مع ابن خلدون وعباس العقاد
محمد جلال القصاص
باحث دكتوراة علوم سياسية
عدد من الأفكار الرئيسية التي وردت في كتابات عباس العقاد قادمة من مقدمة ابن خلدون مع بعض التعديل، من ذلك الحديث عن انحسار تواجد الأنبياء في مناطق دون مناطق. عند ابن خلدون أن طباع الناس وأخلاقهم تابعة للبيئة التي يسكنون فيها، وقد أطال النقل عن غيره في العمران (الأقاليم السبعة) وعن أحوال الناس فيها وكيف أن كل بيئة تصبغ من عليها بصبغتها، يقول: الأنبياء والحكماء والممالك المتزنة وسادة البشرية يتواجدون حيث المناخ المعتدل. وحيث ينحرف المناخ، بحرٍ أو برد، فالطيش والنزق كما الحيوانات! يقول: الهواء الحار والهواء البارد يحدد ألوان الناس وطباعهم.!!
وغير صحيح. فالبلدان الأفريقية ليست جميعها صحراء جرداء، وإنما كثير منها مليء بالغابات والأنهار؛ في حين أن شبة الجزيرة العربية صحراء جرداء شديدة الحر، وتهب عليها ريح كأنها السموم، ولا يلطف جوها البحر كما ادعى، فالرطوبة المرتفعة تكاد تخنق من يسكن على الشاطئ، ومع ذلك في كل بقعة منها وجدت رسالة، ومن الجنوب للشمال: عاد (بين اليمن وعمان اليوم)، وخاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم- بعث في الرمضاء بين جبالٍ سوداء.. في وادٍ غير ذي زرع، وثمود في المدائن يسكنون الجبال وتحيط بهم كثبان الرمال. والتتار سادوا وهم أهل بداوة ومناخٍ شديد الانحراف، وكذا: ساد أهل الشمال (السوفيت وأوروبا) بالأمس واليوم وهم أهل مناخٍ شديد الانحراف.
هؤلاء الذين ينبشون عن الأقدمين بحثًا عن بداية الخلق أو التاريخ يقرءون القديم بلا أنبياء، ونحن (من مصدر معرفتنا.. الوحي) نقول بأن كل الأمم جاءها نذير |
والقول بأن الأنبياء والعمران والممالك حيث المناخ المعتدل غير صحيح فكل أمة سادت يومًا، أو في كل بقعة من الأرض كانت حضارة يومًا ما، وكل الحضارات كان منشأها نبوة.. يُصلح الله حال الناس بأنبياء ثم يهلكون بذنوبهم. وفي التنزيل: (وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)، (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرً)، وما قد ظهر من آثار الغابرين يبين ذلك، ففي استراليا اكتشفوا حضارات قديمة، وفي أمريكا الجنوبية وجدت حضارات تحمل ذات الخصائص (أهرامات وكتابات قديمة...إلخ).
وهؤلاء الذين ينبشون عن الأقدمين بحثًا عن بداية الخلق أو التاريخ يقرءون القديم بلا أنبياء، ونحن (من مصدر معرفتنا.. الوحي) نقول بأن كل الأمم جاءها نذير، يقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)، ويعصي الناس ربهم فيهلكون. فكل الأمم جاءها نذير ولم ينحصر الأنبياء حيث المناخ المعتدل كما يدعي ابن خلدون، أو في المدن الكبرى ومفاصل التجارة كما يدعي عباس العقاد.
إن التاريخ صراع بين الحق والباطل، صراع بين الأنبياء وأتباعهم والشياطين وأوليائهم. كان الناس سواء، ثم ظهرت المعاصي فالشرك بوحيٍ من الشيطان، والهدف الرئيسي للشيطان أن يضل حزبه عن النعيم المقيم ويدخلهم عذاب الجحيم، قال الله: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ). وجاء الأنبياء لتصحيح الانحراف ولبيان أن صلاح الدنيا باتباع ما أنزل الله على رسله من الكتاب والحكمة، قال تعالى: (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). وأن الإنسان في الدنيا للبلاء، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، (إنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ)، وأن الفوز في البعد عن النار ودخول الجنة، قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق