لماذا تبحر السفينة والقرصان الصهيوني سيهاجمها؟
وائل قنديل
لم تكن السفينة حنظلة تحلم بمصير أفضل ممّا جرى مع سابقتها مادلين، كلتاهما كانتا تدركان، منذ البداية، أن في انتظارهما قرصاناً مجرماً يأخذ كلّ سفينة غصباً إلى الاحتجاز، واعتقال من عليها، ومنعهم من الوصول إلى شواطئ غزّة، محمّلين ببعض الزاد والدواء لملايين البشر، محاصرين بوحشية العدو وعجز الشقيق.
كان الهدف إذن الإبحار بالمعنى الأخلاقي والقيمة الإنسانية إلى ضمير العالم، الذي يشاهد ولا يفعل شيئاً منذ نحو عامين أمام أكبر محرقة للبشر عرفها التاريخ، قديمه وحديثه، وكأنّ المجتمع الدولي قد تصالح فجأةً مع فكرة الحياة من دون قانون ومن دون قيم.
تعيد "حنظلة"، وسابقاتها الاعتبار لقيمة أن تحاول حين يسكت الجميع، تآمراً أو تواطؤاً (أو عجزاً) على إبادة شعب كامل وشطبه من الوجود، قيمة أن تنتصر على فكرة الإذعان أمام القوة المتغطرسة، وتقدم على محاولة، إن لم تقم بها فأنت تخون إنسانيّتك وتتجرّد منها، تقول "حنظلة" باختصار إنه لا بدّ لأحد أن يتحدّى ويتصدّى، مهما كانت قدرات الطرف الآخر المعتدي الإجرامية، وفي ذلك إحراج هائل لمن يملكون القدرة على الفعل ولا يفعلون، ولذلك يكرهونها ويسخرون منها ولا يودّون رؤيتها.
بعد سويعات من اقتحام قوات الإبادة الجماعية السفينة حنظلة، واعتقال النبلاء الذين كانوا على ظهرها قادمين من جميع أنحاء العالم قاصدين غزّة، قرّرت إسرائيل فجأة السماح بوصول مساعدات رمزية إلى غزّة، بمعرفتها، وعبر نقاط العبور التي تتحكّم فيها وحدها، قرّرت الاستعراض بعدد أصابع اليدين من الشاحنات لا تكفي لسدّ 1% من احتياجات يوم واحد للشعب الفلسطيني المحاصر في غزّة.
هذه ليست مساعدات إنسانية، بل هي أقرب إلى حملة علاقات عامّة سياسية، تستهدف في المقام الأول إظهار الاحتلال المدان بارتكاب مذابح إبادة جماعية وتطهير عرقي بوجه إنساني أمام تصاعد الانتقادات الدولية، وأمام التلويح الأوروبي بالاعتراف بدولة فلسطينية. وتستهدف هذه الاستعراضات، ثانياً، وبالقدر ذاته من الأهمية، انتشال الصديقَين العربيَّين الأقرب إلى الكيان الصهيوني، مصر والأردن، من أتون غضب شعبي متصاعد ضدّ حالة الانبطاح أمام إجرام الاحتلال، بالنظر إلى أن البلدَين هما المنفذان الوحيدان إلى إنقاذ الشعب الفلسطيني، وفي ضوء ذلك يمكن فهم تلك الزفّة التي انطلقت إلكترونياً تردّد (على نحو مثير للسخرية) أن القاهرة وعمّان كسرتا حصار الشعب الفلسطيني، وأدخلتا المساعدات، بينما الصحيح أن إسرائيل هي التي فعلت ذلك، من باب الخداع والتضليل، من معبري زيكيم وكرم أبو سالم، وهما معبران لا علاقة لكلّ من مصر والأردن بإدارتهما، فيما بقي معبر رفح (المصري الفلسطيني) ذليلاً خاضعاً للمشيئة الصهيونية.
لا يجادل أحد في أن إسرائيل تغلق معبر رفح من ناحية غزّة، وتمنع دخول شاحنات المساعدات وقوافلها، وسوف نسلّم بأن مصر لا تغلق المعبر من ناحيتها، الكلّ يقرّ بهذا الأمر، دعنا نقول إنه حتى الجنين في بطن أمه يعلم ذلك، لكن ذلك ليس جوهر الحكاية، ولا سؤالها الأساس، وإنما السؤال بشأن هذه الدونية في التعامل مع الكيان الصهيوني، السؤال عن هذا الخضوع والخشوع أمام إجرامه وعدوانيّته.
كيف وصلت مصر المائة وعشرون مليوناً من البشر والأربع حروب ضدّ عدوانية الاحتلال، الذي كان قبل خمسين عاماً فقط يحتلّ ثلث مساحتها، كيف صارت مصر التي تردّد طوال الوقت أنها أكثر من دفعت ثمن الدفاع عن القضية التي كانت تسمّى قضية العرب المركزية، تنصاع لما يقرّره العدو التاريخي، وتبرّر عدم قدرتها أو رغبتها في إنقاذ أكثر من مليونَي شقيق من الهلاك، جوعاً وعطشاً وقتلاً وتشريداً، بأن الاحتلال يمنع وصول أيّ مساعدات لهم، ويهدّد بقصف كلّ من يحاول؟
كيف وصلنا إلى حالة من قلة الحيلة وبرودة الحسّ وسماكة الجلد، تجعل مسؤولاً مصرياً يخرج على الناس قائلاً إن أيّ محاولة للتصدّي للجريمة الدائرة في بوابة مصر الشرقية يعني الدخول في حربٍ ضدّ أميركا وتدمير البلاد وهلاك العباد؟ ولماذا أصبح الأسى على التزام القاهرة موقفاً لا يليق بتاريخها ومكانتها ومكانها، يفسّر بأنه حقدٌ على مصر، وخيانة لها، وتآمراً عليها، وزجّاً بها إلى الجحيم؟
هنا من الأهمية بمكان التذكير بأن مطلب الوقوف في وجه الإجرام الصهيوني ليس دعوة إلى الانتحار ولا ذهاباً إلى الفناء، بل هو قرار مصري عربي أجمعت عليه الدول المشاركة في القمّة العربية الإسلامية، التي انعقدت في الرياض بعد نحو خمسة أسابيع من العدوان على غزّة، بإدخال المساعدات إلى غزّة رغم أنف الاحتلال، إذ قال البند الثالث من مقرّرات القمة نصّاً: "كسر الحصار على غزّة، وفرض إدخال قوافل مساعدات إنسانية عربية وإسلامية ودولية، تشمل الغذاء والدواء والوقود إلى القطاع بشكل فوري، ودعوة المنظّمات الدولية إلى المشاركة في هذه العملية، وتأكيد ضرورة دخول هذه المنظّمات القطاع، وحماية طواقمها وتمكينها من القيام بدورها بشكل كامل، ودعم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)". فيما قرّر البند الرابع "دعم كل ما تتخذه جمهورية مصر العربية من خطوات لمواجهة تبعات العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزّة، وإسناد جهودها لإدخال المساعدات إلى القطاع بشكل فوري ومستدام وكاف".
لم يحدُث شيء من ذلك (ولن يحدث) من عرب كانوا يجتمعون على رفض الاعتراف بدولة الاحتلال، ويردّدون "لا صالح لا اعتراف لا تفاوض"، ثمّ تحوّلوا مشجّعين صغار يصفّقون باستحياء لدول أوروبية تفكّر في الاعتراف بدولة فلسطينية، ثمّ يتبجّحون ويزعمون أنهم كسروا الحصار، وأوصلوا المساعدات، على الرغم من علمهم بأن ذلك رهن قرار إسرائيل وإرادتها وإذنها.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق