الاثنين، 21 يوليو 2025

صراع النبوءات في الشرق الأوسط

صراع النبوءات في الشرق الأوسط

 إن بناء مشروع حضاري جامع يُعيد للأمة مركزها ليس ترفًا فكريًّا، بل ضرورة وجودية في مواجهة طوفان الأساطير الدموية 
رئيس أكاديمية الإدارة والسياسة للدراسات العليا

لم تعد المواجهات مجرد صراعات تقليدية على السلطة أو الأرض، بل تحوّلت إلى معارك تؤدلجها نبوءات آخر الزمان، وتُغذّيها سرديات لاهوتية تجعل من الدم طقسًا مقدسًا، ومن القتل واجبًا إلهيًّا. وفي هذا السياق، تبرز الحاجة الماسة لفهم هذه الرؤى وتأثيراتها على السياسات والتحالفات، لتفكيك الأزمة وتأمل مآلاتها، ما بين فرص للسلام أو الانزلاق نحو هاوية مدمّرة.

تيارات اليمين الإنجيلي -التي تضم شخصيات نافذة كالسفير هاكابي ووزير الخارجية السابق بومبيو- تؤمن بأن قيام إسرائيل ومعاركها ضد (إيران) هي مقدمات ضرورية لنهاية الزمان وعودة المسيح

في واحدة من أبرز تمثّلات هذه النبوءات، وقف رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو عند حائط البراق، يضع أوراقه في شقوقه "المقدسة"، ويتوعّد إيران وغزة ولبنان والضفة بعدوان متسلسل.

ذلك المشهد الذي يحمل دلالات دينية عميقة، يتحول إلى شرعنة سياسية للعنف، بينما يُمنع الفلسطيني من رفع يديه بالدعاء على أبواب المسجد الأقصى! المفارقة صارخة: يُمنح الاحتلال شرعية دولية لتحريضه، بينما تجرَّم المقاومة، ويُختزل دفاعها المشروع في تهمة "الإرهاب".

في قلب هذا المشهد المتفجّر، تتجلى "الصهيونية المسيحية" كإحدى أخطر المنظومات المؤثرة في صياغة السياسات الأميركية تجاه المنطقة. فتيارات اليمين الإنجيلي -التي تضم شخصيات نافذة كالسفير هاكابي ووزير الخارجية السابق بومبيو- تؤمن بأن قيام إسرائيل ومعاركها ضد فارس (إيران) هي مقدمات ضرورية لنهاية الزمان وعودة المسيح.


وقد أُلهم قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس بهذا التصوّر اللاهوتي، لا بحسابات إستراتيجية بحتة. فالأرض هنا ليست وطنًا لشعب، بل مسرحًا لنبوءة، يُعاد فيها تمثيل دور كورش الفارسي، المنقذ الذي يستجيب لإرادة الرب في النصوص اليهودية.


وعلى الجانب الآخر، في إيران ترتبط المواجهة، وتُؤطّر الحروب في سياق نبوءات دينية. التصعيد، في هذه القراءة، ليس خيارًا سياسيًّا فحسب، بل هو إرهاصات نهاية، وهو شرارة "الفرج"، ما يجعل التضحية مقبولة ما دامت تصبّ في مثل هذا السيناريو. وهكذا، يتم تجريد الصراع من مسؤولياته الواقعية، وتُلبَس الكارثة قداسة ترفعها فوق النقد والمحاسبة.


هناك رؤية أخرى، تنظر إلى الحرب من زاوية مغايرة، لا تضعها في إطار النبوءات، بل في منطق الفعل المشروع لنصرة المظلوم والدفاع عن الأرض. وتُحذّر من تسطيح المعركة إلى صراع نهايات، وتدعو إلى أن تُدار بالحكمة، وتُضبط بالبصيرة، وتُوزَن بميزان العدل الرباني.

الإيمان بوعد الآخرة -كما في قوله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفًا}- لا يُحوَّل إلى مشروع سياسي متعجّل، بل يُفهم ضمن سنن التاريخ التي تشترط العمل والصبر ووحدة الأمة.


تتجلى خطورة الرؤية الإنجيلية التي ترى في الدمار العربي والإسلامي "ثمنًامبررًا" لتحقيق الخلاص

وفي خضم هذا التصادم الغيبي، تحتدم المعركة على القدس تحديدًا؛ إذ يجتمع التيار المسيحي الإنجيلي المتطرف مع جماعات يهودية متطرفة- كأمناء جبل الهيكل- على هدف واحد: هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثالث مكانه. هذه الرؤية تُحوّل الإيمان إلى تهديد مباشر، والعقيدة إلى مشروع استيطاني مدمر. فهي لا تقف عند انتظار القيامة، بل تسعى إلى صناعتها عبر إشعال حرب كونية باسم الرب.


والمفارقة أن هذه الرؤية المتطرفة لا تواجَه فقط من خارج المنظومة الدينية اليهودية، بل من داخلها. فتيارات كـ"ناطوري كارتا" والحريديم الأرثوذكس يعارضون قيام دولة (إسرائيل)، ويعتبرونه تمردًا على المشيئة الإلهية.


بل ويستحضرون ما يعرف بـ"لعنة العقد الثامن"، المستندة إلى التاريخ اليهودي، الذي يفيد بأن أية مملكة يهودية لم تصمد لأكثر من 80 عامًا. ومع دخول (إسرائيل) عامها الـ77، تُعاد هذه "اللعنة" إلى واجهة الخطاب الديني التحذيري، في إشارة إلى اقتراب انهيار الكيان من الداخل.


كما تُسجَّل مفارقة إضافية في وجود تيارات دينية يهودية تدعو إلى قيام (إسرائيل)، ولكن من باب مختلف؛ إذ ترى أن هذا القيام هو علامة على غضب الرب على الأغيار (غير اليهود)، وأن هذا الغضب الإلهي يجب أن يتجلى بوضوح في انتصار اليهود عليهم. في هذه القراءة، لا يُنظر إلى قيام (إسرائيل) كنعمة، بل كأداة لعقاب العالم، وتحقيق عدالة إلهية تُعلي من شأن بني (إسرائيل).


في ظل هذا السواد، يبرز الأمل في يقظة الشعوب، ووحدة الصف الإسلامي -بل والمسيحي المستنير- على أرضية إنسانية تُقدّم الإنسان على النبوءة، والعدل على الانتقام، والسلام على الفوضى المؤدلجة

وفي المقابل، تتجلى خطورة الرؤية الإنجيلية التي ترى في الدمار العربي والإسلامي "ثمنًا مبررًا" لتحقيق الخلاص. فوفقًا لتأويلات "سفر الرؤيا"، يُباد ثلثا البشرية في معركة "هرمجدون"، قبل أن يظهر المسيح ويُقيم "مملكة السلام الألفي".


بهذه المنظومة اللاهوتية، يصبح سفك الدم الفلسطيني والعربي مقدمة لخلاص لا يخص إلا المؤمنين بنسختهم من الرب، وتتحول السياسة الأميركية إلى أداة تنفيذيّة لهذه الخرافة.


وسط هذا كله، تُخاض حرب ثقافية شرسة لا تقل ضراوة عن المعارك العسكرية! فهي حرب على الوعي، وعلى تأويل النص، وعلى تكييف الدين لصالح مشاريع استعمارية مقنّعة بالقداسة! إنها لحظة انهيار أخلاقي، حين يُشرعَن الدمار باسم الخلاص، ويُجرَّد الإنسان من حقه في الحياة لأن وجوده لا يتماشى مع "نبوءة" ما.

لكن في ظل هذا السواد، يبرز الأمل في يقظة الشعوب، ووحدة الصف الإسلامي -بل والمسيحي المستنير- على أرضية إنسانية تُقدّم الإنسان على النبوءة، والعدل على الانتقام، والسلام على الفوضى المؤدلجة.


إن بناء مشروع حضاري جامع يُعيد للأمة مركزها ليس ترفًا فكريًّا، بل ضرورة وجودية في مواجهة طوفان الأساطير الدموية. فصراع النبوءات، إذا تُرك بلا وعي ناقد، قد يحوّل الشرق الأوسط إلى مسرح دائم ليوم القيامة.

فهل نستطيع نزع القداسة عن الدم، وإعادة قداسة الإنسان؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق