الخميس، 30 أبريل 2020

السِّيرة النَّبويَّة من الجانب الذي لا يُراد لنا أن نعرفه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم

هناك جانب يُراد لنا أن لا نعرفه عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فالنَّبيُّ لم يكن درويشًا ولا “راجل بركة” ومع ذلك نشاهد في الواقع مواقف معيَّنة في السٍّيرة النَّبويَّة نسمعها تقريبًا في كل خطبة جمعة وكل لقاء تلفزيونيٍّ لشيخ، وهناك مواقف أخرى يستخدمها السَّاسة لتبرير مواقفهم وخذلانهم، وعلى النَّقيض من ذلك هناك مواقف عظيمة تمَّ تغييبها لما يبدو أنَّهم يخجلون من ذكرها أو يخافون.

ليس بدعًا من القول أن أعتبر معرفة المسلمين في هذا الزَّمان بنبيِّهم قاصرة ضعيفة غير كاملة، وأنَّ نظرتهم إليه لا تعدو نظرة سطحيَّة تسبَّبت في الكثير من التَّراجع والخلل في مسيرة الأمَّة.

فبدل أن تكون سيرة خير الأنام قدوة أُولى ونموذجًا أوْلى للدِّراسة والاقتداء، بما تحمله من تكامل المفاهيم والنُّظُم الحياتيَّة التي تدخل في كل جزئيَّة من بناء الفرد إلى بناء المجتمع إلى بناء الدَّولة، اقتصر الاهتمام بالسِّيرة النَّبويَّة في جوانب بعينها وتمَّ تحييد الأخرى رغم أهمِّيتها أو تمَّ التَّعامل معها برؤية أحاديَّة مقتطعة لا رؤية شاملة متلاحمة.فرغم حجم الاهتمام بسيرة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والأحاديث النَّبويَّة الشَّريفة لا يزال هناك تقصير في طريقة عرضها مما أدى إلى تغييب شخصية الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم من حياة المسلمين كمثال ملهم وقدوة مرشدة في جميع مجالات الحياة. وبدلًا من ذلك حصر الاهتمام بهديه صلَّى الله عليه وسلَّم في فقه العبادات والسُّلوكيَّات.

هدي النُّبوة شامل

وهدي النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم هدي قائد أمِّة كاملة، يقدِّم منهجًا تقوم به الدُّول وتُساس به الشُّعوب وتزدهر به الحضارات وتسابق به الأمم.

وما هذا الإغفال لهذه الجوانب المصيِّريَّة في نموذج القدوة إلاَّ لتعامل سطحي مع تفاصيل سيرة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم العميقة وعدم القدرة على كشف ارتباطها الوثيق بواقع أمَّته عبر الأزمنة والعصور المتتالية.


وإنَّه لمؤسف بشدَّة أن نجد عامَّة الأمَّة الإسلاميِّة لم تتعرَّف بعد على رسولها محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم حقَّ المعرفة. ولا يتعدَّى معرفتها بنبيِّ العالمين مواقف معدودة، تعكس جانبًا منفردًا من النموذج النَّبويّ، ينحصر غالبًا في الأمور الاجتماعيَّة.

ولا بدَّ من تصحيح هذه الصُّورة الأحاديَّة الرُّؤية، ومن تسليط الضَّوء على شخصيته كقائد بجميع صفاته التي اجتمعت معًا لتقدم النَّموذج الأفضل للاقتداء في هذه البشرية.

خطورة التَّقصير في معرفة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم


وتكمن أهمية هذا الطَّرح في أن القصور في معرفة التَّصور الكامل لشخصية النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ينعكس على أداء المسلمين، ويتحول إلى قصور آخر في الاتِّباع والتَّطبيق لنبيِّهم صلَّى الله عليه وسلَّم الذي أمرهم الله سبحانه باتِّباعه واتخاذه أسوة حسنة قال تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وقال سبحانه (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا).

ثمَّ إنَّ المعرفة الكاملة برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، تتجاوز ذلك الاقتداء بالمظاهر وتحوله إلى اقتداء به كنموذج كامل لتحقيق كفاءة منشودة في أداء هذه الأمَّة.

ولم يتعدَّ اهتمام منابر الدَّعوة العامَّة إبراز شخصية النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم من الجانب الأخلاقي بتغييب مؤسف لكفاءة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بناء أمَّة وقيادتها سواء كان ذلك في مراحل الضَّعف أو القوَّة.

وما يزيد من عمق الأسف أنَّ نماذج أخرى يتمُّ تداولها للاقتداء بها بين المسلمين كالقائد الفرنسيّ الشَّهير نابليون بونابرت أو السَّفاح الألمانيّ أدولف هتلر أو الآباء المؤسِّسين للولايات المتَّحدة الأمريكيَّة على اعتبار أنَّهم الأقرب لحاجة الجماهير لنموذج يقدِّم الكفاءة المطلوبة لسير الحياة والمجتمعات.

إنَّ دراسة السِّيرة بتأني وعمق، تكشف السِّتار كاملًا عن سيرة أعظم قائد فذٍّ متفرِّد لا نظير له في أيّ ميدان قيادة.

وهي واجبة كونها تقدَّم حياة أكمل النَّاس بتفاصيلها الهامَّة، وكونها استجابة لأمر الله سبحانه، ثم لعصمة الله له صلَّى الله عليه وسلَّم، وللعبر التي في حياته، ولأنَّها أساس الفلاح والنَّصر.

النموذج الكامل للكفاءة القياديَّة
فرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد حباه الله بكلِّ صفات القيادة المهمَّة، إداريَّة وسياسيَّة وعسكريَّة واجتماعيَّة، متميزًا بذكاء وعلم وبصيرة وبُعْدُ نظر وقوَّة ذاكرة ونشاط وهمَّة ملهمة ما كان سببًا في صناعة حبَّه لدى النَّاس ومن جعله قبلة المسلمين ومحور اهتمام الكافرين.

وتناوبت سيرة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم بين اتِّباع أوامر الوحي والاجتهاد فيما أوكل له من اجتهاد فبرز كمخطَّط استراتيِّجيّ لصناعة مجد أمَّة.

إنه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي حمل قلبًا مفعمًا بعاطفة الإنسان الفطريَّة التي أودعها الله فيه، والتي لم تمنعه من كشف شخصيَّته كقائد ومربِّي ومقوّم لمن حوله. فجمع بين قلب الإنسان المؤمن الرَّحيم وبين قلب الإنسان القائد المصلح في ذات الوقت، وإنها مرتبة لمن الصَّعب الوصول إليها إلا بتحمُّل مسؤوليَّة القيادة على أعلى الدَّرجات.

ثمَّ إنَّه لمن أوجب الواجبات على كلِّ مسلم، الرَّجوع إلى النَّموذج النَّبويّ للاقتداء به في صناعة مشاريع الحياة الصُّغرى والكبرى على حدٍّ سواء.

فالدَّعوة إلى عقيدة التَّوحيد، وشرائع الإسلام، والتَّربية الإيمانيَّة والأخلاقيَّة، وإقامة حكم الله ودولة للمسلمين كل هذا لا يقوم دون معرفة كاملة بنبيّ الله وسيرته صلَّى الله عليه وسلَّم.

فسيرة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هي العقيدة دعوة واستجابة وهي الشَّريعة إلزامًا والتزامًا وهي التَّربية تربُّيًا وتربية، وهي إقامة حكم الله عزَّ وجلَّ في الأرض دولة وسياسة بل هي كل قضايا الإسلام.

تصحيح مفاهيم

وإنَّ أحد أبرز أسباب تخلُّف المسلمين عقديًّا ودنيويًّا، هو اعتبارهم سيرة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مجرد رواية يستأنسون بها، بينما هي في الأساس علم كامل بأبوابه وفصوله المتَّصلة.

فالسِّيرة “علم دقيق، علم في روايته وإسناده وضبطه، علم في مدلوله وفقهيَّاته ودلالته على علوم الإسلام من عقائد وغيرها”.

وقد قدَّم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمثلة شاملة لجوانب الكمال البشريّ.. في تعامله مع زوجاته ومع أبنائه وبناته ومع أحفاده وأقاربه، ومع الجيران والضُّيوف والمستضيفين، ومع خواص أصحابه، ومع شرائح اجتماعيَّة مخصوصة، كالمسلمين الجدد، والمستفتين، والأعراب، والعصاة المذنبين والمنافقين والشَّرائح العامَّة في المجتمع. ومنها تعامله مع عموم النِّساء وكبار السِّن والصِّغار وذوي العاهات وذوي الهيئات والنابغين والأغنياء وأصحاب البلاء والفقراء والمتخاصمين والأعداء بل وغير البشر، كالجنِّ والدَّواب.

وأهمُّ ما يُقْتَدَى به من سيرة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: القوَّة في طاعة الله تعالى وعبادته، ثمَّ كثرة ذكره لله وشدَّة تضرُّعه ودعائه له سبحانه مع هذه القوَّة في العبادة.

فهو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي جمع بين خشوعه وبكاءه عند ذكر الله من جهة وبين قوَّة العمل لله من جهة أخرى.

رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم
فقد كان رجلًا يدرك شؤون المجتمع وشؤون النَّفس البشريَّة إدراكًا حكيمًا، يزدان بكفاءة إداريَّة وسياسيَّة وعسكريَّة واجتماعيَّة، صاحب لأصحابه، زوج لأزواجه، أب لأبنائه، جدٌّ لأحفاده، رحيم بالضعفاء عادل مع الرعيَّة، قائد معلِّم لجيوشه ومتَّبع للشَّرع مع القريب والبعيد، مبصر لمكامن الخطر ومفاصل القوَّة في الفرد كما في نسيج المجتمع.

إنَّه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد كساه جمال الرِّجال، واكتمل وسامة ومروءة، تتفجَّر العظمة من ثنايا مظهره، وهو مع ذلك إذا التفت إلى أحد، لم يلتف إليه بطرف عينه أو بزواية بسيطة بل يُقْبِلُ عليه ويلتفت إليه جميعًا، مما يؤثِّر في نفسية المتلقي فتنفرج أساريره ويأمن ويسكن له.

فزرع بذلك أوَّل درس في الاحترام والاهتمام بمن يحاوره، ثم أردف روعة الإقبال روعة أخرى في فنِّ الحوار، حيث لم يقاطع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحدًا يتحدَّث معه، بل ينصت للمتحدِّث باهتمام حتى ينتهي من حديثه، ليجيبه بعد ذلك بأجوبة مستوعبة له دون أن يطيل الكلام.

وانعكست آثار همَّته صلَّى الله عليه وسلَّم على سكونه وحركته، فكان إذا سار كأنَّه منحدر من صبب، دلالة على نشاط حامل الهمِّ والمسؤولية، الذي يمشي لهدف واضح، ومشية الرَّجل لها بصمة خاصة بشخصيَّته، وكان سيِّد الخلق صلَّى الله عليه وسلَّم يمشي مشية الوقور المهاب تبعث في صدر النَّاظر التَّقدير والاحترام، كما أنَّها مشية رياضيَّة تبعث في الجسد النَّشاط والحركة له ولناظره.

ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جمع بين الهيبة والبشاشة، متبسِّم الوجه يحبُّه من يلقاه، يظهر جليًا اهتمامه بمظهره وشعره وعطره ولباسه فلقَّن الأمَّة دروسًا في صفة ظهور المسلم وتهذيبه، بالمواقف العمليَّة البصيرة.

“وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ”


ومن قرأ سيرة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم لاشك لامس ذلك الخلق الرَّفيع والنَّموذج القرآنيُّ للأخلاق السَّامية، فقد كان مشهد النَّبيّ بمظهر حسن وثياب بسيطة غير متكلِّفة، يزدان بتاج من الأخلاق ترسم الهيبة حوله. متواضع خفيف الجناح. لم يترك تفصيلًا في السُّلوكيَّات إلاَّ وضبطه بروعة الأداء، فقد علَّمَ المسلمين آداب الطَّعام والسَّلام والخروج والدُّخول والطَّهارة وما يتَّصل بحياتهم ونشاطاتهم اليوميَّة بما فيها حالات الاستثناء الخاصَّة من يوم الولادة إلى يوم الدَّفن حتى التَّثاؤب.

قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).


لقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حريصًا على سنن الفطرة فكساه الطُّهر جمالًا بعد جمال، وهو مع ذلك متواضع لله إذا لَقِيَ الرَّجل يسلِّم عليه لا ينزع يده من يده حتَّى ينزعها الآخر.

قدوة في كلِّ مضمار

كان يمرُّ على الصِّبيان فيسلِّم عليهم، وكانت الجارية تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت. وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يَخْصِفُ نعله ويُرقِّع ثوبه، ويحلب شاته، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى أيسر شيء ويعود المريض ويشهد الجنازة ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد.

قال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من أحسن النَّاس خُلُقًا. فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبيُّ الله. فخرجت حتى أمرُّ على صبيان وهم يلعبون في السوق. فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد قبض بقفاي من ورائي. قال رضي الله عنه: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: “يَا أُنَيْسُ أَذَهبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟” قال رضي الله عنه: قلت نعم. أنا أذهبُ يا رسول الله. فما أجمل هذا الحِلْمَ!

وكان صلَّى الله عليه وسلَّم قدوة في الشَّجاعة، فعن مسلم عن البراء بن عازب قال رضي الله عنه: “كُنَّا والله! إذا احمرَّ البأسُ نتَّقي به وإنَّ الشَّجاع منَّا للَّذي يُحَاذِي به”. يعني النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

وقدوة في الجود والكرم، فعن ابن عبَّاس قال: “كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أجود النَّاس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلِّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله أجود بالخير من الرِّيح المرسلة”.

وقدوة في الخشية والخوف من الله، فعن مُطَرِّف عن أبيه رضي الله عنه قال: “رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلِّي وفي صدره أزيز كأزيز الرَّحى من البكاء”.

وقدوة في الزُّهد في الدُّنيا والتَّنزُّه عن مكاسبها. فكان صلَّى الله عليه وسلَّم يحثُّ أصحابه على الزُّهد في الدُّنيا والتَّعلُّق بالآخرة بينما كان يحجُّ على رَحْل رثِّ وقطيفة لا تكاد تساوي أربعة دراهم.

وقدوة في الثَّبات مع اليقين بوعد الله. فقد روى البخاريّ ومسلم عن أبي إسحاق عن البراء قال له رجل: يا أبا عمارة ولَّيتم يوم حنين! قال: لا والله ما ولّى النَّبيّ ولكن ولّى سرعان النَّاس (أوائلهم) لقيهم هوزان بالنُّبُل. والنَّبيُّ على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، والنَّبيُّ يقول: “أنا النَّبيُّ لا كَذِب أنَا ابْنُ عَبْدِ المطَّلِب”.

وقدوة في الصَّبر على النَّاس والعفو عن المسيء وقد جاء وصفه في التَّوراة (ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا سخَّاب بالأسواق ولا يدفع السَّيِّئة بالسَّيِّئة ولكن يعفو ويصفح).

وقدوة في كثرة الاستغفار والتَّوبة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: “والله إنِّي لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة”.

وقدوة في العبادة، عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبيّ كان يقوم من اللّيل حتى تتفطَّر (أي تتشقَّق) قدماه فقالت عائشة رضي الله عنها: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: “أفلا أُحبُّ أن أكون عبدًا شكورًا”.

كان قدوة في التَّطوّع وقراءة القرآن وقدوة في ذكره لله سبحانه فقد كان يذكر ربَّه في كلِّ أحيانه قائمًا وقاعدًا وماشيًا وراكبًا وسائرًا ونازلًا.

وقدوة في الحجِّ، وقدوة في الجهاد وسائر عبادات القلب والجوارح.

جوانب من حياته العمليَّة

والاقتداء بالنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يقتصر على صفاته المعنويَّة بل يتعدَّى ليشمل الاقتداء في جوانب حياته العملية فهديه في ذلك أكمل هدي يقتدي به المسلم.

ففي الطَّعام والشَّراب لا يردُّ موجودًا ولا يتكلَّف مفقودًا. وما قُرِّبَ إليه شيء من الطَّيِّبات إلَّا أكله، و(ما عاب طعامًا قطُّ إن اشتهاه أكله وإلَّا تركه).

فعلَّمنا آداب الطَّعام عند الأكل وحال الفقر والغنى. وفي النَّوم والاستيقاظ، وفي الكلام والسُّكوت والضَّحك والبكاء.

كان صلَّى الله عليه وسلَّم طويل السُّكوت ولا يتكلَّم بشيء في غير حاجة وإن تكلَّم فجوامع الكلام، وكلامه فصلٌ لا فضول ولا تقصير، وكان لا يتكلَّم فيما لا يعنيه ولا يتكلَّم إلا فيما يرجو ثوابه وإذا كره الشَّيء عُرِفَ في وجهه.

ضحكه التَّبسُّم، بل كلُّه التَّبسُّم ، فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجذه.

يضحك صلَّى الله عليه وسلَّم مما يضحك منه ويتعجَّب من مثله ويستغرب وقوعه ويستندر فتقبل عليه القلوب مستبشرة.

بكاؤه تارةً رحمة للميِّت وتارة خوفًا على أمَّته وشفقة عليها، وتارةً من خشية الله تعالى، وتارةً عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبَّة وإجلال مصاحب للخوف والخشية.

قدوة في خطبته، فيخطب في كلِّ وقت بما تقتضيه حاجة المخاطَبين ومصلحتهم وكان يقصر خطبته أحيانًا ويطيلها أحيانًا بحسب حاجة النَّاس.

قدوة في المعاملات

باع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واشترى وآجر واستأجر وشارك غيره فكان قدوة يُقتدى به في معاملات المال والتِّجارة وشَهدت له بذلك أمُّنا خديجة رضي الله عنها ومن تعامل معه من قبل أن يُبعث نبيًّا حتى لُقِّبَ بـ”الأمين”، ويروى أنَّه قَدِم عليه شريكه قال: أما تعرفني؟ قال: أما كنت شريكي؟ فنعم الشَّريك كنت لا تداري ولا تماري.

يعود المريض ويشهد الجنازة ويجيب الدَّعوة ويمشي مع الأرملة والمسكين والضَّعيف في حوائجهم وسمع مديح الشِّعر وأثاب عليه.

حليم رحيم بالصَّغير والكبير، تبصر في سيرته الفقه العظيم في التَّعامل مع المخطئ والمقصِّر والمسيء. وتأمَّل قول أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي: أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا؟

وترك صلَّى الله عليه وسلَّم مع أمِّ أيمن وزيد بن حارثة وأسامة بن زيد رضي الله عنهم، معاملات رفيعة المرتبة ودروسًا من الفهم اللَّبيب وحسن الاستيعاب والحكمة.

لقد قدَّم لنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم نماذج ضروريَّة جدًا في فنِّ التَّعامل مع النَّاس على اختلاف مراتبهم الدنيويَّة، وحاجاتهم وظروفهم، فكان كلُّ درس عظيمًا يشعرنا بدرجة الضَّياع التي وصلنا لها.

ومواقف إحسانه واستيعابه للخدم ولأهله لا تزال منارات مشرقة في عظمة مكانته صلَّى الله عليه وسلَّم.

فقائد معركة بدر الكبرى يستمع لقصة أمِّ زرع ليؤنس زوجته رضي الله عنها.

وقائد فتح مكَّة تزوره صديقة خديجة وهو عند عائشة رضي الله عنهما، فتقول: أنا جثَّامةُ المُزنيَّةُ فقال: بل أنتِ حسَّانةُ المُزنيَّةُ كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ فقالت: بخير بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله. فلمَّا خرجت قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: “يا عائشة إنَّها كانت تأتينا زمان خديجة وإن حسن العهد من الإيمان”.

أقام دولة للإسلام امتدَّ نورها إلى اليوم ولم يكن يجد مشكلة في أن يعترف بحبِّه لزوجته، فقال عن خديجة إنِّي قد رُزقت حبَّها. وتوفي صلَّى الله عليه وسلَّم ورأسه على صدر زوجته عائشة رضي الله عنها.

هو النَّبيُّ العظيم الذي لم تشغله هموم الدَّولة والغزو والجهاد وتجهيز الجيوش ونشر الدَّعوة في العالم وإرسال الرَّسائل إلى كسرى وقيصر ومتابعة الأمور العظيمة لم يشغله ذلك عن مراعاة مشاعر زوجاته واستيعاب غيرتهنَّ وحاجاتهنَّ. فقدَّم دروسًا من فنِّ التَّعامل مع الزَّوجات في كل مواقف الأزواج في الشِّدة والرَّخاء. ونشاهد مراعاته صلَّى الله عليه وسلَّم الأحوال النَّفسية والطِّباع الشَّخصيَّة ودون أن يكون في هذه المراعاة أثر سلبي في إحقاق الحقِّ.. كما في قصَّة عائشة رضي الله عنها حين غارت فكسرت قَصْعَة الطعام التي أرسلتها إحدى أمَّهات المؤمنين “فجمع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فِلَق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة” ويقول:”غارت أمُّكم”… ونلاحظ كيف كان رد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المشعُّ بالحكمة:”غارت أمُّكم”، عندما أخذت طبق الثمر الذي أرسلته له الأخرى وهو في بيت عائشة. فألقت بالطبق فانكسر.. فضحك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لغيرتها. ولكنه في نفس الوقت أمرها بأن تأتي بطبق آخر وتجمع الثمر فتغسله فيأكله ثم يأمر أن تعطي طبقها للأخرى بدلاً من الذي كسرته.. ويحدِّد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك منهجًا عامًا في التعامل مع النِّساء والتَّعامل مع النَّفسيَّات دون إضرار بميزان الحقّ.

وكيف لا يكون له هذا الشأن وقد ربَّاه الله سبحانه تربية خاصَّة، وصحَّح له المقاييس وأرشده لخيرها، وجاءت المواقف كالدُّروس تصحِّح فهم الأمَّة وفهم الرَّسول للأخلاق التي يرضاها الله، كما شاهدنا ذلك في سورة عبس، وليس تصحيحًا لسوء خُلُق أو قلَّة خُلُق حاشاه.

وتأمَّل هذا الموقف من سيِّد المرسلين، وقصَّته المشهورة في غزوة الخندق حين كان يربط على بطنه حجرين بدل الحجر الواحد وكان يعمل مع صحابته في الغزوات وهو القائد مردِّدًا: (ما أنتما بأقوى منِّي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما).

تكامل شخصيَّته وقدراته


لقد كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يدعو إلى الله بكلِّ طريقة، فيستعمل القوَّة مع من يناسبه مدخل القوَّة، واللِّين مع من مفتاحه اللِّين، والسِّياسة مع من مفتاحه السِّياسة، وتأليف القلوب مع من تُؤَلَّفُ قلوبهم، ولذلك فإنَّه ترك أثر شخصيَّة قديرة تتمتَّع بالكفاءة والموهبة في سياسة العامَّة.

وإنِّ إمامة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم للأمَّة لم تكن لخُلق دون خُلق بل هو إمام في قوَّته وفي عِلْمِه وفي حكمته وفي عقله وفي خبرته وفي فطنته وفي خُلُقِه وفي كُلِّ شيء، يتصاغر المرء أمام شخصيَّته.

لقد كان دقيقًا في نصائحه وتوجيهاته وكلماته وأحكامه وكان تأثير ذلك بالغًا.

الكفاءة الإداريَّة للنَّبيّ

لا تنفكُّ مواقف الكفاءة الإداريَّة تتردَّد حين نتحدَّث عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم القائد للمهمات الصَّعبة، وتظهر هذه الكفاءة ببراعة في الأزمات، وهل تُعْرَفُ الكفاءة كما تُعْرَفُ في الأزمات؟ ففي غزوة الأحزاب، بسط الشَّورى وأخذ الفكرة ثم رسم المدينة وضبط حدودها وحدَّد المكان الذي سيحفر فيه الخندق، والزَّمن الذي سيستغرقه وأبعاده وطوله وعرضه وعمقه، وكيف يصرف التُّراب الناتج عن الحفر والقوَّة البشريَّة اللَّازمة لإنجازه، وتقسيمها بحسب الأدوار. وبينما هو منشغل تمام الانشغال بترتيب الأمور العسكريَّة للأمَّة ويوزِّع الفرق للعمل، في نفس الوقت كان يلقِّنها درسًا في حفظ مقامات النَّاس، وجعل للصَّحابة الَّذين لا عشيرة لهم مكانة، حيث سأله النَّاس: يا رسول الله فمع من يكون سلمان الفارسي؟ فقال:”سلمان منَّا آل البيت”. بعد أن كان سلمان رضي الله عنه عبدًا يُباع ويُشترى بلا عشيرة له ولا أنساب يتحوَّل إلى مرتبة آل البيت. فكيف سيتحوَّل سلمان بعد هذه الرَّفعة وكيف سيخدم الإسلام والمسلمين.

إنَّ مشروع حفر الخندق كان بحجم مشروع دولة ولم يكن مجرد حدث حصل في ذلك الزمان وللأسف قلَّما تُسلَّط عليه الأضواء بحجمه الحقيقيّ وأهميَّته وتفاصيله الجادَّة المتَّصلة.

فترى سيِّد الخلق الذي قارب على السِّتِّين من عمره وظهر الشَّيب في رأسه ولحيته، يحمل التُّراب بنفسه، وينقله مع العاملين. ويحلُّ مشاكل تعيقهم كالصَّخرة التي لا تنكسر، فيكبِّر صلَّى الله عليه وسلَّم ويضربها فتتفتَّت تحت يديه. ثم يعود إلى عمله الأوَّل. فهو القائد وقت القيادة والمتواضع لمن تحته.

وفي الواقع لقد حوَّل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عملية حفر الخندق إلى عملية إيمانيَّة تربويَّة من أعلى درجات الإيمان والتربية وعلى مثل هذا كانت سائر الأعمال وهذا درس من دروس كفاءته الإداريَّة.

ثم نشاهد كفاءته الإداريَّة التي لا تُبَارى في التخطيط للهجرة، فكانت خطَّة الخروج من مكَّة هندسة وتخطيطًا بارعًا، يسير إلى الجنوب في حين هدفه الشَّمال، فيضلِّل أعداءه. ثمَّ اختياره للدَّليل مدروس بعناية، تمامًا كعنايته بتوفير الدَّعم اللُّوجستي، فمن ينقل له الأخبار، ومن يعفي على آثار الأقدام ومن يأتيه بالطَّعام. ولا يغفل مع شدَّة الحدث، عن ردِّ الأمانات بالتوقيت المناسب الذي لا يؤثر على ترتيبات هجرته التي يتربص بها كفَّار قريش. وغيره من تفاصيل عظيمة.

وبرزت كفاءته الإداريَّة في طريقة تحديده لاختصاصات الصَّحابة، فيقول: فلان أقضاكم، وفلان أقرؤكم للقرآن، وفلان أعلمكم بالفرائض، وفلان سيف الله المسلول، وفلان أسد الله.. وبلال أندى صوتًا.

فيحيط بطريقة غير عادية بقدرات الصَّحابة فردًا فردًا. ليصنع منهم أعمدة بنت دولة الإسلام.

وبهذا المعرفة كان يوجِّه الصَّحابة لأداء أدوارهم أيضا بحسب الكفاءة.

وحين كَثُر المسلمون واكتظَّ المسجد بالمسابقين للالتفاف حول نبيّ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ظهرت أزمة التَّعلم من النَّبيّ، فالصَّحابة الأوائل لم يعد بإمكانهم النَّقل عن رسول الله وابتعدوا عن الصَّف الأوَّل، إلاَّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عالج الأمر صلَّى الله عليه وسلَّم بكفاءة إداريَّة لافتة، فقال: “ليليني منكم المهاجرون والأنصار”. فتخلَّى لهم الصفوف الأولى، وهم من شهد الدِّين والعلم الأوَّل، وهم من يواصل دوره. لأفضل نقل للعلم وتوارثه كاملًا. فهذه أمور مصيريَّة لا ينفع معها المجاراة.

كفاءته ظهرت في تنظيمه للسَّفر أو الجهاد، وكيف يُنَصِّبُ الأمير ويجعله ضرورة وكيف يختاره، ويصنع وحدة متكاملة، فيجعل الضَّعيف مع القويِّ، فيرسل الثَّلاثة منهما اثنين ميسورين، ومعهما فقير، فيعمل الفقير ويحصل على نفقته من أجره الذي يأخذه منهما، فيجمع هذا التَّقسيم بين إطعام الفقير وراحة الميسور وزيادة الودِّ، والتآلف فيرجعون أكثر حبًا وتآلفًا، شبع الجائع وخدم الضَّعيف وتوثَّقت الصِّلة.

وهكذا بكفاءته الإداريَّة الَّتي أحاطت بالأمَّة، فإنَّه يعرف من يحيط به واحدًا واحدًا، فلا يخرجهم هكذا كيفما اتَّفق بل يختار هذا مع هذا مع هذا بناء على الفوارق الاجتماعيَّة والماديَّة والجسمانيَّة وليستطيع أن يخرج لَبِنَات وخلايا تجمع المجتمع أقوى مما كان.

لقد كان مديرًا في كلِّ صغيرة وكبيرة، فيجعلها محكمة، فالصَّحابة ثمرة 23 عامًا من الإحكام، الإحكام الإداريّ والتربويّ على أقلِّ تقدير.

واليوم مشكلة أمَّتنا في هاتين الكلمتين: الإدارة والتربية.

فليس لدينا أزمة في الإخلاص إنما الأزمة أن يدخل بالإخلاص ثم لا يجد عملًا يتوفر فيه إحكام التربية والإدارة فيَخمُد ويَكْسُل فتنهار عملية الصِّناعة الإسلاميَّة.

الكفاءة الثقافيَّة



وتتجلَّى كفاءته الثقافيَّة في رسائله إلى ملوك العجم بعد صلح الحديبيَّة حيث أرسل لعظيم القبط في مصر ولكسرى ملك الفرس ولقيصر هرقل ملك الروم، ولكبير الأحابيش، ويظهر من خلال المصطلحات كما في رسالته لهرقل ملك الروم: “أسلم تسلم أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن لم تفعل فإنَّما عليك إثم الإريسيين”. وهذه الكلمة لم يسبق أن استعملت، في العربيَّة، وشرحها علماء الحديث على أن معناها العامَّة والشَّعب أي الزُّرَّاع والصُّنَّاع والفلَّاحين، وقال المحقِّقون بأن الكلمة الإريسيين، كلمة رومانية، تستخدم من الرُّوم كمصطلح يطلق على أصحاب المهن الحقيرة الصَّغيرة، التي كانوا يُعدَّون في المجتمع أغلبيَّة كبيرة.

فعلمه بلغة الرُّوم وعلمه بلهجات العرب، ولهجات الأقوام التي يعرفها، جعل من رسالته صناعة للتأثير في ملك.

لقد كانت ثقافته صلَّى الله عليه وسلَّم كاملة، وشخصيَّته عميقة، يستفيد من خبرات الصَّحابة كما استفاد من خبرات أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه في الأنساب ومعرفة الرِّجال واستفاد من الشُّورى في مناسبات عديدة.

الكفاءة السِّياسيَّة


كان رجل دولة بما تعنيه الكلمة من معاني وتعقيدات، يزن الشخصيَّة التي أمامه ويتعامل معها بسياسة موائمة، يظهر ذلك في صُلْحُ الحديبيَّة، فأوَّل ما شاهد قريشًا وقد أرسلت سهيل بن عمرو قال متبسمًا: “إنَّما أرادت قريش الصُّلح إذ أرسلت هذا. وبناء عليه كان التَّفاوض”.

وتغيَّر موقفه مع إرسال قريش أبا سفيان فعهد لأحد الصَّحابة أن يقف به في مكان بعيد، وأمر كتائب الجيش أن تتجهَّز وتستعدَّ لتمرَّ من المكان الذي يراها منه أبو سفيان، فيتعجب الأخير من قوَّتهم وكثرتهم، فيقال له هؤلاء بنو فلان، ثم التي بعدها فيسأل وهكذا، تمرُّ به الكتائب فيزداد رهبة وهيبة، حتى تمرَّ به آخر الكتائب وهي أكبرها وأقواها فيقول: من هؤلاء؟ فيقال له كتيبة المهاجرين والأنصار، فينهزم أبو سفيان معنويًّا ويقول للعبَّاس بن عبد المطَّلب: لقد صار مُلْكُ ابن أخيك مُلكًا عظيمًا، فيقول ليس بمُلْك يا أبا سفيان وإنَّما هي نبوَّة.

ودخل سفيان بعدها على النَّبيِّ في حالة. وعند فتح مكَّة يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

لقد كان على علم بمكانة الشَّخصيَّات النَّافذة في بلده، ويتعامل وفق ذلك.

ولم تكن هذه الكفاءة السِّياسيَّة مع خصومه فقط بل مع صحابته أيضا.

كما رأيناها مع الأوس والخزرج، وفي جوار اليهود، وبين المهاجرين والأنصار. لقد قضى على القبليَّة والوطنيَّة ورسَّخ محلها الإسلام بعدالته.

فرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي كان يصبر على محاولات اليهود زعزعة استقرار المدينة وإشعال الفتن، هو صلَّى الله عليه وسلَّم من تصدَّى لخيانات بني قَيْنُقَاع وبني قريظة للعهود، فتصدَّى للأولى بالجلاء بما لهم، والثانية فكان فيهم حكم الخيانة جزاء وفاقًا.

وأما تحكيم سعد بن معاذ، زعيم الأوس الذين يعوِّل عليهم اليهود، فكان درسًا كبيرًا في السِّياسة، حيث حكم بأن يقتل الرِّجال وتسبى النِّساء والذَّراري وتأخذ أموالهم غنيمة حتَّى وصف حكمه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: “أمَّا لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات”. فراحت شرفًا ومجدًا للأوس ورفع العتب عن غيرهم. وكان بإمكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يعلن الحكم فيهم لكن اختياره لسعد كان ذي فوائد جمَّة.

وتظهر الكفاءة الاجتماعيَّة في مواقفه الكثيرة في مواساة النَّاس عند الموت وعند بكاء الأهل، وفي وضع الحجر الأسود، ومواقف أخرى كثيرة التي رفع فيها الحرج على المسلمين واستوعب ضعفهم وأخطاءهم ليستمر الانسجام وتستقوي الأمَّة المسلمة.

الكفاءة العسكريَّة



من الصَّعب أن ألخص كفاءة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم في كل ميدان والعسكري خاصَّة بسطور فقد كان نبيّ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قائد جيش لا نظير له، وتظهر جوانب كفاءته العسكريَّة في قيادته للغزوات والمعارك بنفسه، وأيضًا قدرته على تقدير عدد الجيش من الأعداد من خلال عدد الذَّبائح التي يذبحونها، ومعرفته بنوع الإبل وقبيلتها من روث الإبل، ومع نعيم بن مسعود في معركة الأحزاب حين قال له: (فخذَّل عنَّا ما استطعت) بين اليهود والأحزاب حزبًا حزبًا. وهذا لتمام إداركه بطبيعة عدوه.

كذلك مواقفه العظيمة في معركة أحد كيف قلب الهزيمة لدرس ولذَّة انتصار وهو على الجبل يلقِّن صحابته كيف يكون الجواب استعلاء بالإيمان على الكفَّار. وكيف تعامل مع أول هزيمة لجيشه. ثم كيف تعامل مع بقيَّة الانتصارات.

وموقع فتح مكَّة الذي حمل من الدُّروس والعبر والرَّسائل والدَّلالات ما يعجز القلم عن تدوينه ليلخص كفاءة نبيّ الله صلَّى الله عليه وسلَّم العسكريَّة.

وما قصَّة عبد الله بن سعد بن أبي السّرح، وهو أخ عثمان بن عفان في الرّضاعة حين أسلم ثم ارتدَّ، وأهدر دمه حتَّى لو تعلَّق بأستار الكعبة إلا دلالة على درجة الرُّقي التي تعامل فيها الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم مع موقف قدومه. فبعد أن أشاح عنه حتى لا يبايعه من جديد وجَّه انتباه صحابته بقوَّة:”أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رأني كففت يدي عن بيعته فيقتله.!” بتمام الصِّدق والوضوح لا بالتَّلوُّن والخداع.

لقد كانت شخصيَّة مكتملة الاستقامة، عميقة الفقه والثقافة والإدراك والعلم والكفاءة سُجل له 47 سريَّة و27 غزوة مباركة.

كفاءته في القضاء

إنَّ المجتمع المسلم يحوي ما لابد منه في كلِّ مجتمع بشري من الاختصام بين بعض أفراده، وقدَّم لنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دروسًا حكيمة مبصرة في سياسة النَّاس والحكم بالعدل والإنصاف وردِّ الحقِّ لأصحابه، دون أن ينسوا الفضَّل بينهم فكان يضع اعتبارًا للحالة النَّفسية للمرء ويراعي ظروف ضعفه، فمع أنه نهى عن سير النِّساء خلف الجنازات ومع ذلك هو من قال لعمر رضي الله عنه حين أراد أن ينهى امرأة تمشي في جنازة بحزن بالغ: “دعها يا عمر فإن المصاب جلل والخطب قريب“.

فكان يسعى للصُّلح بين المتخاصمين مسلمين وغير مسلمين، يسدِّد ويقارب ولو بالحطِّ من بعض الحقِّ في سبيل الانسجام إن تراضيا وإلا فحكم بينهما بحكم الشَّرع، مخوِّفًا إيَّاهم من عظمة الحلف بالله كذبًا، وأن حكمه بالظَّالم لا يحلُّ للمبطل أخذ حقِّ غيره، ولا يحكم على مدّعى عليه إلا باعترافه أو بوجود بيِّنة، ويقضي بين النَّاس ويعالج مشاكل الخصومة وذات البين وفي نفس الوقت يطيب خاطرهم. كما اختصم عليّ وجعفر وزيد بن حارثة، في كفالة اليتيمة، فحكم رسول الله بها لجعفر رضي الله عنه كون أسماء بنت عميس تكون خالتها، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: “الخالة بمنزلة الأمّ” وأضاف: ليؤلف قلوبهم “أمَّا أنت يا جعفر فأشبهت خَلقي وخُلقي، وأمَّا أنت يا علي فمنِّي وأنا منك وأمَّا أنت يا زيد فأخونا ومولانا”. فرضي الجميع.

وكثيرة هي المواقف التي غلب عليها الحلم والتَّأني لدراسته صلَّى الله عليه وسلَّم لمآلات القرارات كقوله لعائشة: “لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم”.

وموقفه مع رأس النِّفاق في المدينة عبد الله بن أبي سلول حين قال: “لا يتحدَّث النَّاس أنَّ محمَّدًا يقتل أصحابه، ولكن نحسن صحبته ما صاحبنا”.

ومع كل ما يحمله من هموم فكان لا ينسى أحدًا، حتى أمَّ محجن رضي الله عنها التي كانت تنظف المسجد، ثم ماتت ودفنت فسأل عنها وحين علم بموتها قال: “أفلا كنتم آذنتموني”، “دُلُّوني على قبرها”.

فهذا النَّبيّ المكلَّف بمجاهدة الكفَّار والمنافقين والحكم بما أنزل الله وبلاغ الرِّسالة، يقف على قبر امرأة سوداء ضعيفة تكنس لا يُؤبَه لها ولا يُلتفَت إليها.

وقد روى مسلم في صحيحه هذا الموقف النَّبويّ عن أبي هريرة رضي الله عنه: “أنَّ امرأةً سوداءَ كانت تَقُمُّ المسجدَ (أو شابًّا) ففقدها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فسأل عنها (أو عنه) فقالوا: مات. قال: أفلا كنتُم آذَنْتُمونى. قال: فكأنهم صَغَّروا أمرَها (أو أمرَه). فقال: دُلُّوني على قبرِها فدَلُّوه. فصلَّى عليها. ثم قال إنَّ هذه القبورَ مملوءةٌ ظُلمةً على أهلِها. وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُنوِّرُها لهم بصلاتي عليهم”.

لقد كان نبيُّ الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي امتدَّ نور دولته شرقًا وغربًا بخلافة وحضارة إسلاميَّة باهرة كان يعلِّم زوجته كيف تكون الفرحة في العرس، فيقول:

أتيناكم أتيناكم فحيُّونا نحيِّيكم *ولولا الحنطة السَّمراء ما سمنت عذاريكم
ويصبر على طلباتها برفق ومحبة.

تعامل النَّبي مع الدَّواب



لقد أرسل الله نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم رحمة للعالمين ورحمته ليست مخصوصة بالإنس فقط بل هي للإنس والجنِّ والحيوانات وجميع المخلوقات.

فكان صلَّى الله عليه وسلَّم يحبُّ الخيل ويكرمها ويوصي بها ويسميها، ويرفق بالهرَّة ويطعمها ويسقيها، وينهى عن تحميل الحيوان فوق طاقته وإجاعته وإيذائه والرِّفق به، وحذَّر من دخول النَّار بسبب تعذيب الحيوان، وبشَّر بأن الرِّفق به سبب لدخول الجنَّة وتحصيل مغفرة الله عزَّ وجلَّ.

كما نهى عن التفريق بين الطُّيور الصغيرة وأمَّهاتها، ونهى عن وسم الحيوان في وجهه أو ضربه عليه، ونهى عن التمثيل بالبهائم، وعن خصائها إلا لمصلحة، وبقتل الذي فيه ضرر منها، ونهى عن قتل الحيوان على سبيل العبث، ونهى عن سبِّها ولعنها وخاصَّة الديك، وكان يأمر بإحسان الذَّبح، وعدم إنزاء الحمير على الخيل، وغيرها.

الخلاصة



إننا نتحدَّث عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي نزلت الآيات السَّماويَّة بقول الله تعالى سبحانه عنه: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) و(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) و(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) و(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) و(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) و(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) و(َأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) و(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).

فقدَّم منهج حياة ناجح للفرد وللدَّولة وللحضارة الماجدة، من استمسك بهديه نجى ومن أبى فلا يلومنَّ إلا نفسه.

هذا غيض من فيض ومثل هذا الطَّرح يستوجب سفرًا محقَّقًا.

المصادر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق