انتصار غزة وهزيمة نتنياهو
تسمرت العيون أمام شاشات التلفاز في كل أنحاء العالم، تتابع الفلسطينيين في غزة وهم يحتفلون بالانتصار، والفخر بصمودهم وكسر عدوهم، تقودهم كتائب القسام التي كبدت الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، فلم تر الشعوب مثل هذا النموذج الأسطوري في العصر الحديث، خاصة أن الانتصار يأتي بعد فترة طويلة من الإبادة والفظائع التي كان ينقلها الصحفيون الأبطال يوميا بالصوت والصورة.
في مشهد مهيب، احتفل الفلسطينيون بوقف حرب الإبادة وإعلان اتفاق وقف إطلاق النار، باستعراض عسكري وشعبي ضخم في ميدان السرايا بوسط غزة، بعد 15 شهرا من القصف بكل أنواع القنابل والصواريخ الأمريكية، ووسط الأحياء والمدن المهدمة رددوا الأناشيد والهتافات الداعمة للمقاومة، واحتشد الآلاف في رام الله لاستقبال 90 من الأسيرات والأشبال الفلسطينيين من سجون الاحتلال مقابل 3 أسيرات إسرائيليات ضمن دفعة أولى، وينتظرون تحرير الباقين.
شد الأنظار الانتشار السريع لحكومة حماس في غزة، والظهور العلني لكتائب عز الدين القسام بأسلحتهم وملابسهم المميزة، وقدرتهم على فرض السيطرة على كل محافظات القطاع فور سريان الهدنة، وأكد التنظيم المحكم أن غزة عادت إلى ما كانت عليه قبل طوفان الأقصى؛ فالغزيون الذين احتشدوا بالآلاف وأظهروا الاحترام لجنود المقاومة، والتزموا بتوجيهاتهم أثناء تسليم الأسيرات للصليب الأحمر قطعوا الطريق على الخطط الساذجة التي وضعها صهاينة مراكز الدراسات الأمريكية عن اليوم التالي للحرب!
سقوط الردع الإسرائيلي
الإسرائيليون في كرب وصراخ وعويل بسبب الوصول إلى هذه النتيجة، بعد أوهام القضاء على حماس وطرد الفلسطينيين، وكما قال أبو عبيدة في خطاب النصر عن الاحتلال: إن “المعركة أضعفت أسس نظريته الأمنية ووجهت له ضربة كبيرة، وأسقطت نظرية الردع، وتسببت بقتل وإصابة الآلاف من جنوده، وتدمير وإخراج نحو ألفي آلية عسكرية من الخدمة”.
كشفت الحرب في غزة معاني جديدة للانتصار غير القدرة على التدمير والقتل؛ فالإبادة وهدم البيوت وتخريب العمران ليست بطولة، وليست نصرا طالما أن الطرف المقاوم صامد ولم ينكسر، ولديه القدرة على التعافي ومواصلة القتال، فالثور الذي يستخدم قرونه القوية للهجوم والفتك بمن حوله إذا أصيب بجرح نازف فإنه يسقط في النهاية ولن تفيده القرون التي فوق رأسه، وتعد تجارب الأمريكيين في فيتنام وأفغانستان خير دليل على أن الشعب صاحب الأرض يبقى والمحتل يرحل.
بمقاييس المكسب والخسارة فإن مقاومة غزة استطاعت أن تتصدى للغطرسة الإسرائيلية وداعميها من الدول الغربية التي أمدت الكيان الصهيوني بكل أنواع الدعم العسكري والسياسي والمالي، ففي مقابل تخريب غزة وقتل وإصابة أكثر من 150 ألف إنسان فإن الإسرائيليين عاشوا طوال فترة الحرب في رعب ونزوح وخسروا جنودهم، وهرب مئات الآلاف من المستوطنين إلى الخارج.
لقد أدخلهم نتنياهو في حروب مع المحيط القريب والبعيد، جلبت عليهم الصواريخ فوق رؤوسهم، وأراد هو وحلفاؤه فتح جبهات أخرى بنشر صور خرائط مزعومة عن أرض اليهود في دول الجوار، وبعد سقوط بشار دخل سوريا غير مبال بالمواجهة مع أهل الشام، وكان يستعد لضرب إيران والحرب مع تركيا، وكل ذلك بحثا عن انتصار لم يجده في غزة التي ظلت تقاتل حتى آخر يوم.
ترامب أنقذ الأمريكيين والإسرائيليين من جنون نتنياهو
سحب نتنياهو الأمريكيين معه في مغامراته الفاشلة، لذا أراد الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب أن ينقذ أمريكا من التورط في حروب مجرم الحرب المجنون، وأراد أن ينقذ الإسرائيليين من الخراب الذي أوصلهم إليه هو ومجموعة من قادة الصهيونية الدينية المتطرفين؛ فتدخّل لوقف الحرب وألزم نتنياهو بقبول شروط حماس التي وافقت عليها في مايو/أيار الماضي.
عندما حاول نتنياهو أن يفعل مع ترامب ما كان يفعله مع بايدن نشر ترامب على صفحته على شبكة التواصل التي يملكها فيديو لبروفيسور الاقتصاد الأمريكي اليهودي جيفري ساكس يوجه فيه انتقادات حادة لنتنياهو، واتهمه بأنه “مهووس ويورّط أمريكا في حروب لا نهاية لها”، وأرسل ترامب مبعوثه الخاص قطب العقارات اليهودي ستيفن ويتكوف، الذي نقل إليه رسالة تهديد واضحة، فقبل نتنياهو مكرها ما كان يرفضه!
كان واضحا أن نتنياهو عندما فشل في هزيمة حماس وعجز عن كسر صمود الفلسطينيين قرر توسيع الحرب فأشعل مواجهة مع إيران لكن الأمريكيين دافعوا عنه في المرة الأولى واحتووا التصعيد في المرة الثانية، ثم دخل في حرب ضد حزب الله في لبنان فتدخلت الولايات المتحدة وفرنسا للفصل بين جبهة لبنان وجبهة غزة ونجحتا في إبرام الاتفاق المعيب الذي أخمد جبهة لبنان.
وعندما فشل نتنياهو في تحقيق نصر واضح في لبنان قرر تدمير شمال غزة وتهجير السكان، وظل مدة 100 يوم يقصف الشمال لكن المقاومة في بيت حانون وجباليا وبيت لاهيا علمته كيف يكون القتال، وكبدته خسائر ضخمة فعاد للبحث عن حرب جديدة؛ فاستغل سقوط نظام بشار واحتل المناطق الحدودية في سوريا، وقصف المعسكرات والمطارات بزعم القضاء على القدرات الكيميائية والأسلحة النوعية، ثم بدأ التصعيد ضد تركيا التي تساند الحكم الجديد!
وسط كل الحروب والجبهات ظلت جبهة اليمن عصية على الاحتواء، فالحوثيون يطلقون الصواريخ النوعية على أهداف في تل أبيب والمدن الإسرائيلية ويستهدفون السفن، وعجزت الولايات المتحدة وبريطانيا وتحالف الازدهار عن حماية الملاحة البحرية في باب المندب، وفشلت الضربات العسكرية في احتواء التهديد الحوثي ومنع الصواريخ والمسيّرات حتى آخر يوم.
الخوف الأمريكي من توسع الحرب
أعطى الأمريكيون نتنياهو الوقت والدعم بلا حدود ليقضي على حماس، ولكنه فشل وتصدعت حكومته، وبدأ الكيان يتخلخل من الداخل، وكان الانهيار قاب قوسين أو أدني، فلم يكن أمام الرئيس الأمريكي الجديد بتشجيع من كبار اليهود الأمريكيين الرافضين لاستمرار الحرب إلا التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتفادي التورط في حروب جديدة خاسرة تخصم من رصيد الولايات المتحدة المتآكل؛ فترامب ليس أكثر رحمة من بايدن، ولكنه رأسمالي يجيد تحقيق المصالح بالصفقات ويكره الحروب.
قد يحاول نتنياهو إفساد الصفقة لاستئناف العدوان لكن الرياح ليست في صالحه، وليس سهلا إعادة الساعة إلى الوراء؛ فالعدوان فشل، ولو استمرت الحرب أعواما أخرى فلن يحقق الإسرائيليون أهدافهم المستحيلة، وسيواجهون أجيالا فلسطينية خرجت من تحت الجمر والركام تبحث عن ثأرها وتستكمل مسيرة من استشهدوا.
لقد انتصرت حماس، وضاعت أحلام نتنياهو بإعادة رسم الخرائط وتغيير الشرق الوسط، فما بعد الطوفان ليس كما كان قبله، ولن يجرؤ زعيم عربي على التطبيع مع مجرم حرب يداه ملطختان بالدماء، فما فعلته غزة مذهل وهو بداية لعصر جديد من العزة والقوة، ونهاية للضعف والخذلان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق