الثلاثاء، 21 يناير 2025

غزّة.. مآتم العتمة

 

غزّة.. مآتم العتمة
يوسف الدموكي
صحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة
في ذلك النفق البعيد تحت الأرض، من دون صحبٍ ولا أهل، وإنما رفاق سلاح لا سواهم، مقاتلٌ أنيقٌ وسيمٌ ترك كلّ ما يملك خلفه، وودّع كلّ من يحبّ في نفسه، وعانق أمه عشر مراتٍ في صورتها المصغّرة التي يحملها في جَعبته العسكرية، ووعد أخته بالعودة عشرين مرّة من دون أن تسمع صوته ولا مرّة، وقبّل يدي أبيه كلّ صباحٍ من دون أن يعلم أنهما مبتورتان من بداية العدوان، وخاطب حبيبتَه في نفسه، ابنة الحي التي يحبّها منذ الصغر، وقطع لها عهدًا بالجمع عمّا قريب، بأن يدقّ باب العم، ويحمل بين يديه باقةً كبيرة من زهور غزّة، وفوقها الكثير من الأمنيات والأسرار المؤجّلة، لما بعد الحرب بقليل.
في ذلك النفق البعيد، تدثّر الفتى برحمة الله، وتزوّد بالجهاد في سبيله، وتصبّر بالرباط على جبهاته، وصبّر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وقد كان حريًّا به أن يستخدم شهادته في شيء غير الشهادة التي تقضي بانتهاء الدنيا، لكنه آثرَ أن يحمل السلاح بدلًا من المسطرة، والياسين بدلًا من "أرسطو"، ويتوشّح بالشال ملثمًا بدلًا من الاتشاح بالبالطو الأبيض أو الروب الأسود، وقفَ الرجل يرقب الفجر الذي لن يأتي إلا بدمه ودم الذين يحبّهم، فكتم الخبر في نفسه، واستنشق المجد في صدره، وحمل بقيةً من كلّ الذين يحبّهم، ويوصي أخًا له إن عاد أن ينظر فيتفقد حالهم، وبحدّ ذاته يوصيه ذلك الأخ بوصايا مشابهة تخصّ أمه، ولا أحد آخر، فلم يتبقّ لها سواه.
آثرَ المقاوم أن يحمل السلاح بدلًا من المسطرة، والياسين بدلًا من "أرسطو"
في ذلك الميدان القريب، على وجه الأرض، تحت لهيب الشمس، في عزّ الحرارة والحرب الضروس، مستأسدًا يتوغل، ويقتحم، ويزاحم الجنود المدججين بالسلاح، ويضع نِقره من نقر دبابةٍ مجهزة بملايين الدولارات، وهو كلّ ما عليه لا يساوي ألف دولار فقط، لكن القيمة والثمن لا يحسب بما كان من طلاء في الخارج، وإنما بالمعادن التي في الداخل، ولا تظهر إلا عندما تصهر، وقد صهرت فبان المعدن الثمين، ذهبًا مخلوطًا بالعقيق الأحمر القاني، بمسكٍ لا يخفى على رئتي مؤمن، بصلابةٍ تقرؤها من عينيه اللتين تغادران في وداعةٍ ومن دون وداع.
في ذلك البيت المهدّم، حيث تمترسَ رجال الله وجنده المظفّرون، يقاتلون حتى الرمق الأخير، يجاهدون مراراتِ النفس أولًا، ويكابدون غصّة القلب، ويحاولون ألا يروا أمامهم ذلك الشريط الذين لن يعانقوا فيه أحبابهم إلا بعد زمن طويل، يسترخصون ذلكم كله، ويقبلونه، ويدعون الله أن يتقبله، ليفرح آخرون من بعدهم بثمرة غرسهم ودمائهم ورفاتهم، ولا يهم أن يحملوا على الأكتاف منصورين يومها، ولا أن يحملوا على الأكتاف شهداءَ، وإنما تكفيهم حفرةٌ ودعوة وقبلة فوق الردم، مكفّنين بما ماتوا وهم يرتدونه، كالجعبة العسكرية فوق ذلك الفتى، حيث في جيبه الأيمن دعوات أمه، وحصن قلبه، ونظرات أبيه، وعهود أخته، وفي جانبه الأيسر كلّ تلك الأمنيات المؤجّلة لخطيبته، ولكن، لن تكون إلا بعد حين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق