الأربعاء، 22 يناير 2025

الرواية الفلسطينية في طوْر جديد

 

الرواية الفلسطينية في طوْر جديد

A99D1147-B045-41D9-BF62-AB547E776D3E
حلمي الأسمر

كاتب وصحافي من الأردن

أيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية، كان يتردّد على مكتبي في صحيفة السبيل في عمّان صحافي أميركي يدعى بن وودمان، وكان مراسلا لشبكة سي أن أن. قال لي مرّة إنه اصطحب زوجته إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وحين شاهدت جنود الاحتلال الصهيوني يطاردون فتية الانتفاضة "المسلّحين" بالحجارة، فيما الجنود ينوؤون تحت أحمال أنواع الأسلحة التي يحملونها، فضلا عن عتادهم وأجهزة اتصالاتهم المتنوعة، صرَخت بالجنود: الويل لكم أيها الفلسطينيون الجبناء.. كيف تسمحون لأنفسكم بمطاردة الفتية اليهود، وهم لا يحملون سلاحا إلا الحجارة؟ لم يفهم في حينها الجنود ماذا تعني، يقول لي وودمان إن زوجته كانت ضحيةً حتى أذنيها للرواية الصهيونية، شأن ملايين الأميركيين وغيرهم في مختلف أنحاء العالم، وبدت في حالة يُرثى لها من البلاهة السوداء. كانت قادمة للتو من الولايات المتحدة، وكان وعيها لم يزل طازجا بالأكاذيب التي تبيعها الدعاية الصهيونية التي تبيع للجمهور ما يعتقد أنها حقائق، وهو خليط عجيب من الأكاذيب والترّهات والحبائل!

كان هذا منذ عقود. تكاد الصورة اليوم تنقلب رأسا على عقب، فالعالم غير العالم، فقد أعاد الدم الفلسطيني رسم خريطة الوعي في المخيال العالمي، وأعتقد أن زوجة وودمان كانت لتضحك على بلاهتها تلك بخجلٍ كثير، بعد أن انفجر طوفان من الوعي الجمعي في ضمير الإنسانية. وبالطبع، لم يبدأ هذا الانفجار مع ثورة طوفان الأقصى، لكن الطوفان أغرق أو كاد آخر جزر الأكاذيب الصهيونية، ويندُر أن تجد عقلا واعياً في أركان الدنيا الأربعة من غير مسؤولي العالم عرباً وعجما، لم يزل أسيراً لسردية الاحتلال المترعة بالأكاذيب.

في ذروة انطلاق طقوس انتصار المقاومة في غزّة، وبدايات تنفيذ ما اصطُلح على تسميتها "صفقة تبادل الأسرى" ووقف إطلاق النار في غزّة، كان ثمة نحو ألف من مناصري فلسطين ومحبّيها يلتقون في آخر عاصمة للخلافة الإسلامية إسطنبول، جمعهم منتدى فلسطين للإعلام (تواصل) تحت عنوان عريض "الرواية الفلسطينية... طور جديد". مشاعر كثيرة مثيرة تنتاب المرء وهو يشهد تلك النخب التي تقاطرت من قارّات الأرض، على تعدّد (وتنوّع) ألسنتها وعقائدها ودياناتها وحتى ألبستها، لعل أهمها أن هؤلاء هم التعبير الأكثر افتضاحا لفشل عقود من تسيد الرواية الصهيونية البائسة التي حاولت، بجهود جبارة دؤوبة، تواصلت قرناً مضى أو يزيد لدفن الرواية الحقيقية لفلسطين، التي تعملقت خلاصتها فجأة في ذروة لقاء هؤلاء، وهم يرقبون خروج مقاتلي كتائب الشهيد عزّ الدين القسام من تحت الرماد، بكامل قيافتهم وأناقتهم وبأسهم وأسلحتهم، بعد 471 يوما من الجحيم، صبّ فيه على رؤوسهم معسكر الشرّ في العالم كله قنابل تساوي أكثر من ست قنابل نووية، وفق تقدير خبراء العلوم العسكرية. وبدا أن الرواية الحقيقية التي دخلت كل بيت في هذا العالم، كتبها هؤلاء المقاتلون وحاضنتهم الشعبية، وبدا أن كل ما يمكن أن تقوله النخب المجتمعة في اسطنبول وغيرها من عواصم التفكير مجرّد محاولة استيعاب فصول الرواية، وفهمها وتفكيكها وتركيبها، فالراوي الحقيقي هو هذا المقاتل العنيد الذي وصفه مؤرّخ صهيوني بكلماتٍ تُكتب بالذهب حين قال إنه لو بقي مقاتل واحد من "حماس"، وقد قطعت إحدى يديه، وإحدى رجليه، وثلاث من أصابعه، وبقي له إصبعان فقط، لخرج من أحد الأنفاق ورفع بإصبعيه الباقيين شارة النصر!

أعاد الدم الفلسطيني رسم خريطة الوعي في المخيال العالمي

تلك هي الرواية الحقيقية التي انتدى القوم يومين، في محاولة لفك شيفرة ذلك الصمود الملحمي، الذي أبهر كل من له عقل في هذا العالم، وترك القيادة الصهيونية وجيشها "مسخرة" بين أمم الأرض كافة كأنها شاة جرباء منبوذة، سواء اعترفت هذه الأمم أم بلعت ريقها عجزاً وخوفاً مما سيأتي.

أبدع شباب "تواصل" وشاباته في ما فعلوا، فأبهرونا بمشهدية فلسطينية تنتزع الإعجاب انتزاعاً، متكئة على منجز ميداني أكثر إبهاراً روته بنادق مقاتلي "القسّام" وبساطيرهم وحتى "شباشبهم"، بكل مهابة وعنفوان، وأتاحوا لمن حضر لقاء كوكبة من أصحاب الفكر والرؤية المنصفة، الذين أعادوا رسم صورة الرواية المحكية، بالتوازي مع رواية الميدان بكل فخامتها وإبداعها، رغم لون الدم الذي انتشر على كل بقعة في مساحة غزّة، وسرى في أجسادنا إحساس كارثي بالألم والبطولة، الممتزجين مع نوعين من الدموع قل أن يلتقيا في مآقي البشر: دمع ألم كوني ممض، ودمع فرح عملاق بانتصار انبعث من تحت ركام البيوت المهدّمة.

لا أدري ما هي طبيعة مشاعر زوجة الصحافي الأميركي بن وودمان اليوم، إن كانت لم تزل على قيد الحياة، لكني أظنها اليوم تسير في شوارع واشنطن مع مناصري الرواية الفلسطينية ومتبنيها هاتفة: فلسطين حرّة من البحر إلى النهر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق