وسرعان ما بنى بيني وبينه حائط برلين وحذفني حذفا، فهو يغار على أعراض وشرف صديقاته الإناث، فجلست أندب نفسي على خسارتي أحسن وأوفى الأصدقاء!
هناك تحذير شهير مضمر في قواعد المرور على الطرقات السريعة يقول: ممنوع التكلم مع السائق، طرقات الـ "فيسبوك" سريعة، وقد ارتكبت خطأ التكلم مع الشاعر المغرور. الكلام فضة لجين والسكوت ذهب منضب.
قلت إني أطمح إلى كتابة رواية اسمها "حدائق الـ "فيسبوك" وحيطانها"، ثمة قصة صداقة مع ناشط سوري لطيف ومرح، وسجين سياسي سابق، اشتهر بعد ظهور لامع على الفضائيات، ثم خبا، له آلاف مؤلفة وجيش جرار من المعجبين، لا يصطلى له بنار، وهو مهموم بالثورة، وأخبارها لحظة بلحظة، وجدت له في أحد الأيام إشعارا بعد مباراة برشلونة وريال مدريد، يقول فيه سعيدا بانتصار فريق على آخر: تم الدعس على ريال مدريد، وتحت الإشعار وسم لفريق برشلونة، فوقعت في ما كنت أحذر نفسي منه، وتجاوزت ما ألزمت نفسي به من صمت ذهب فخاطرت وشاركت الإشعار، وكتب تحت المشاركة تعليقا: هذه هي الأضرار الجانبية للثورة السورية، أخشى أنه اليأس. فغضب غضبة أمريكية غير مضرية، ودار بيننا حوار على حاشية الخاص، وفمه يرغي ويزبد، وقال لي إنه لا يعرف كيف يرضي الشعب السوري، فإذا ما صدر لنفسه صورة مع خطيبته نال ما نال من تنديد وشجب، وإذا ما صدر صفحته بصورة للكوسا محشي التي طبخها مع عروسه، خرجت مظاهرة فيسبوكية تنديدا بطبخته التي تعب فيها في واشنطن .
معهم حق فالشعب يموت في الغوطتين من الجوع وهذا استفزاز لا يليق بناشط وثائر.
فقلت له بلطف وحلم الأحنف بن قيس - يا صديقي - لك الحق، فأنت مغترب في أمريكا، ويحق لك الاحتفال بعروسك وعمل ولائم من الكوسا محشي والمكدوس والأوزي، لكن وجدت أنه من غير اللائق أن تحتفل بانتصار ريال مدريد، وهو فريق الشيخ الشبيح شلاش، سُرقت يا صديقي، فهددني بفضح هذا الحوار على الملأ، ففوجئت بسوء طباعه، وقلت: لا أنصح بذلك، ولكن افعل ما بدا لك، وأنا واثق أنه سيخسر الرهان إن فعل، فرماني من فوره في غيابة جب العزل الصحي، وحذفني من قائمة الأصدقاء، فعدت مشيا إلى الدار مدحورا.
أعود إلى صديقي هاني الموسوس زميل مجموعة "الديوان" الثقافية، الذي أرسل لي رسالة في زجاجة كرتونية عبر أمواج الأثير، وهو يطلب مني بلطف حذفي من قائمة الأصدقاء، لأنه في ليلة رأس السنة شرب من رحيق الكروم، وعمل استخارة مع شيطان الشعر، وأقسم ألا يقرأ شيئا بالزور، فأرسلت له رسالة جوابية لطيفة فيها قبلات على الخد وابتسامات من رموز مارك زوكربيرغ، وديّات وهدايا من الورد الافتراضي، أقول له فيها: صديقي العزيز الحبيب الموقر،" بالزور" مزحة، أقسم برب الكعبة أني كنت أمزح، فرسالتي ليس معها مخابرات يحملون العصي، ولا ساموراي يجبرونك على قراءة مقالي، وشخصيا تأتيني رسائل كثيرة من كتاب يرسلون قصصا وأشعارا حديثة ثقيلة الظل، فأضرب عنها صفحا وأحذفها من وراء حجاب، حرصا على حسن الجوار، وأجري عملية جراحية في قلب شبكة العنكبوت "جنك" وأرسلها في مزراب ديجتال إلى قبو في البريد الإلكتروني، ثم في نهاية الشهر أرميها في القمامة الكرتونية، ويمكنك أن تعمل الشيء نفسه، وحلفت له أني لا أنوي أن أجعله يقرأها بالزور، وتذكرت حكاية مجموعة قصصية طبعتها بالسر، ولم أجرؤ على بيعها في دور النشر، فاغتنمت فرصة إحدى الأمسيات الثقافية السرية في دمشق، وجعلت من نسخها عمارة على المنصة، وكتبت شاخصة بخط الرقعة تقول: "مجانا، اقرأوا لله يا محسنين".وأنوي أن أصدر مجموعتي القادمة وأكتب على غلافها الداخلي: حقوق الطبع غير محفوظة.
فرد عليّ برسالة يقول فيها إني امرؤ مخالقتي صعبة، وغليظة، ولا أفهم في الذوق العام، فاكتشفت أنه من الصعب، بل المستحيل العيش في هذا الكوكب ب"صفر مشاكل"..
أحيانا يعاقبني أصدقاء قدماء حال بيننا موج الثورة، بحصار الإعجاب، فيمنعونيه.
سأصير على العظم مثل شعب مضايا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق