حل الإخوان المسلمين ليس حلًا
محمد جلال القصاص
باحث دكتوراة علوم سياسية
مخرجات العقول ترجمةٌ لما تراه العيون، وترجمةٌ لما استقر في القلوب، وكشفٌ عما يدور في العقل من أفكار. فزاوية الرؤية والمخزون الفكري وطبيعة النفس عواملٌ تشكل الرؤية الكلية للإنسان. لذا حين ينطق أحدهم، وخاصة في الأمور العظام، فلا تسلم له قبل أن تفتش عن زاوية الرؤيا، وعن نفسيته: مطمئنة تطلب الأجر بالنصح لله ورسوله وعباده المؤمنين؟ أم أمارة بالسوء ترتدي ثوب الناصحين وهي من المنافقين؟، وعن عقله: كيف يربط بين الأفكار؟ ومن حينٍ لحين، يبرز بعض العقلاء يرتدي ثوب الناصحين. والعقل كثير، وكل عند نفسه ناصح أمين، فلا تكاد تشك في عقل من يتكلم أو إرادته الخير وإنما في مخزونه الفكري.. في "زاوية الرؤيا" التي ينظر منها.. في درايته بمآلات الأمور..
الأمر يتعلق بحلِّ جماعة الإخوان المسلمين، تحديدًا بأطروحتين قديمتين يعاد طرحهما أو الحديث عنهما من حينٍ لحين. ظهرتا أولًا في الثمانينات من قطر ومن الكويت، كلتاهما تنادي بحل جماعة الإخوان المسلمين، وكل الجماعات، بمعنى القضاء على صيغة الجماعة. والتي خرجت من قطر قدمت فعلًا بأن أقدمت على حل الجماعة فعلًا. وكلما تأزم العمل الإسلامي استعادوا هاتين الأطروحتين وتنادوا لحل جماعة الإخوان المسلمين وكل الجماعات الإسلامية؛ والسؤال: هل حل جماعة الإخوان المسلمين، وكل الجماعات والكيانات الأخرى يمثل حلًا لمشاكل العمل الإسلامي المعاصر؟ الإجابة عند كثيرين: نعم. يمثل حل الجماعات حلًا. وحين تدور حول هذه الأطروحات التي تنادي بحل الجماعات وتدقق النظر فيها وفي المؤيدين لها مرة بعد مرة، تجد أنهم لا يقدمون حلًا بل يحفرون حفرةً جديدةً للعمل الإسلامي، وهذه ثلاثة تأملات:
الأولى:
الأطروحة التي خرجت من قطر بقلم ولسان الدكتور جاسم سلطان تطالب بالقضاء على جماعة الإخوان وكل الإجماعات تطورت في اتجاه الدمج المعرفي مع الغرب. بمعنى أن صاحب هذه الأطروحة تبنى النظرية الغربية التي تقول بالتطور المعرفي، وأن ما وصل إليه الغرب الآن هو "نهاية التاريخ". بمعنى أن التاريخ يسير في خط مستقيم.!! والله يقول: "وتلك الأيام نداولها بين الناس". ومن يقرأ في كتاب الله ساعة يعلم أن الأمم سادت ثم بادت، قال الله: (وعادًا وثمود وأصحاب الرس وقرونًا بين ذلك كثيرًا، وكلًا ضربنا له الأمثال وكلًا تبرنا تتبيرًا). ومن قرأ في التاريخ ساعة يعلم أن الأمم تستبدل، وأن دوام الحال من المحال، وهذا الأمر مشاهد للعيان فقد كان السوفيت نراهم بأعيننا، وكان الإنجليز والفرنسيين في كل مكان، ولابد أن الحاضر ذاهب.
الأنظمة التي تحكم المسلمين إلى اليوم جزء لا يتجزأ من المنظومة الغربية. هكذا حجم التحدي. وهو تحدي فعال، ومتطور، ويقظ، ويخوض حربًا عالمية منذ عشرات السنين يستهدف بها الصحوة الإسلامية، ما يسميه "الحرب على الإرهاب" |
العجيب أن صاحب هذا الطرح حين يحكي تاريخ البشرية (في محاضرات السودان) لا يحكي إلا التاريخ الأوروبي، وبالرواية الظالمة التي تبنونها هم. يقول: كان الإنسان بدائيًا همجيًا، ثم راعيًا للماشية، فزارعًا للأرض، ثم تاجرًا، ثم صانعًا، ثم تكنولوجيًا "متحضرًا".. بالضبط كما يقولون. وعندنا في كتاب ربنا وسنة نبينا أن أول البشر كان نبيًا معلمًا، قال الله: "وعلم آدام الأسماء كلها".
وليت هذه الأطروحة توقفت عند هذا الحد فقط؛ بل انقلبت على التاريخ الإسلامي تنكره وتحاول إثارة الغبار حوله، تقول لم يقم إلا عشرين عامًا (إلى أن بدأ الخلاف بين الصحابة)، وتنكر آلاف السنين من الحضور النظري والعملي للمسلمين. فهذه المطالبة بحل الجماعة -كطريقة من طرق العمل الصحوي- لا يقدم حلًا. بل يأتي في سياق القضاء على المشروع الصحوي الذي يرمي إلى دورة تاريخية جديدة تنهي سيطرة العلمانية وتستهدف إعادة استئناف الحياة الإسلامية من جديد.
الثانية:
والأطروحة الثانية التي طالبت وتطالب بحل جماعة الإخوان المسلمين خرجت من الكويت من شخص الدكتور عبد الله النفيسي قديمًا وتتجدد، وهي في مسارٍ آخر، ترفض أداة العمل (الجماعة) وتطالب بأداة جديدة للعمل الإسلامي وهي أداة التيار الضاغط. وهذا الرأي رؤية جيدة للترشيد والتصحيح، فالصحوة الإسلامية بحاجة للتواجد في صيغ أخرى غير الجماعة وهي صيغة التيار، ولكن هذا لا يستدعي حل الجماعة كصيغة، أو بالأحرى التجمع حول حل الجماعة كهدف أولي، بل قد تدخل الجماعة برمتها في التيار، أليس كذلك؟ وقد كان هذا هو الأولى بها في المرحلة السابقة والحالية. وأعتقد -من خلال متابعة أطروحات الدكتور النفسي- أن ما يقصده لا يبعد عن تعقيبي هذا على قوله.
الثالثة:
جيل الوسط في الحركة الإسلامية وخاصة مصر ومن يظهرون في الإعلام. يظن هؤلاء أن فساد النخبة.. أو فشلها يستوجب التخلص منهم ومن الأدوات التي يعملون بها (الجماعة). وليسوا مخطئين جملةً، ولكن ثمة تفاصيل لابد من الوقوف عليها، من أهمها:
* فساد النخبة أو فشلها لا يكفي في التعامل معه تغيير الأشخاص فقط، وإنما يستوجب التوجه لإعداد جديد للنخبة الإسلامية، وليس -فقط- تبديلًا للأشخاص المسئولين بانتخابات ونحوه، فالواقع أن جيل الوسط لا يختلف كثيرًا عن جيل "الشيوخ". بل حين تقرأ حال مَن يتصدرون العمل الصحوي الآن وهم في شبابهم ستجد أنهم كانوا أكثر حماسة وتضحية من الشباب اليوم. وقد لا يستدعي الأمر تغيير الأشخاص. بل فقط برامج إعادة تأهيل وكل في مكانه. ولن نحتاج أكثر من عامين إعادة تأهيل حتى تظهر نتيجة جيدة، والخط العام لإعادة التأهيل هو إيجاد تخصصية في العمل الإسلامي، تخصصية دقيقة وعميقة. فالفرد الوظيفي.. المحترف هو الذي سيحدث نقلة نوعية في صحوتنا.
الواجب الآن هو إعادة تأهيل من بالحركة الإسلامية في اتجاه إيجاد تخصصية دقيقة، أو في اتجاه إيجاد فرد وظيفي يتقن حرفة معرفية أو يدوية، وكل يعمل بما يقدر عليه، أو كل إلى ما يحسن أو إلى ما يحب |
* أن تعثر الحركة الإسلامية لابد أن نستحضر حال قراءته وتشخيصه العامل الخارجي (الإقليمي والدولي، والعولمي)، فالصحوة الإسلامية نشأت كرد فعل على سيطرة الغرب على الخلافة الإسلامية، ونشأت والأمة ممزقة وبلا إمكانات وفي يد عدوها، ونشأت والغرب كما لم يرى نفسه قط في التاريخ: كلمته مجتمعة.. متحد.. يملك السلاح والمال والسيطرة التامة على بلاد المسلمين. كل أدوات السيطرة بيديه. والأنظمة التي تحكم المسلمين إلى اليوم جزء لا يتجزأ من المنظومة الغربية. هكذا حجم التحدي. وهو تحدي فعال، ومتطور، ويقظ، ويخوض حربًا عالمية منذ عشرات السنين يستهدف بها الصحوة الإسلامية، ما يسميه "الحرب على الإرهاب". ومع كل هذا فإن الصحوة الإسلامية لا تتجه إليه بالقراءة والفهم فضلًا عن تطوير أدوات للتصدي!!
* والعدد مهم، فكثافة النخبة المتخصصة مطلب ضروري، وذلك أنه أمان للتحولات المفاجئة من الخارج أو الداخل.
وبعد: هل صيغة الجماعة تصلح؟
تصلح ولا تصلح. تصلح لأشياء ولا تصلح لأشياء، وعامة المنتسبين للحركة الإسلامية ليسوا منظمين في جماعة، وإنما أفراد، والمطلب الآن هو إيجاد فرد وظيفي. يتقن حرفة، معرفية أو يدوية.. يتطور هذا الفرد لجماعات وظيفية.. تتطور هذه الجماعات لظواهر اجتماعية، ثم يأتيها التنسيق الحركي لمواجهة التحديدات ومن ثم السيطرة. في جملة واحدة: الواجب الآن هو إعادة تأهيل من بالحركة الإسلامية في اتجاه إيجاد تخصصية دقيقة، أو في اتجاه إيجاد فرد وظيفي يتقن حرفة معرفية أو يدوية، وكل يعمل بما يقدر عليه، أو كل إلى ما يحسن أو إلى ما يحب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق