العرب بين تركيا أردوغان واليمين الغربي
إبراهيم يسري
بعد تعرضه للخطر في محاواة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/ يوليو الماضي، تمكن الرئيس أردوغان في 16 نيسان/ أبريل الجاري من الحصول على موافقة الشعب التركي على تعديلات في الدستور التركي، تقضي بالتحول نحو النظام الرئاسي، حيث يتمتع رئيس الجمهورية بصلاحيات تنفيذية واسعة. ومن المقرر أن يطبق النظام الرئاسي الجديد مع الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقرر إجراؤها في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، وفقا للتعديلات الدستورية الجديدة.
ولعلنا لا نستطيع الفصل بين هذا الحدث التركي وبين ما يجري في العالم العربي من تطورات جذرية مخضبة بالدماء ومعاناة الملايين. فليس جديدا أن نشير إلى العلاقة الاستراتيجية والتاريخية بين تركيا والعرب، فقد سعت الدولة العثمانية لجلب كافة المسلمين تحت جناحها واستعادة الخلافة الإسلامية، فأطلق السلطان عبد الحميد الثاني شعار "يا مسلمي العالم اتحدوا". وكان إنشاء سكة حديد الحجاز الممولة من المسلمين في كافة أنحاء العالم تقريبا، أفضل ترجمة لسياسة السلطان عبد الحميد في تطبيق خلافة إسلامية تشمل كافة المسلمين برعايتها.
وقد استطاع العثمانيون لقرون عديدة، المحافظة على علاقة مستقرة نسبيا بينهم وبين المجتمعات الإسلامية التي كانت تحت سيطرتهم، وساعد ذلك في الصمود بوجه محاولات ممالك ودول أوروبا لانتزاع الأراضي من الإمبراطورية المترامية الأطراف. ولم يتمكن الأوروبيون من احتلال أجزاء من الدولة العثمانية حتى عام 1908م، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. ورغم قيامه بإصلاحات عديدة، فإنه لم يستطع أن يسلم من السخط الناتج عن تكريسه للسلطة في يده ولربما نستطيع القول بأن شمولية السلطة سمة من سمات الحكم في تركيا؛ تتمثل في حكامها وأبرزهم عبد الحميد الثاني وكمال أتاتورك ويلحق بهم الآن رجب طيب أردوغان.
والمعروف أن تركيا بدأت تعاني من أسباب الضعف، واضطرت إلى توقيع معاهدة لوزان في سويسرا (1923م) بين تركيا -وريثة الدولة العثمانية- وبين القوى المنتصرة في الحرب؛ التي حددت حدود دولة تركيا الحديثة، وتخلت عن أي مطالبات في المشرق العربي الذي احتلته بريطانيا وفرنسا.
وانتهى الأمر بأن نأت تركيا خلال القرن العشرين الميلادي بنفسها عن قضايا المنطقة والعالم العربي والإسلامي مع الغرب بشكل عام، وكان ذلك الحال حتى عام 2002م، عندما أتى حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في البلاد، وهو حزب سياسي له جذور إسلامية، وبدأ بانتهاج سياسة أقرب إلى قضايا العالم العربي والإسلامي.
وتختلف سياسات أتاتورك الذي يعتبر مؤسس تركيا الحديثة ذات التوجه الأوروبي، عن سياسات أردوغان الذي أدرك حقيقة أن أوروبا المسيحية لا يمكن أن تقبل تركيا كعضو في الاتحاد الأوروبي، وأن البديل عنده هو تنمية واستثمار تدين الشعب التركي في العودة للعالم العربي والإسلامي للنهوض به تحت قيادتها.
وتحمل نتائج الاستفتاء التركي التي جاءت مؤيدة للتحول نحو النظام الرئاسي؛ مجموعة من الدلالات والتداعيات المستقبلية على الداخل التركي والسياسة الخارجية التركية، والمنطقة العربية بأسرها.
ومن التداعيات السلبية، رغم فوز أردوغان، غياب التوافق المجتمعي حول التعديلات الدستورية: حيث تتقارب نسبة المؤيدين للتعديلات الدستورية (51.4%) مع الرافضين لها (48.6%)، وهو ما يفتح الباب لمعارضة قوية لسياسة رئيس الجمهورية، وشخصنة السياسة التركية، والعودة إلى هيمنة الرئيس التركي على عملية صنع القرار، وهو ما يُدخل تركيا في مرحلة حكم "الرجل الواحد" مرة أخرى.
ولعل أقرب التداعيات المحتملة لجمع مقاليد السلطة في يد أردوغان هو تزايد الدور التركي في المشرق، ومن المرجح أن تشهد السياسة الخارجية التركية أنشطة تركية متزايدة في هذا الاتجاه.
وعلى الجانب الأوروبي، قد يهدف أردوغان إلى تهدئة العلاقات التركية-الأوروبية. ولكن ذلك يتوقف على مواقف القوى الأوروبية، مع ازدياد نفوذ الأحزاب اليمينية. ويتضح هذا من تصريحات رئيس المفوضية الأوروبية "جان كلود يانكر"، والممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤوون الخارجية "فيدريكا موغريني"، والمفوض الأوروبي للسياسة الأوروبية للجوار ومفاوضات التوسع "يوهانس هان"، بالإضافة إلى رغبة بعض القادة الأوروبيين في استخدام ورقة التصعيد ضد تركيا لجذب الأصوات اليمينية المتطرفة التي تستغل العداء للمهاجرين والمسلمين؛ لرفع شعبيتها بين الناخبين الأوروبيين، ما ينذر باستمرار التوتر في العلاقات بين الجانبين، وإن كان أقل حدة مما كان عليه وقت الاستفتاء.
وهكذا يتوقع أن تمر تركيا إلى مرحلة جديدة تحت هيمنة الرئيس "رجب طيب أردوغان"، كما سينعكس أيضا على السياسة الخارجية التركية لتصبح أكثر تفاعلا وانخراطا في قضايا المنطقة ذات التماس المباشر مع الأمن القومي التركي، ويأتي على رأسها القضيتان السورية والعراقية بعدما انتهى أردوغان من تحقيق هدفه في التحول نحو النظام الرئاسي.
ولكن تطورات الأوضاع تنبئ عن وقوع أردوغان تحت حصار خطير لا يستهان به في الداخل والخارج، إلا أنه يمارس سياساته الخارجية بمرونة ملحوظة بين الدول الغربية وبين روسيا، وغيرها من الدول الفاعلة، مثل الصين والهند من جهة، وأن يسعى إلى ترصين وتقوية التعاون مع الدول االعربية والدول الإسلامية الآسيوية في أندونيسيا وماليزيا وباكستان. ولكن اهتمامه الأول، جريا على دروس التاريخ، مع الدول العربية.
فقد نجح في إرساء نوع من التعاون مع السعودية، والتحالف المرن مع قطر، وعلى العرب أن يقيموا سياساتهم مع تركيا باعتبارها قوة إقليمية كبرى يمكن أن يستعان بها في تخفيف الهجمة الغربية الشرسة لإعادة تقسيم المنطقة بعد 100 عام من سايكس–بيكو، كما أنها كدولة سنية ستساعد الجهود العربية في الحد من آثار الهجوم الإيراني القوي في السيطرة على الخليج والانتشار الشيعي في الدول العربية. ومن هنا ستصنف الدولة المتباعدة أو الرافضة للتعاون مع تركيا بالانحياز للعالم الغربي وربيبته إسرائيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق