الأربعاء، 23 يوليو 2025

معبر رفح.. من يملك المفتاح فعلًا؟!

 معبر رفح.. من يملك المفتاح فعلًا؟!

صحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة

بوابة مصريّة، وأخرى فلسطينيّة، وسور ضارب بينهما، و500 متر هي المسافة بين المدخلَين في الجانبين. 

على هذا الجانب فلسطينيون وعلى هذا الجانب مصريون، لا أحد آخر في الجوار، لا جيش عدوّ، ولا قوات بريّة، ولا شيء سوى مساحة واسعة، وبوابة تستطيع إدخال ألف شاحنة سلع في اليوم بلا اعتراض أرضي. 

ثمّة قصف قد يحدث من الجو هنا أو هناك، ولكن، الأغلبيّة ستعبر من دون ضغط أو أوراق سياسيّة، أو حاجة للمساومة. 

لم يعلن الاحتلال شيئًا بخصوص رفح، وحين عبرت الشاحنات لأول مرة لم تحتج إلى إذنٍ ولا تنسيق مسبق، الأمور تسير بشكلٍ عادي، عدا أن قومًا يُبادون من كلّ جانب، يأمنون جانبًا واحدًا في الجنوب الشرقيّ، يمكنهم التنفس من خلاله، ولمَ لا، والأرض مصريّة، والمعبر مصريّ، والقضية واحدة، والمواطنون هم هم بين الجانبين، سوى أنّ أحدهم يسألك “ليه؟” بينما يسألك الآخر “ليش؟”

لا اختلاف حقيقيّ بين الشعبين، وهما شعب واحد في أصله، أكبر من حجم اختلاف هذا الحرف، كلّها أمور صوريّة، نقاط على الحروف وحركات على الكلمات، والأمور “عتب” هنا، وهناك.

ليس هذا هو الوضع بالضبط اليوم، لكنه كان كذلك منذ اليوم الأوّل للسابع من أكتوبر 2023، وحتى مايو في العام التّالي، فلم تصل القوات البريّة إلى محور فيلادلفيا، ولا عسكرت في رفح؛ وإنّما تقتصر ضرباتها على “التّحرُّش بالمعبر” بين فينة وأخرى، فما الذي يضطر بلدًا بحجم مصر، صاحبة المئة مليون إنسان، وربع المتحدّثين بالعربيّة في الكوكب، وصاحبة الباع والذراع، والكلمة والهيبة، أن تنتظر إذنًا إسرائيليًّا لتدخل الطحين لمدينة صغيرة للغاية على حدودها، لا يفصل بينهما فاصل حقيقيّ؟ حتى إنّ البحر يعانق الصخور على الجانبين بالأمواج نفسها دون تفريق، ولدرجة أن يتسلق “العيال” الأسلاك الفاصلة بين الجانبين، فإن هو أسقط قدميه وأفلت يديه أصبح في مصر رسميًّا، وإن هو سقط إلى الخلف عاد إلى غزّة، وهذه هي أقصى أبعاد الحدود بينهما.

ولا أبالغ ولا أتجنى حين أقول إنّ خيار المعبر لم يكن في بال “إسرائيل” من البداية، ولم يكن مخطط التجويع حاضرًا كخطة وإنّما كفرصة مفاجئة، فليس على العميل على الطرف الآخر أن يفضح نفسه إلى هذا الحد؛ يكفيه ما يفعله في الخفاء، وعلانية، ليس عليه أن يكتب على جبهته أنّه عميل ليثبت ولاءه للعدوّ. 

لكنه فاجأهم جميعًا، متفوقٌ على نفسه، فسلّمهم مفتاح “الانتصار” العظيم في معركتهم مع أطفال غزّة ونسائها وشيوخها، أن يجوع هؤلاء جميعًا، دون خشية أن تفشل مصر مجاعته، حتى وإن لم يجرؤ على ذلك رؤساء سابقون، فإنّ الرئيس الحالي يملك من الجرأة -في مقام البجاحة- ما يجعله يقول: لم نغلق المعبر، والمعبر مفتوح، لكن إسرائيل هي من تعرقل وصول المساعدات. 

هذا على أساس أنّ “إسرائيل” كانت تتخيل من البداية ألّا تعبر شاحنة واحدة لغزّة إلّا من خلالها! 

أحلام لم تكن في عقل نتنياهو حين أراد عقاب غزّة، لكنه الإلهام المصريّ الرسميّ.

ثمّ في محكمة العدل الدوليّة أرادت “إسرائيل” التنصل من تهمة العقاب الجماعي بالتجويع وقالت إنّ المعبر مصريٌّ، لا علاقة لإسرائيل به، فما كان من السلطات المصريّة إلّا أن تعذر “أخاها” نتنياهو في حرَجه، ولا تستغل سقطته تلك ولا أزمته، ففي المواقف يعرف الأصدقاء بعضهم بعضا، وقرّرت أَلَّا تسبّب له مزيدًا من الحرج بإدخال المساعدات والنّظر هل يعيقها جيش نتنياهو أم لا، ما كان سيمثل فضيحة محرجة على المستوى العالميّ، لكنّها آثرت “التّأدّب” معه، دون أن ترسل بالونة اختبار بكيس طحين واحد، ودون أن تستغل قطرة واحدة من ماء وجه نتنياهو، وإنّما بدلًا من ذلك أرسلت له قبلاتها وتهانيها، وتمنياتها بالمزيد من النّجاح في خطة التجويع، امضِ وعرش مصر معك، اقضِ عليهم، ونحن سنتولى مسؤولية “الفضيحة” تلك بعيدًا عنك.

ثم ستقول لك لجان العرش إنّ هذا قد يورّط مصر، ومن يضمن ألّا تُقصف المساعدات؟ كأنّ السلطات المصريّة -بعد الشّر– تخشى على صورتها وسيادتها، وكأنّها تخشى كذلك على سمعةِ “إسرائيل” أكثر من إسرائيل نفسها، يا سيِّدي، وأنت مالك؟ أدخل المساعدات الآن، وليُقتل السائقون لا بأس. سأكون، وعدد ممّن أعرفهم، أوّل المتطوعين. دعهم يقصفونا، ولتعبر أكياس الطحين على جثثنا، بدلًا من عبور جثث غزّة على أكياس الطّحين، وما يدريك لو أدخلت وفودًا دوليّة بصحبتها 100 شاحنة كلّ يوم، هل تقصف جميعًا؟ لكن يظلّ الجواب كما هو، “الهدف مصر”، ولذلك لا بُدَّ من إغلاق بوابة الموت على مليوني إنسان في الداخل بغزة، كي تسلم مصر من أوهام المؤامرة!

من يملك المفتاح حقًا؟ مصر تملكه، لكنَّ لصًا يسرق شرفها وكرامتها وسيادتها منذ سنوات مريرة؛ يطبق على أنفاسها، يخبئ المفتاح تحت وسادته، فوق السرير، الذي يبيع عليه نفسه كل ليلة، للعدوّ الشره على بوابة المعبر، بينما يتحرش “بسيادته”.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق