تركيا: الرجل لم يعد مريضاً!
أحمد بن راشد بن سعيّد
كان يا ما كان، في آخر الزّمان، أنّ رجلاً كان مريضاً فتعافى، فغضبت عجوزٌ كانت ذات يوم سبباً في إمراضه حتى مزّقته إرباً إرباً، وطفقت تولول وتشقّ جيبها، وتدعو بالثبور، وعظائم الأمور، فلم تكن تتوقّع أن ينهض ذلك الرجل، ويصبح كياناً آخر يضجّ بالحيويّة، وتبدو عليه نضرة العافية.
تلك مقدمّة تصلح لسرد حكاية أوروبا مع تركيا هذه الأيام.
لقد تحوّل شأن محلّي تركي، وهو الاستفتاء على تعديلات دستوريّة، إلى قضيّة ساخنة شغلت القارّة العجوز التي استنفرت بعض حكوماتها للتشكيك في التعديلات، وتوجيه الاتهامات إلى الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، بالسعي نحو تركيز السلطات في يده، والإجهاز على الديموقراطية في البلاد.
الحملة التي سبقت الاستفتاء كانت متشنّجة وغير متّسقة مع الأعراف الدبلوماسية والمعايير القانونية، ولفتت الأنظار إلى ازدواجيّة المعايير الديموقراطية الغربية عندما يدخل «شيء» مسلم في قضيّة أو نقاش. لكنّ ما حدث بعد الاستفتاء، وهو ما كانت أوروبا تخشاه، كشف عن «الروح الصليبية»، كما أشار محقّاً الرئيس أردوغان، وهي الروح التي ظلّت ضاربة في عمق أوروبا منذ القرون الوسطى.
لندع جانباً المواقف الرسميّة من نتيجة الاستفتاء، ولننظر مثلاً إلى بعض افتتاحيات الصحافة البريطانية التي كان يُفترض أن تكون أكثر توازناً، وألا تنساق خلف التاريخ والتصوّرات النمطيّة.
صحيفة «الإندبندنت» قالت إنّ هزيمة المحاولة الانقلابيّة في العام الماضي كانت هزيمة «للتقليد العلماني في تركيا»، البلد الذي أصبح «دكتاتورية منتخبة»، و «انسحب من العالم الديموقراطي»، بحسب تعبير الصحيفة التي أضافت أنّ إقرار الاستفتاء سيدفع الرئيس أردوغان إلى مزيد من «إرهاب المحاكم، والصحافة، والأحزاب المنافسة»، مؤكّدةً أنّ حكمه «يُنظر إليه نظرة صحيحة بوصفه غير شرعي».
صحيفة «الغارديان» زعمت أنّ «تركيا دخلت فصلاً جديداً مرعباً ولا يمكن التنبؤ به»، حيث سيؤدّي تطبيق التعديلات الدستورية إلى «إعادة تشكيل تركيا لتصبح سلطنة، بعد مرور قرن تقريياً على تأسيس أتاتورك الجمهوريّة على أنقاض الإمبراطورية العثمانيّة». وتضيف الصحيفة أنّ «تحوّل تركيا إلى الاستبداد اكتمل تقريباً الآن» مشيرةً إلى القيادة التركية بوصفها «متشدّدة دينيّاً أكثر من الديموقراطيين المسيحيين في أوروبا»، مستدلّة بقول أردوغان: «المساجد ثكناتنا، والقباب خوذاتنا، والمنارات رماحنا، والمؤمنون جنودنا».
وفي ختام افتتاحيتها، توقعّت «الغارديان» أن «تنهض المقاومة» في تركيا داعيةً أوروبا إلى دعم «ديموقراطييها» الذين «يكافحون ببسالة من أجل القيم» في مواجهة رجل «متعطشّ للسلطة» ويعاني من «البارنويا»، وتسبّب في حال استقطاب في البلاد «ناشراً الرعب من خلال حملات تطهير واسعة النطاق» في أعقاب محاولة الانقلاب.
مجلة «الإيكونومست» حذّرت عشيّة الاستفتاء من «انزلاق تركيا نحو الدكتاتورية»، وتتويج أردوغان سلطاناً عليها في القرن الحادي والعشرين. تركيا مهمّة، تضيف الإيكونومست، فهي المحرّك «للقوى السياسية التي تصوغ العالم، وكانت على مدى قرون المهد لإمبراطورية عظيمة»، واليوم تمثّل حالاً لاختبار «ما إذا كانت الديموقراطية يمكن أن تتوافق مع الإسلام السياسي»، وتختم بالقول إن نجاح الاستفتاء سيمكّن أردوغان من الحكم بوصفه «دكتاتوراً منتخباً».
بعد ظهور النتيجة، وإعلان أردوغان الانتصار، علّقت «الإيكونومست» بالقول إنّه ليس «انتصاراً مقنعاً» بالنظر إلى أنّ نسبة الموافقة لم تزد على 51.5% مشيرةً إلى أنّ أردوغان «سيتجاهل الهامش الضئيل للنصر، ويصوّر الاستفتاء بوصفه علامة على تأييد قمعه».
تعليقات كثير من الوسائط الصحافيّة الغربيّة غصّت بنعي الديموقراطية في تركيا، والزّعم أنّ التعديلات الدستورية ستقضي على نظام «الضوابط والموازنات» الذي يقيّد سلطات الرئيس .
مفردات «السلطنة» و «الإسلام» و «التشدّد» مصحوبةً بالتعبير عن الخوف على إرث أتاتورك، تسيّدت الأعمدة. حتى «الغارديان»، الأكثر ميلاً إلى الآراء الليبرالية واليسارية، حفلت افتتاحيتها بلغة استشراقيّة، وهيمنت عليها «الإسلاموفوبيا».
الحقيقة التي يتجاهلها المعادون للتجربة التركية أنّ حزب العدالة والتنمية الحاكم اختار وضع تركيا على المسار الصحيح نائياً بها عن المخاطر التي تهدّد ديموقراطيتها واستقرارها. الشعب التركي قال كلمته، وصوّت لمرحلة جديدة من تاريخ الجمهوريّة لا مكان فيها للتطرّف ولا التبعيّة، وكما خاطب أردوغان المقلّلين من شأن الاستفتاء: «فاتكم القطار وأنتم لا تشعرون»!;
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق