الأزهر وشيخ الفرص الضائعة
وائل قنديل
"ويشدّد الأزهر على أن ما يُمارسه هذا الاحتلال البغيض من تجويعٍ قاتلٍ ومُتعمَّد لأهل غزَّة المُسالمين، وهم يبحثون عن كسرة من الخُبز الفُتات، أو كوب من الماء، ويستهدف بالرصاص الحي مواقع إيواء النازحين، ومراكز توزيع المساعدات الإنسانيَّة والإغاثيَّة، لهو جريمةُ إبادةٍ جماعيةٍ مُكتملة الأركان، وأنَّ مَن يمدّ هذا الكيان بالسلاحِ، أو يُشجِّعه بالقرارات أو الكلمات المنافقة، فهو شريكٌ له في هذه الإبادة، وسوف يحاسبهم الحَكَم العدل، والمنتقم الجبَّار، يومَ لا ينفعُ مال ولا بنون، وعلى هؤلاء الذين يساندونهم أن يتذكَّروا جيداً الحكمة الخالدة التي تقول: "أُكلنا يوم أُكِل الثور الأبيض".
لم يصمُد هذا النص المُقتبس من بيان صادر عن مشيخة الأزهر بضع ساعات، حتى تحرّكت الآليات الدبلوماسية والسياسية والأمنية المصرية لتُجبر شيخ الأزهر، أو تقنعه (لا فرق)، بسحب البيان والتراجع عنه في لحظةٍ شديدة البشاعة يمرّ بها الشعب الفلسطيني، والحجّة التي تضمّنها "البيان المعتذِر عن البيان" أنّ البيان الأوّل قد يؤثّر على المفاوضات الجارية بشأن إقرار هدنة إنسانية في غزّة.
مُخجلٌ أن يبرّر الإمام الأكبر تراجعه عن بيانٍ يمثّل الحدّ الأدنى من الموقف الأخلاقي، الإنساني، الديني، القومي، بأنه لم يكن يدرك أنّه حين قال ما قال إنّ ذلك قد يعرقل المفاوضات والوساطات، فلما اتصل به ذلك المسؤول أو ذاك، وشرح له الأمر، عرف واستجاب وتراجع.
قارن بين حجّة الإمام الأكبر في التراجع وموقف وزير خارجية ألمانيا يوهان فادفول في القضية نفسها، إذ يعلن الأخير أن "بلاده تدعم إسرائيل، ولذلك فهي لا تستطيع أن تلعب دور الوسيط بينها وبين حركة حماس".
ما نعلمه من التاريخ بالضرورة أنّ الأزهر الشريف كان دوماً جامعة شعوب الأمّة ومرجعيّتها الدينية والروحية، ولم يكن يوماً ألعوبة بيد الحكام، أو أداة دبلوماسية يستخدمها وزيرٌ ويوظّفها في مشروعه السياسي، الذي يعلم شيخ الأزهر قبل الجميع أنه لا يعبّر عن أوجاع (وأحلام) الشعوب التي تحترق حزناً وغضباً من الأنظمة التي تصنع من عظام الشعب الفلسطيني الشقيق وجماجمه جسراً للتطبيع مع كيان إرهابي مجرم يتأهب لاعتلاء قيادة الشرق الأوسط، ويفرض على شعوبه ديانة مختلقة ومصنوعة في ورش الأفكار الشرّيرة في مراكز صنع القرار الصهيونية.
في النصّ المقتبس أعلاه أن "من يمدّ هذا الكيان بالسلاح أو يشجّعه بالقرارات أو الكلمات المنافقة فهو شريك له في هذه الإبادة"،
وهنا نسأل الإمام الأكبر:
ما حكم التعامل مع هذا الكيان بصفقات الغاز الطبيعي المسروق من الأراضي الفلسطينية المحتلة؟
وما رأي فضيلتكم في من يمدُّه بالحاصلات الزراعية والفاكهة ويستورد منه ويصدّر له وهو يمارس حرب الإبادة على شعبٍ شقيق؟
ما رأي الفضيلة والإمامة الكبرى في الموقف السليم بين عدو مُتجبّر يضع سكّينه على رقبة شقيق وهذا الشقيق الذي تسيل دماء أطفاله ونسائه وشيوخه، هل تصلح هنا وضعية الوسيط بأجرٍ أو من دونه؟
هل يصحّ أن يصبح متر غاز العدو مُساوياً في القيمة والأهمية لليتر دم الشقيق؟.
في زمنٍ ليس بعيداً، كان على رأس المؤسّسة الأعلى إمام أكبر لم يكن يقبل أن يكون الأزهر الشريف جزءاً من منظومة الحكم أو يسير مع اتجاه الريح أو يحسب قراراته وآراءه وفتاواه على مسطرة المصلحة الدبلوماسية كما تقرّرها حكومات التطبيع، كان اسمُه فضيلة الإمام الأكبر الدكتور جاد الحق علي جاد الحق.
كان يأبى إلّا أن يكون الأزهر مُستقلاً عن السياسة، مُبتعداً عن المواءمات والصفقات الدبلوماسية، وكان على طول الخطّ يمضي عكس اتجاه السلطة في ما خصّ مقاربة القضية الفلسطينية والعلاقات الرسمية بالكيان الصهيوني، وأيضاً في مسائل أخرى أرادت الحكومة تمريرها، فتصدّى لها ولم يتراجع أو يسحب بياناً بعد مكالمة من رئيس أو وزير...
كان بودّ الجماهير ألا يهدر شيخ الأزهر الحالي الفرص التي جاءته سراعاً تسعى إليه، ليسجّل موقفاً تاريخيّاً تذكُره له الأمة بأجيالها القادمة بأنه الرجل الذي أيقظ شعوبها وتصدّى لخذلان حكّامها، ورفض أن يكون ترساً في قطار الوساطات.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق