أم الأقليات تستعرض في سورية وما بعدها
بنظر الكيان الصهيوني، كلّ دولة عربية بمثابة مساحة مُتاحة لفرض النفوذ الإسرائيلي.
ونظرياً وعملياً، تمضي تل أبيب في تنفيذ رؤيتها للشرق الأوسط الذي تريده مسكونة بيقين أنّها المالك الحصري لهذه المنطقة ومديرها العام، وليس الآخرين الجالسين في مقاعد الحكم العربية سوى مجموعة من الولاة والمحافظين، من سلطتها معاقبتهم ومكافأتهم وتغييرهم أو تثبيتهم وقتما تشاء.
وفي سورية الجديدة، يتجلّى النموذج الأوضح لهذا التصوّر الصهيوني، إذ تضرب وتعاقب وتحمي وتأمر وتنهى وتفرض سيطرتها على الأراضي والأجواء، من دون ردّة فعل واحدة من دمشق أو شقيقاتها العربيات، المزعومات، وكأنّ ثمّة قراراً عربياً بالإجماع قد صدر بالخضوع للمنطق الإسرائيلي الأميركي الذي أعلنه دونالد ترامب في خطاب النصر على الديمقراطيين يناير/ كانون الأول الماضي "سنغير كل شيء في المنطقة لصناعة شرق أوسط جديد"
ليتولى نتنياهو الشرح بالقول "تقوده إسرائيل وتهيمن عليه".
هذا ما تطبّقه تل أبيب بشكل عملي في سورية، إذ تعلن الوصاية على السويداء ومناطق الدروز، وتحدّد للنظام السوري نطاق حركته وتوقيتاتها وحجمها، وتعاقبه بالضرب العنيف إن لم يمتثل، تضربه في قلب دمشق وعلى أطرافها، وتقدّم نفسها للشعوب العربية "أم الأقليات" تحميها وتطعمها وتسقيها وتكسوها وتذهب إليها وتستقبلها كما تشاء، من دون أن يشعر النظام العربي بإهانة أو يستشعر عاراً تاريخياً وحضارياً يتمدّد تحت سرير نومه العميق.
ما تراه يتحرّك أمامك على الأرض منقولٌ بالحرف الواحد من عشرات بل مئات الكتب ودراسات مراكز البحوث العربية والدولية المُكدّسة فوق أرفف المكتبات منذ أكثر من خمسين عاماً معبّأة بهذه السيناريوهات التي تنفجر في وجوه الجميع الآن، وعنوانها الرئيس "اللعب بورقة الأقليات لتقطيع أوصال الوطن العربي وتقسيم دوله".
هذه السيناريوهات الماثلة أمامك عمرها أكثر من خمسين عاماً انعقدت حولها عشرات الندوات العلمية ودارت مئات المناقشات والمناظرات المُتلفزة، تحذّر من انفجار قنبلة تقسيم الدول العربية المركزية، لكنهم وحدهم، الزعماء العرب الملهمين الذين لا يخطئون البتة، لم يهتموا بهذا الأمر ولم يستمعوا إلى آلاف الصرخات في البريّة تنصحهم بالتصالح مع شعوبهم ومجتمعاتهم ومصالحة هذه المجتمعات على نفسها بفتح المجال لتثبيت قيم المواطنة العادلة والديمقراطية والحكم الرشيد، قبل أن ينفُذ المتربّصون من ثغرة الأقليات.
كم ألف مرّة قرأت هذا الرأي بصياغات تختلف باختلاف قائليه من المفكّرين السياسيين والمثقفين منذ رحل الاستعمار وترك لنا "سايكس بيكو" ترتع في جغرافيتنا وتاريخنا
"إن الاستراتيجية الغربية تجاه المنطقة منذ منتصف القرن التاسع عشر تنطلق من الإيمان بضرورة تقسيم العالم العربي والإسلامي إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيها" ؟
كم مائة مرة سمعت وقرأت عن التحذير من انفصال جنوب السودان عن شماله منذ سبعينيات القرن الماضي، أو عن انفصال شمال العراق في دولة كردية، أو تمزيق سورية طائفياً وعرقياً، مع تحذيرات من سيناريوهات مُماثلة في مصر وفي الجزائر؟
كانت السخرية والاتهامات بالمبالغة والتضخيم ردّة الفعل الوحيدة من حكّام عرب كانوا يشعرون بالثقة والغرور بينما النار تشتعل في أحذيتهم وتمتدّ إلى سراويلهم، حتى انهدمت دول وتقزّمت أخرى واقتيدت إلى بيت الطاعة التطبيعي جبراً أو اختياراً.
حتى وصلنا إلى لحظة باتت إسرائيل تسلك وكأنها المالك الحصري لمنطقة الشرق الأوسط، والمُتحكّم فيه سياسياً واقتصادياً، وعلى دول المنطقة أن تعي ذلك وتلتزم به، أو لتُغادر الجغرافيا وتشطب نفسها من الإقليم، ومن يتمرّد على هذه الوضعية الجديدة فسوف يعاقب.
لم تعد دولة الاحتلال تخفي شيئًا من أحلامها ومشاريعها، بعد أن انتقلت من التسلّل إلى الاقتحام في وضح النهار، حتى صارت تعلنها في خطب حكامها الرسمية وعلى شاشات التلفزة، كما فعل وزير ماليتها، ممثّل الصهيونية الدينية المتطرّفة سموتريتش في وثائقي القناة الفرنسية arte الذي أذيع في أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، وحدّد فيه ملامح إسرائيل الكبرى.
فحين سألت المحطة الفرنسية الوزير الصهيوني النافذ عن تصوّره لشكل "الدولة" أجاب بأنها دولة يهودية تُدار وفق قيم الشعب اليهودي، ثم سُئِل عن حدودها، هل سيادة إسرائيل من البحر إلى نهر الأردن فقط؟ أم أنها ستحتل الضفة الأخرى من نهر الأردن؟
فيجيب سموتريتش بابتسامة الواثق "شيئاً فشيئاً بالنسبة لكبار حكمائنا الدينيين قدر القدس أن تمتد إلى دمشق".
هذا عن العاصمة، كما يحلم بها الصهيوني، أما عن الدولة وكما أظهر وثائقي القناة الفرنسية، فإنها تشمل الأراضي الفلسطينية وأيضاً أراضي في الأردن وسورية ولبنان والعراق ومصر وحتى في السعودية.
هذه إسرائيل الجديدة تعلن نفسها أيها العرب..
فهل فيكم رجل رشيد؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق