عطية الله ترامب الجديد... وكأنه نتنياهو
هذه النسخة الجديدة من دونالد ترامب تختلف عن نسخة 2017-2021 في الشكل، لكن المضمون واحد، إذ يطلّ الرجل الذي سيقود الامبراطورية الأميركية أربع سنوات على الأقل بأداءٍ جديدٍ ومختلف، ينحو إلى ما يُمكن وصفها بالعبثية الخشنة، في مقابل العبثية العبيطة التي صدّرها للعالم حين صار رئيسًا للمرّة الأولى.
تبدو هذه الخشونة، أو الصرامة المُدّعاة، محاكاة لخطاب بنيامين نتنياهو حين يتحدّث عن فلسطين ومنطقة الشرق الأوسط، إذ يدشّن ترامب زمنه الجديد بمقاربة أو رؤية للعالم تشبه رؤية اليمين الصهيوني للشرق الأوسط، فيمعن في إظهار القدرة على البطش والفتك بكلّ من يعترض طريقه، وكما يعلن نتنياهو ويمينه المهووس أنه سيغيّر كلّ شيءٍ في المنطقة لصناعة شرق أوسط جديد تقوده إسرائيل وتهيمن عليه، يفعل ترامب الشيء نفسه حين يعلن تدشين العصر الذهبي لإمبراطوريته، ذات الذراع الطويلة التي يمكنها فكّ وتركيب العالم من جديد وفقًا للتصوّر الأميركي، أو بالأحرى تصوّر ترامب وفريقه المُنتقى بعنايةٍ من بين الأكثر انحيازًا للكيان الصهيوني.
يتحدّث ترامب وكأنه في البدء خُلقت أميركا ثم خُلق العالم على هوامشها، وفي خدمتها وتحت إمرتها، تمامًا مثل نتنياهو ومعسكره اليميني الصهيوني المتعصّب، حين يرون أن الله خلق إسرائيل ثم خلق ما حولها لخدمتها، فليس ثمّة ما تُسمّى فلسطين وما يُعرف بالشعب الفلسطيني، وكلّ من يعارض هذه العقيدة أو يناوئها عدو وإرهابي ولا يستحق الحياة.
ليست مصادفة أن يكون أوّل قرارات ترامب إلغاء عقوبات بايدن على مستوطنين صهاينة ارتكبوا أعمال عنف ضدّ فلسطينيين في الضفة الغربية، وبعدها بسويعات تنطلق آليات الاحتلال الصهيوني لتنفيذ عدوان شامل على جنين بالضفة الغربية المحتلة، تحت اسم "عملية السور الحديدي" لتثبيت موجات الاستيطان وتوسيعها في مدن وبلدات الضفة، التي يراها الاحتلال بعين تلمودية وعقيدة صهيونية تريد تسميتها "يهودا والسامرة" تمامًا كما يقرّر ترامب تغيير اسم "خليج المكسيك" إلى خليج أميركا، ومصادرة قناة بنما وإخضاعها لهيمنة الإمبراطورية الترامبية.
وكما يعلن نتنياهو عدم اعترافه بمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، ويصنّفهما ضمن الكيانات المعادية (الإرهابية) ولا يقيم وزنًا للمنظمات الأممية ولا يعتدّ بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، يعلن ترامب انسحاب أميركا من منظمّة الصحة العالمية، والخروج من اتفاقية المناخ مرّة أخرى، بعد أن كان قد دشّن رئاسته الأولى بالإجراء ذاته.
لم تكن مصادفة أن من أوّل ما فعله ترامب هو الانسحاب من اتفاقية المناخ، إذ كان ذلك إعلانًا رسميًا منه إلى العالم بأنه منحاز إلى التلوّث، ومتحالفٌ مع القبح حيثما وجد، يكره المتحضّرين ويفضّل القتلة الملعونين، ذوي الكيمياء المشتركة معه، فيقرّبهم إليه ويستثمر فيهم، يعادي الحق ويصادق الظلم... وبعبارة واحدة: مع إسرائيل، ومن ترضى عنهم إسرائيل، ولو خسر العالم كلّه.
قدّم ترامب نفسه في رئاسته الثانية باعتباره هدية الله إلى أميركا والعالم، وما فوزه في انتخابات الرئاسة إلا تكليف إلهي له، وبذلك هو يستمدّ سلطته من الله، هذا الوهم يسكن رأسه منذ أن جاء رئيسًا في المرّة الأولى أيضًا، حيث كان يرى نفسه تجسيدًا لنبوءاتٍ توراتيةٍ من العهد القديم، ومن ثم يضع كلّ صلفه وصفاقته داخل غلافٍ تلمودي كهنوتي، مدّعياً أنه المكلّف من السماء بكلّ ما يقوم به، من تهويد القدس إلى الحرب التجارية ضدّ الصين، وبنصّ عبارته حينذاك: "أحد ما كان عليه أن يقوم بهذه المهمة"، قبل أن ينظر إلى السماء، ويفتح ذراعيه قائلاً: "أنا هو المختار".
ولذلك لم يكن غريبًا أن يحتفي بتغريدات الصهاينة عنه، من عينة المذيع المحافظ واين آلن روت الذي قال إنّ "الرئيس ترامب هو أفضل رئيس بالنسبة لليهود ولإسرائيل في تاريخ البشرية (...) واليهود في إسرائيل يعشقونه كما لو كان ملك إسرائيل".
نتنياهو، مثل ترامب، يمنح جرائمه ضدّ الإنسانية صفة القداسة، ويعتبر سرقة الأوطان والسطو على التاريخ والجغرافيا معطى إلهيًا، هو نفسه "عطية الله" إذا بحثت عن معنى اسمه في اللغة العبرية، فيدّعي أنه "ملك إسرائيل" المكلّف من الله بإعادة بناء الشرق الأوسط، وتوسيع حدود كيانه المحتل في عمق الأراضي العربية، تلك حدود مملكة الرب، ومن ثم كّل ما يفعله مشروع، وأخلاقي لأنه باختصار إلهي.
والحال كذلك، ليس ثمّة ما يبرّر هذه الحالة من "التفاؤل اللاإرادي" التي تصيب عربًا سرّتهم عودة ترامب فراحوا يروّجون أنه سوف يصنع السلام في المنطقة، فكلّ الشواهد تنطق بأنّ القادم هو إحياء ما عُرفت بخطّة ترامب لسلام الشرق الأوسط، أو صفقة القرن التي تلقفها نتنياهو أوّل مرّة ليُخاطب ترامب: "أنت أعظم صديق حظيت به إسرائيل في البيت الأبيض".
ويصف خطته بأنها أعظم ما حصل عليه الكيان الصهيوني منذ اعتراف الرئيس الأميركي هاري ترومان بدولة إسرائيل في عام 1948.
السؤال الآن: ما المتوقع من "عرب ترامب" هذه المرّة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق