الضمير الإنساني.. على متن أسطول الحرية
كانت أنظار العالم تتجه إلى السفينة "حنظلة"، التي عبرت بحار الأرض نحو أملها في كسر الحصار على غزة، بينما جيرانها العرب يتجاهلون صرخة المعاناة والمآسي، في سبيل تحقيق الجهود الرامية إلى إنهاء حرب الإبادة الجماعية، وبغية التصدي لمشروع التهجير القسري، وقد أبدى مجموعة من النشطاء دعمهم للمسألة الفلسطينية، ونادوا أحرار العالم للانعتاق من سياسات بلدانهم الداعمة لإسرائيل، والوقوف ضد إرادة المحتل الصهيوني وسياسات التجويع والحصار. ورغم سيطرة قوات الاحتلال على هذه السفينة، ومنعها من الوصول، فإن تحركها شكل رسالة لا يمكن للعالم أن يتجاهلها.
ومع أن الرسائل التي تحملها سفن الحرية ومسيرات العودة في العالم، قد ترسم ملامح استفاقة شعبية ضد أبشع الأنظمة وحشية في تاريخ البشرية، وتشكل نزوحا جماهيريا لدعم المسألة الفلسطينية بشتى أنواع اللجوء الإنساني والسياسي في أوروبا، يقف عالمنا العربي والإسلامي عاجزا أمام إرادة سياسية متواطئة مع إدارة أميركية لا تتأخر في دعمها للاحتلال، إذ تقف ضد أي مشروع من شأنه أن يوقف الحرب على غزة.. سياسات جسدتها يد العار الإمبراطوري وهي تشاهد جرائم الصهيونية، في حين أن أساطيل الحرية وصمود المقاومة قد هدمت أبشع السرديات الكبرى لحضارة تفتقد للضمير الإنساني.
مهما بدا البعد الإنساني لحملة كسر الحصار، فإن أسطول الحرية بات يرعب الاحتلال الصهيوني بهدم سرديته، وفضح سياساته العنصرية تجاه "المناهضين للاستعمار"، وإن عدم الاستسلام لإرادة إسرائيل باعتقال النشطاء خطوة أخرى في مقارعة الاحتلال من نوافذه الغربية
رهان الحتمية الجغرافية
لا يكاد الشرق الأوسط يستيقظ من وقع القصف الوحشي على غزة، حتى تتناقل وسائل الإعلام الأخبار عن استباحته عواصم عربية أخرى، هناك بلدان لم تتأخر عن نصرة أولئك الذين تجيشوا لمناهضة أعتى استعمار، ولعل النأي بالنفس عن غزة، لم يمنح أولئك الذين يقاربون تجربة التطبيع سلاما، فالجغرافيا التي تحاصر كيانا استيطانيا استعماريا، باتت اليوم تحت وطأة حصار استيطاني، بتخليها عن المقاومة كشرط لإنهاء الاحتلال، ومع أنها تتذكر جرائم الاستعمار الغربي، فإنها بإرادتها السياسية المنقلبة ضد طموحات شعبها، لا تدخر جهدا في استصدار بيانات هشة تلوم الاحتلال، بدل أن تسوقه إلى المحاكم الدولية، أو تمنع عنه إمدادات السلاح.
كان علينا أن ننتظر أساطيل الحرية وهي تتجه نحو فلسطين، كي ترفع عنها الحصار للمدافعة عن الحق الإنساني للغزيين، فما الذي تعنيه المساعدات الإنسانية ومصائد الموت، والتي لم تعد سوى فخاخ تصطاد بها الإمبراطورية الخبز المخضب بالدم، وتحشر الناجين منهم في معسكرات الموت البطيء؟
أين نحن من تلك الصرخة الجائعة، والعين الدامعة، والصمود الهائل لشعب يعيش مأساة القرن؟ حقا، علينا أن نبحر مع آلاف السفن، وأن نقتفي أثر مسيرات العودة ولو مشيا عل الركب، علنا نكفر عن عجزنا وخذلاننا تجاه أقدس البقاع، وأنقى المآذن، وأسمى المعابد.
إن أسطول الحرية يقارع جبروت آلة الموت الصهيونية، التي تريد اقتلاع أدنى معنى للحياة في القطاع، أو بالأحرى صفة الإنساني الذي يرفض الموت، وليس ذلك شكلا من الخلاص الطبيعي، بل صورة للعالم الشرقي الذي منح الأوروبي حضارة فاقت التصور المادي الغربي. واليوم تعيد سفن الحرية سؤال الحقيقة عن الضمير الإنساني تجاه الفلسطينيين، الذين لم يستسلموا لدعوات الاحتلال وترهيبه.
ومهما بدا البعد الإنساني لحملة كسر الحصار، فإن أسطول الحرية بات يرعب الاحتلال الصهيوني بهدم سرديته، وفضح سياساته العنصرية تجاه "المناهضين للاستعمار"، وإن عدم الاستسلام لإرادة إسرائيل باعتقال النشطاء خطوة أخرى في مقارعة الاحتلال من نوافذه الغربية، عسى أن تستنهض همم أمتنا لتحذو حذو حراك أسطول الحرية، بإعلانها النفير العام لإنهاء مأساة القرن.
علينا أن نستمع جيدا لمعاناة ومآسي الصامدين في غزة، إذ إن قرابين الحرية غالية، والحقيقة تكمن في استرجاعنا الضمير الإنساني، الذي سلبته الدعاية الغربية عبر ترسانة صهيونية طوعت الحضارة وفق معاييرها المزدوجة
فضاء منحاز
ليس من الغريب الاهتمام بفلسطين، لا لأنها الغارقة في سيل الإبادة الجماعية فحسب، بل لكونها معيارا أخلاقيا لقيم الحضارة الإنسانية، ففلسطين كانت وما زالت صعيد العالم الحر وهي تقارع الاستعمار الاستيطاني، وبدل أن ننظر إلى ذواتنا للحيلولة دون الوقوع في الفخ الإمبراطوري، فإننا ننضوي تحت لواء الخنوع والتبعية، دون الإقرار بأن مشكلتنا تكمن في صعوبة التضحية والتخلي عن الاستبداد.
إن أزمتنا لخصتها الهزات الاجتماعية ومتغيراتها التاريخية، وخذلاننا ما هو إلا نتيجة حتمية لصمتنا تجاه المآسي التي عاشتها شعوب الربيع العربي، وانتفاضتها الشعبية ضد الاستبداد، الذي يفرض وريثه قواعد اللعبة الصهيونية ضد مليونين ونصفٍ من الفلسطينيين في معسكرات الجوع والقتل الممنهج، فليس ثمة مشكلة أن تُرفع الأيادي بالدعوات والاحتساب بالصبر لمن يُقصف بالقنابل الحارقة، فنحن بالأمس القريب كنا مغيبين عمن أُلقيت عليهم البراميل المتفجرة، وما شكونا حالنا ولا عجزنا، بل خوفنا من فقد ما نعتقده أنه حياة تليق بنا، في دوامة الكسب والتملك، وما نحن اليوم إلا صورة للإنسان القابع في فضاء منحاز للصور، بدل امتطاء سفن التغيير التي تجابه رياح الإمبراطورية.
علينا أن نستمع جيدا لمعاناة ومآسي الصامدين في غزة، إذ إن قرابين الحرية غالية، والحقيقة تكمن في استرجاعنا الضمير الإنساني، الذي سلبته الدعاية الغربية عبر ترسانة صهيونية طوعت الحضارة وفق معاييرها المزدوجة، وها نحن ننظر إلى الجماهير الغربية تنبري في أساطيل إيذانا منها لكسر غطرسة الاحتلال، فأين نحن من ظلال الحرية؟ وأين نخبنا من مساءلة الحقيقة والتاريخ، حين تسرد الأجيال القادمة أسطورة شعب قاوم أعتى الإمبراطوريات وحشية في زمن التبعية والخذلان؟
ربما تسقط أساطيل الحرية في قبضة الاحتلال، لكنها ستظل تعبيرا عن الرفض العالمي، وصورة للضمير الإنساني، وأن يمتلكنا الاهتمام بنقطة الوصول خير من أن نجلس نرقب الاستشارات القانونية في إمكانية بلوغ أسطول الحرية هدفه، فالمكان فلسطين، والهدف كسر الحصار عن غزة
إن ما يجمع شعوب العالم يفوق حدود الجغرافيا والفضاء المنحاز الذي اختلقته الإمبراطورية من رحم معاناة مستعمراتها؛ والهبّة الشعبية التي تشهدها أوروبا وأميركا تمثل السقوط الثاني لسردية صهيونية، جثمت على مخيلة الغربي عبر استعمار مؤسساتي ناعم بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وما الأصوات المناهضة للإبادة والتهجير القسري إلا جولة أخرى لتحطيم الأصنام، التي زرعتها النخبة الأوروبية في الجامعات والمؤسسات الدولية، وما كانت تحظر الصهيونية انتقاده أصبح جزءا من سردية إنسانية مناهضة لسياسات التطهير العرقي ومعسكراتها، فرَكب التغيير لا ينتظر الضمائر الحية للحاق به، بقدر ما يمنحها السبب في الانعتاق، والخلاص من ظل الديمقراطية الثقيل.
علينا أن نؤمن بأن مسألة تصفية الاستعمار بالغة الحساسية والتعقيد ومكلفة، وهي لم تخلق في فضاء متكامل ومتجانس من حيث الظروف التاريخية وقابلية الشعوب للانعتاق من الآلة الاستعمارية.
وغزة بصمود شعبها تُسقط أسوار التبعية والخنوع، ومشاريع التصفية النهائية للمسألة الفلسطينية، وإيماننا بالحق في المقاومة لا يمكن تجاوزه ما قامت الأنفس والأقلام والأصوات ترافع عنه، بدل الارتماء في بيانات الشجب والتنديد.
ربما تسقط أساطيل الحرية في قبضة الاحتلال، لكنها ستظل تعبيرا عن الرفض العالمي، وصورة للضمير الإنساني، وأن يمتلكنا الاهتمام بنقطة الوصول خير من أن نجلس نرقب الاستشارات القانونية في إمكانية بلوغ أسطول الحرية هدفه، فالمكان فلسطين، والهدف كسر الحصار عن غزة، والوسيلة ما امتلكه نشطاء العالم الحر من وسائل بسيطة، وهم يجابهون الجرائم الإسرائيلية بالتحدي والصمود.
فأين همة الجار ذي القربى والجار الجنب من نصرة المظلومين والمجوعين في غزة؟

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق