الجمعة، 31 يناير 2025

حتى لا يكسر العدوان الإسرائيلي معنويات السوريين

 حتى لا يكسر العدوان الإسرائيلي معنويات السوريين

ياسر أبو هلالة

‏كان لافتاً غياب القضية الفلسطينية، سواء في خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع في مؤتمر النصر أول من أمس، أو في خطاب القيادات العسكرية الأخرى التي مثّلت الشرعية الثورية التي نصّبته رئيساً. وهذا ليس مصادفةً، فمنذ دخول الثوار دمشق فاتحين في 08/12/2024، ورغم القصف الإسرائيلي الذي لم يتوقّف، والاعتداءات الإسرائيلية، والتصريحات الوقحة، ظلّ الصمت "السلاح" الوحيد الذي يردّون به.

‏شكّل الصمت مادّة خصبة لأنصار النظام الإجرامي المخلوع، وما يسمّى "محور المقاومة"، على اعتبار أن ما جرى في سورية مؤامرة أميركية إسرائيلية لكسر محور "المقاومة"، وهو ما ظلّ يُردَّد منذ انطلاق الثورة السورية. والواقع أن القضية الفلسطينية ظلّت تُستخدَم لقمع الشعوب العربية، وكأنّ سلب حرّيات الشعوب شرطٌ لتحرير الشعب الفلسطيني. لا يحتاج الشعب السوري، ولا الثوار الفاتحون، شهادةً لمعرفة موقفهم الحقيقي من القضية الفلسطينية. الشعب السوري تأسّس على أن قضية فلسطين هي قضية سورية، والمؤتمر السوري العام الذي عقد في دمشق وأسّس أوّل دولة سورية حديثة (الحكم الفيصلي) ضمّ بلاد الشام كلّها، وحضر ممثّلون عن فلسطين والأردن ولبنان المؤتمرَ السوري العام. وانخرط السوريون مبكّراً في أعمال المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتهم الشيخ عزّ الدين القسّام، ولم يتوقّف الشعب السوري عن المساهمة في المعركة، وشاركت قياداته السياسية في عام 1948 بكتائب مقاتلة، مثل المراقب العام للإخوان المسلمين مصطفى السباعي، وفوزي القاوقجي (جيش الإنقاذ)، وغيرهم. وبعدها في العدوان الثلاثي، برز اسم الاستشهادي جول جمّال.

كما استشهد سوريون مع المقاومة الفلسطينية من الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، مثل الشهيد عمر بلعة، ابن حماة، وغيره. حتى في ظلّ أسرة الأسد، لم يتردّد الشعب السوري في دعم القضية، وكما سمعتُ من الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، مباشرةً، إن أكبر دعم مالي من الشعوب العربية كان يصل من الشعب السوري.

لا يحتاج الشعب السوري، ولا الثوار الفاتحون، شهادةً لمعرفة موقفهم الحقيقي من القضية الفلسطينية

وجدت الثورة السورية نفسها في مأزق، تماماً كما "حماس"، التي غادرت دمشق حتى لا تكون شاهدةً على جريمة بشّار الأسد، وحافظت على علاقاتٍ متوازنة مع إيران ومحور المقاومة. منذ اليوم الأول للثورة السورية، حُيّدت القضية الفلسطينية من النظام وداعميه من "محور المقاومة" ومن الثوار على السواء، وهذا كنتُ أشاهده بنفسي في المنطقة الجنوبية، التي كانت توجد فيها جبهة النصرة و"داعش" وفصائل الجيش الحرّ وحزب الله والمليشيات الإيرانية كلّها، فلم تكن لهم معركة مع إسرائيل. كانت القضية سورية، يريد الثوار تحرير سورية من النظام القمعي. وفي المقابل، كان النظام ومن سانده يريدون تطهير سورية من الثوار. وهنا لا علاقة لإسرائيل، فظلّت الجبهة مع الجولان نظيفةً بقرار الطرفَين.

حاولت إيران، في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، إحياء الجبهة، لكنّ النظام كان قد اختار إسرائيل، كما كشفت مواقع إسرائيلية وأميركية كثيرة أن النظام السوري باع "محور المقاومة"، واختار المبادرة الإماراتية للدخول في المشروع الإبراهيمي. وهذا ما أكّدته صحيفة الأخبار المقرّبة من حزب الله في مقال لرئيس تحريرها إبراهيم الأمين. كما عرفتُ من قيادات في "محور المقاومة" أن الاتصال انقطع مع بشّار الأسد في آخر يومين، ولم يتمكّن الإيرانيون من العثور عليه، وانقطع الاتصال بينه وبين شقيقه ماهر، كونه انتقل إلى المربّع الروسي والتطبيع. واختار النظام نفسه ألا يخوض معركة "طوفان الأقصى".

يسجّل للثوار أنهم اختاروا توقيت المعركة بعد أن وقّع حزب الله اتفاق وقف إطلاق النار، لم يطعنوا حزب الله في الظهر وهو يقاتل إسرائيل، مع أنه لم يتوقّف عن طعن الثوار في الظهر وهم يحرّرون بلدهم. تمكن مناقشة نظرية "تحييد إسرائيل" إلى أن تتمكّن من تحقيق أولوياتك، ولو افترضنا أن الثوار منذ دخلوا دمشق قالوا إن هدفهم استكمال المعركة مع العدو الصهيوني، فهل كانت النتيجة تحرير الجولان؟ أم ستكون نتيجة دخول الجيش الإسرائيلي مناطق استراتيجية، بما فيها مناطق النفط التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)؟

اليوم، من خلال الأولويات الخمسة التي أعلنها الرئيس السوري الجديد، تبدو المعركة مؤجّلة، وليست معركةً ملغاة. هذا ما يتمنّاه الحريصون على الثورة السورية، فلا يمكن أن ينسى السوريون قضية فلسطين، تماماً كما لا يمكن أن ينسوا قضية الجولان، ومليون نازح من بينهم الرئيس الشرع. لا يمكن التفريط بمياه سورية، فشريان الحياة السوري مرتبط بجبل الشيخ وبحيرة طبريا.

تأسس الشعب السوري على أن قضية فلسطين هي قضية سورية

الأولوية حالياً هي بناء سورية القوية، القادرة على تحصيل حقّها من العدو الصهيوني، لا يمكن خوض معركة قبل الاستعداد لها. خاض هؤلاء الثوار معركة التحرير ودخلوا دمشق في 8 ديسمبر/ كانون الأول (2024)، لأنهم خطّطوا لهذا اليوم منذ سنوات. لا يمكن فتح معركة مع العدو في الوقت والمكان المناسبين للعدو، الذي يواصل يومياً استفزاز القيادة السورية الجديدة، ومماحكتها، سواء بالإجراءات في الأرض أم بالتصريحات. لا يريد العدو الصهيوني فتح صفحة سلام مع القيادة الجديدة، والعودة إلى "وديعة رابين" لحافظ الأسد، بقدر ما يريدون افتعال مواجهة كبرى يملكون فيها اليد العليا لتنفيذ مخطّطهم في تفكيك سورية، وإعادة تركيبها اعتماداً على حلف الأقليات. بكل وقاحة، تحدّث وزير الحرب الإسرائيلي كاتس عن التحالف مع "قسد" والدروز، وخرجت أصوات سورية علوية تطالب إسرائيل بالتدخّل لحماية السوريين من أبناء الطائفة.

ولعلّ أخطر وأوقح تصريح كان قبل يومين لوزير الأمن كاتس، نقلته هيئة البثّ الإسرائيلية، في أثناء زيارته قمّة جبل الشيخ: "جيش الدفاع الإسرائيلي سيبقى في قمّة جبل الشيخ وفي المنطقة الأمنية لفترة غير محدودة لضمان أمن سكّان دولة إسرائيل... لن نسمح لقوات معادية بالتمركز في المنطقة الأمنية جنوبي سورية من هنا وحتى محور السويداء- دمشق، وسنعمل ضد أي تهديد... سنحافظ على التواصل مع السكان الأصدقاء في المنطقة والتركيز على العدد الكبير من السكان الدروز". وبهذا وسّعت دولة الاحتلال "منطقة نفوذها" حتى طريق السويداء – دمشق، وتهدّد بوقاحة الدولة السورية من أيّ تحرّك لبسط نفوذها ونزع السلاح في السويداء. قبل ذلك، وفوقه، شنّ العدو، مع رحيل المجرم الوضيع بشار الأسد، أكبر عدوان جوي له، فقد نفذ سلاح الجو الإسرائيلي في 11 ديسمبر/ كانون الثاني 2024 عمليةً جوّيةً واسعةَ النطاق في سورية، وُصفت بأنها "أكبر عملية في تاريخ سلاح الجو الإسرائيلي"، وشاركت فيها 350 مقاتلة استهدفت مواقعَ تمتدّ من دمشق إلى طرطوس. واستمرت عدّة أيام، وهذا كلّه رسالة واضحة: ممنوع تسلّح النظام الجديد.

تدرك القيادة السورية أن مهمّتها اليوم بناء الدولة السورية الجديدة من ركام المرحلة السابقة، والشرط لبناء سورية رفعها من قائمة العقوبات

تدرك القيادة الجديدة من دون تكرار أسطوانة النظام السابق (الردّ في الوقت المناسب) أن مهمتها الأساسية لتحرير سورية من نظام الاستبداد قد انتهت، وأن مهمّتها اليوم بناء الدولة السورية الجديدة من ركام المرحلة السابقة، والشرط لبناء سورية رفعها من قائمة العقوبات، وأيّ احتكاكٍ مع الجانب الإسرائيلي يعني بقاء العقوبات الأميركية على البلد برمّته من خلال عقوبات قيصر. ستكون استراتيجية الصمت والصبر والتجاهل صحيحةً من الدولة، رغم أن تصريحاتها في إطار القانون الدولي ليست ممسكاً عليها. في المقابل، ليس صحيحاً صمت أبناء الوطن الذين يستقوي بهم العدو. على المجتمع أن يتحرّك دعماً لوحدة دولته، تماماً كما حصل في قرى درعا التي حصلت فيها اعتداءات إسرائيلية. مطلوب وضروري أن تخرج أصوات درزية تدين وترفض التصريحات العدوانية، والاعتداءات في الأرض، وهذا يساعد الحكومة في استراتيجية الصمت.

أدق تعبير عن العدوان كان للوزير الأسبق فاروق الشرع الذي فاوض الإسرائيليين في عهد حافظ الأسد، عندما قال في اليوم التالي لهروب الأسد، لتلفزيون سوريا، إن هدف الاعتداءات غداة هروب بشّار: "كسر معنويات السوريين في هذه اللحظة الحسّاسة"، وأعتبر أحمد الشرع لاحقا أن لا "مبرر" بعد خروج القوات الإيرانية من سورية لهذه الاعتداءات. ودعا المجتمع الدولي إلى التدخّل وتحمّل مسؤوليته تجاه هذا التصعيد. وقال إن الوضع المنهك الذي خلّفه نظام بشّار الأسد لا يسمح بالردّ على هذه الاعتداءات، مؤكّداً أن الأولوية هي لإعادة البناء والاستقرار في البلاد.

يحفل أرشيف يوتيوب بتصريحات فيديو للقائد السوري عن تحرير الأقصى، وليس الجولان فقط، فضلاً عن حديث أرفع مسؤول شرعي في هيئة تحرير الشام الشيخ مظهر الويس عن "طوفان الأقصى"، ويدرك الإسرائيليون أن هذا لا يعبّر عن هيئة تحرير الشام فقط، بل هو إجماع سوري من أيّام الشيخ عزالدين القسام ابن جبلة. إذا كان الصمت خيار الدولة، فالمؤكّد أنه ليس خيار الناس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق