عشائر بدو سوريا.. جذور عميقة في التاريخ وامتداد في الجغرافيا
عشائر البدو عنصر أساسي في تركيبة المجتمع السوري، إذ يعود وجودها إلى قرون طويلة، حين هاجرت قبائل عربية من الجزيرة العربية واليمن إلى بادية الشام بحثا عن الماء والكلأ. واستقرت هذه العشائر في مناطق شرق ووسط وشمال سوريا، وحافظت على نمط حياة بدوي مبني على الترحال وتربية الإبل والأغنام وحماية القوافل والتجارة الصحراوية.
وفي ظل غياب إحصائيات رسمية، تشير بعض التقديرات إلى وجود نحو 25 قبيلة عربية في سوريا تنحدر منها مئات العشائر، وتتركز بشكل رئيسي في البوادي الممتدة بين حمص وحماة ودير الزور والرقة والحسكة وصولا إلى تخوم السويداء وحوران جنوبا.
وقد أدى بدو سوريا أدوارا بارزة عبر التاريخ، فمنهم قادة شاركوا في مقاومة العثمانيين، وآخرون قاوموا الاستعمار الفرنسي، ومنهم زعماء كان لهم تأثير في صياغة التحالفات السياسية والاقتصادية في المنطقة.
يتميز البدو بنظام اجتماعي صارم مبني على القبيلة والشيخ الذي يمثل رمز الحكم والسلطة، ويتمسكون بعادات الضيافة والسخاء والكرم، إضافة إلى الشعر النبطي والغناء البدوي الذي يوثق الذاكرة الجماعية، وترتبط حياتهم اليومية بتربية الإبل والأغنام والخيل، في حين تعتبر الخيمة رمزا لهويتهم البدوية.
أقسام العشائر العربية في سوريا
تنقسم العشائر في سوريا إلى 3 فئات كبرى وفقا لدرجة ارتباطها بحياة البادية وأسلوب عيشها:
- عشائر متحضرة: وهي العشائر التي استقرت في القرى والحواضر منذ أجيال واندمجت في الحياة الزراعية أو التجارية في المدن وضواحيها. وغالبا ما تحتفظ هذه العشائر بأسمائها وأنسابها القبلية رغم تخليها عن نمط الترحال الكامل، وقد أصبحت جزءا من النسيج الاجتماعي للمدن والأرياف.
- عشائر شبه متحضرة: وهي العشائر التي جمعت بين الاستقرار الجزئي في القرى والأرياف وممارسة بعض الأنشطة البدوية التقليدية مثل تربية المواشي والتنقل الموسمي، وتمثل هذه الفئة حالة وسطى، إذ حافظت على كثير من العادات القبلية وفي الوقت نفسه تبنّت نمطا أكثر استقرارا في السكن والمعيشة.
- عشائر البدو: وهي العشائر التي ترتبط ارتباطا وثيقا بحياة البادية والترحال، وتعتمد بشكل رئيسي على تربية الإبل والأغنام والتنقل وفق المواسم بحثا عن الماء والكلأ، وتتميز بتمسّكها الشديد بقيم وأعراف البدو التقليدية. وقد اضطر عدد كبير من عشائر البدو إلى الاستقرار في الحواضر نتيجة عدم استقرار الأوضاع الأمنية بسبب اندلاع الثورة السورية عام 2011، ورغم استقرارهم ظلوا محافظين على نمط حياتهم البدوي كما احتفظوا كذلك بمسمى "عشائر البدو" الذي ظل ملازما لهم.
محطات تاريخية لعلاقة العشائر بالسلطة المركزية
يعود الوجود القبلي في سوريا إلى عصور قديمة حين هاجرت مجموعات قبلية عربية من اليمن وجنوب الجزيرة العربية وانتشرت في العراق وبلاد الشام، بينما عبرت قبائل أخرى صحراء سيناء باتجاه شمال أفريقيا.واستقرت بعض هذه القبائل في الحواضر والقرى مفضلين الزراعة والتجارة، في حين حافظ آخرون على نمط الحياة البدوية المرتكز على الترحال والرعي.تطورت التركيبة الديمغرافية للمنطقة تبعا للممالك والدول التي تعاقبت على حكمها. ففي صدر الإسلام إبان عهد الخلفاء الراشدين وزمن الدولة الأموية، ظل العرب هم العنصر الغالب في بلاد الشام، قبل أن يدخل العنصر الفارسي في أواخر الدولة العباسية، ثم التركمان والأكراد والأرمن والشركس إبان الحكم العثماني، وهو ما أضاف تنوعا واسعا إلى البنية الاجتماعية في سوريا.
وأسست العشائر العربية علاقاتها مع الدولة العثمانية على مبدأ المنفعة المتبادلة، إذ أوكل العثمانيون إليها مهمة تأمين الصحراء والطرق التجارية مقابل الدعم المادي (المال والهدايا) والمعنوي (منح رمزية ومكانة اعتبارية لبعض شيوخ العشائر)، غير أن أغلبها وقف لاحقا مع "الثورة العربية" ضد الدولة العثمانية في العقد الثاني من القرن الـ20.
وبعد سقوط الخلافة العثمانية، سعى الانتداب الفرنسي إلى كسب ولاء شيوخ العشائر عبر تسجيل أراضٍ واسعة بأسمائهم ومنحهم امتيازات، في محاولة توطينهم ودمجهم في مشروع الدولة الحديثة. وصنف الفرنسيون العشائر إلى قسمين: عشائر رُحّل سُمح لها بحمل السلاح، وعشائر شبه رحل مُنع عنها التسلح.
وقفت معظم العشائر على خط الحياد تجاه الاستعمار، إذ آثر بعض شيوخها الحفاظ على الامتيازات التي يحظون بها، مما دفع البرلمان السوري لاحقا إلى إلغاء "قانون العشائر" الفرنسي وإصدار "مرسوم العشائر" الذي استهدف تحويل البدو الرحل إلى مجتمع مستقر.
ومع إعلان الوحدة السورية المصرية عام 1958، أصدر الرئيس جمال عبد الناصر قانون الإصلاح الزراعي الذي حد من ملكيات الأراضي الواسعة، مما أدى إلى تقليص نفوذ شيوخ العشائر ودفع بعضهم للهجرة خارج سوريا.
ومع وصول حزب البعث إلى حكم سوريا، تبنّت الدولة سياسات إضافية لمواجهة القبلية، فأعادت توزيع أراض للفلاحين، ومنعت بعض الرموز القبلية مثل ارتداء العقال، وصوّرت العشيرة باعتبارها "بنية تقليدية متخلفة" يجب تقليص نفوذها.
بعد استيلائه على السلطة، تبنى حافظ الأسد نهجا مغايرا في التعامل مع العشائر، فأعاد لشيوخها شيئا من اعتبارهم ومكانتهم عبر تمثيلهم في البرلمان وتكليفهم بأدوار أمنية في مواجهة التيارات الإسلامية، كما استخدم بعض العشائر لتغيير البنية الديمغرافية في مناطق ذات أغلبية كردية عبر توطينهم فيها.
ومع مرور الوقت، ارتفع تمثيل العشائر في البرلمان حتى وصل إلى 10%، كما تزايد حضورهم في الوزارات والأجهزة الأمنية.
ومع بداية حكم بشار الأسد عام 2000، واصلت السلطة استثمار المجموعات القبلية لصالحها، فأصبح بعض رجال الأمن من أبناء العشائر يتفاخرون بانتمائهم العشائري لتعزيز حضور النظام في مناطقهم، واستُخدمت العشائر كذلك في مواجهة احتجاجات الأكراد عام 2004.
لكنّ فشل سياسات الري والزراعة التي تبنتها الحكومة، والجفاف الذي ضرب منطقة الجزيرة (محافظات الحسكة والرقة ودير الزور) بين عامي 2007 و2008، أدت إلى تدهور الوضع الاقتصادي في المنطقة التي صُنّفت عام 2010 الأفقر في البلاد، مما خلق تصدعا في علاقة العشائر بالنظام.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، انقسمت العشائر في مواقفها، فساند بعض أبنائها الحراك الشعبي وتشكيلات المعارضة، وفضل آخرون الحياد أو الاصطفاف إلى جانب النظام حفاظا على "مكاسبهم التاريخية"، مما أدى إلى نشأة مجموعات مسلحة محلية، وظهر في العشيرة الواحدة مسلحون يقاتلون ضمن فصائل متصارعة، وهو ما تسبب بانقسامات اجتماعية عميقة خاصة في مناطق دير الزور والرقة وحمص.
وبعد تراجع "تنظيم الدولة الإسلامية" وصعود "قوات سوريا الديمقراطية"، تراجع الدور التقليدي للقيادات العشائرية، وحل محلهم جيل جديد من الناشطين وقادة المليشيات المحلية، وتحولت بعض العشائر إلى حواضن اجتماعية لفصائل مسلحة مدعوم بعضها من قوى خارجية.
وفي ظل هذا الوضع، طالبت عشائر "الجزيرة السورية" (منطقة الجزيرة: محافظات الحسكة والرقة ودير الزور) بحصة أكبر من الحكم الذاتي والثروات، واندلعت احتجاجات قادتها هذه العشائر ضد "قوات سوريا الديمقراطية" التي كانت سابقا حليفة لها.
وبعد سقوط نظام الأسد أواخر عام 2024 وتشكيل حكومة سورية جديدة، تغير النهج تجاه العشائر، إذ اعتبرتها السلطة شريكا أساسيا في إعادة بناء الدولة. وتمثل ذلك في تعيين ممثلين للعشائر في مناصب رسمية، وإطلاق برامج لإعادة الإعمار في المناطق العشائرية.
كما سعت الحكومة أيضا لإعادة دور المجالس العشائرية التقليدية ضمن إطار قانوني، مقابل الالتزام بعدم إنشاء مليشيات مسلحة خارج سلطة الدولة. ورغم استمرار تحديات النفوذ الخارجي والانقسامات الداخلية، عبّرت هذه السياسات عن دافع في دمج العشائر ضمن مشروع وطني جامع بعد عقود من التوظيف الأمني والسياسي.
التوزيع الجغرافي للعشائر
محافظة الحسكةهي موطن لأكبر التجمعات العشائرية في سوريا، وتعتبر قبيلة "شُمّر" أبرزها، وتتفرع إلى بطون رئيسية هي عبده والأسلم وزوبع، وتتميز بامتداد عشائري تاريخي قوي في العراق، مع حفاظها على التقاليد البدوية وتحالفات واسعة تتجاوز الحدود.
وفي منطقة القامشلي شمال المحافظة تستقر عشائر العساف والحريث واليسار والجوالة والراشد وبني سبعة وحرب والغنامة والبوعاصي، وهي عشائر تنتمي إلى قبيلة طيّئ، إضافة إلى فرع من المعامرة وكذلك البقارة (البكارة).
كما تستقر في المنطقة عشيرة الجبور المنحدرة من قبيلة زبيد، والتي تعيش أساسا بين الزراعة وتربية الأغنام، ولها أيضا حضور بارز شمال وغرب العراق. وتضم المحافظة أيضا عشائر أصغر مثل البوشعبان والشرابيين التي تنتشر جنوبا.
محافظة الرقةتتنوع التركيبة العشائرية في الرقة بين قبائل كبرى وبطونها المختلفة، إذ توجد فيها عشائر شمّر التي تحافظ على امتدادها التاريخي في الجزيرة السورية. وتبرز أيضا قبيلة البقارة التي تضم عشائر مثل البوحسن والبومعيش، ويعتمد أبناؤها على الزراعة وتربية المواشي مستفيدين من قربهم من المدن.
كما تستقر في المنطقة قبيلة بني خالد، وهي فرع من القبائل القحطانية، وتضم مجموعة من العشائر المعروفة تاريخيا بسيطرتها على طرق القوافل ومفارق البادية.
محافظة دير الزورتتوزع عشائر بدوية وعربية متنوعة في دير الزور، وتعد قبيلة العكيدات (العقيدات) أكبرها وتشمل عشائر البوسرايا والبوخابور والبورحمة والقرعان والبوحسن والبوسلامة، وتحتفظ هذه المجموعات بهوية بدوية قوية متوارثة عبر الأجيال.
كما تنتشر في المحافظة قبيلة البقارة، ويجمع أبناؤها بين الزراعة وتربية المواشي، إضافة إلى عشيرة البوصليبي وهي عشيرة عدنانية أصغر حجما تعيش في الريف وتعتمد على نشاطَي الزراعة وتربية المواشي وتتميز بتداخل اجتماعي كبير مع كل من العكيدات والبقارة.
محافظة حمص والبادية الوسطىكما تتمركز في البادية الشرقية من حمص وحتى تخوم مدينة تدمر؛ عشيرة الفواعرة المعروفة بدورها التقليدي في حماية قوافل التجارة ونشاطها في نقل البضائع بين المدن والقرى عبر الصحراء. كما توجد بعض عشائر قبيلة بني خالد في أطراف حمص.
محافظتي حماة وحلب والشمال السوريتوجد في هذه المنطقة قبيلة الحديديين البدوية العدنانية الكبيرة التي تضم بطونا وعشائر متعددة، وتتمركز بشكل رئيسي في بادية حلب وحماة، وتشتهر بتاريخها العريق في تربية الخيول العربية الأصيلة ومهارات الفروسية، مما جعلها رمزا للفروسية في الشمال السوري.
محافظة السويداء (بادية حوران الشرقية والجنوبية)تُعدّ السويداء معقلا للطائفة الدرزية المستقرة في جبل العرب، لكنها في الوقت ذاته تحتضن عشائر عربية بدوية ذات امتداد تاريخي عميق في المنطقة، من أبرزها عشيرة السرحان، إحدى العشائر التي تنحدر من منطقة الجوف شمال الجزيرة العربية واستقرت في قرى شرقية منها ملح وخربة عواد.
كما تتمركز فيها عشيرة السلوط، وهي إحدى فروع قبيلة عنزة المتمركزة في جنوب شرق المحافظة قرب الحدود الأردنية، إضافة إلى عشيرة الزويد، وهي أيضا من عنزة، وتستوطن البادية الشرقية، أما عشيرة الحرافشة، فهم الذين توطنوا تدريجيا في البادية ذاتها.
وتركز حضور بدو السويداء في القرى والبلدات الواقعة شمال وشرق المحافظة، بينما استقر بعضهم داخل مدينة السويداء، وتحديدا في حي المقوس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق