بلفور يظهر من جديد
لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان أن اعتراف بريطانيا ودول أوروبية بدولة فلسطينية ليس انتفاضةً أخلاقيةً مفاجئةً من حكومات هذه الدول ضدّ جرائم الاحتلال الصهيوني في فلسطين المحتلة، كما لا يجب أن يُنظر إلى هذه الاعترافات/ الوعود باعتبارها انتصاراتٍ تاريخية لحقوق الشعب الفلسطيني، ذلك أنها في أفضل الأحوال ليست سوى عمليات تجميل لخطيئة تاريخية وأخلاقية أساسية ارتكبتها هذه "الحكومات الحنون" بحقّ الإنسانية، ومحاولة لتهذيب سلوك طفل الخطيئة المدلّل كي لا يؤذي نفسه وآباءه الذين التقطوه وتبنّوه، ووفروا له كل أسلحة الجريمة التي يستنكفون تسميتها جريمة.
اعترف رئيس حكومة بريطانيا، كير ستارمر، بدولة فلسطينية في سطر، ودان كفاح الشعب الفلسطيني من أجل تحرير وطنه في عشرين سطراً، إذ لم يعرف أصلًا بأن فلسطين واقعة تحت احتلال هو الأسفل في التاريخ، وكأنه باعترافه هذا يمنح الفلسطينيين وطناً من العدم، كما فعل جدّه بلفور قبل أكثر من 108 أعوام بمنح اليهود وطناً في بلد آخر قائم ومستقرّ، وضارب بجذوره في عمق التاريخ.
وصف ستارمر نضال الشعب الفلسطيني (المقاومة) بالجرائم الإرهابية، متوعّداً بأنه لن يكون هناك وجود لكلّ من ناضل وقاوم في الدولة الفلسطينية الموعودة، التي هي مجرّد جملة في بيان يتملّق الرأي العام الغاضب من جرائم الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعلن بوضوح أن زلزالاً أخلاقياً قد ضرب المجتمعات الغربية أسفر عن سقوط الأكاذيب العريقة التي صاحبت إنشاء الكيان الصهيوني، بوصفه مشروعاً استعمارياً استراتيجياً للإمبراطوريات الأوروبية القديمة، قبل أن يكون تحقيقاً لأحلام يهودية موروثة.
وصف ستارمر نضال الشعب الفلسطيني (المقاومة) بالجرائم الإرهابية، متوعّداً بأنه لن يكون هناك وجود لكلّ من ناضل وقاوم في الدولة الفلسطينية الموعودة، التي هي مجرّد جملة في بيان يتملّق الرأي العام الغاضب من جرائم الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعلن بوضوح أن زلزالاً أخلاقياً قد ضرب المجتمعات الغربية أسفر عن سقوط الأكاذيب العريقة التي صاحبت إنشاء الكيان الصهيوني، بوصفه مشروعاً استعمارياً استراتيجياً للإمبراطوريات الأوروبية القديمة، قبل أن يكون تحقيقاً لأحلام يهودية موروثة.
يمكن للحكومات الغربية أن تسوّق لشعوبها الاعتراف بدولة فلسطينية منجزاً سياسياً وأخلاقياً غير مسيوق، وقد تنجح في ذلك تحت تأثير بهرجة إخراج المشهد، غير أنه لا يصحّ أن يستقبله المثقّف العربي هدية ضخمة بحجم وطن لشعب يتعرّض للإبادة فوق أرضه، إذ لا يرى الذين يروّجون بضاعة الاعتراف بفلسطين أن إسرائيل ترتكب جرائم إبادة جماعية، كما لا يروْن أنها تستحقّ العقاب على هذه الجرائم، وبالتالي، يسوقون الاعتراف بدولة فلسطينية نوعاً من العقوبة التأديبية، من دون أيّ تصور لتحقيقها في أرض الواقع، بيد أن القراءة الدقيقة للاعتراف بدولة للفلسطينيين في فلسطين المحتلة تقول إننا بصدد منح شرعية أخلاقية وسياسية للجريمة الأساسية، التي هي إنشاء كيان احتلالي فوق عظام شعب أصلي بعد اغتصاب أرضه.
في كتابه المهم "فلسطين... نحو تاريخ بلا أساطير"، الصادر بالفرنسية والمترجم إلى العربية، يسلّط المصري الفرنسي، الراحل لطف الله سليمان، الضوء على المنطلقات الاستعمارية الأوروبية لإنشاء الكيان الصهيوني، فيكتب:
"في الوقت الذي كانت فيه المستشاريات الأوروبية تدير مؤامراتها التنافسية، كانت أزمة عميقة تعصف بشرق البحر المتوسط، فقد كان محمد علي وهو ما زال والياً قد تمكّن بفضل حروب خاضها لحساب السلطان العثماني من أن يسيطر على مصر، التى عبّأها وحوّلها إلى ترسانة، وفجأة كشف عن طموحاته الخاصة، فلماذا لا يقيم خلافة مجدّدة أو عند الاقتضاء إمبراطورية عربية مستقلة عن الباب العالى، يمكن أن تبدو الوريث الدينامي الحديث، وإن يكن غير شرعي (للرجل المريض) الامبراطورية العثمانية؟. وبعد أن غزت جيوش محمّد على المنطقة بأسرها أخذت تستعدّ لمطاردة الجيوش العثمانية المهزومة حتى داخل تركيا نفسها، وعندئذ تآلفت أوروبا، وتدخلت وعلى رأسها إنكلترا، وفي ذيلها فرنسا التي انتهت بالإذعان، لتضع نهاية المغامرة. كان بوسعها (لأنها تتسم بالحكم المطلق والاحتكارية والحداثة التقنية) أن تغلق المنطقة أمام التغلغل الأوروبي.
وهكذا تبينت المستشاريات في لندن وسان بطرسبورج وبرلين وفيينا، وأخيراً باريس، أن عليها لكيما تبقى الامبراطورية العثمانية مفتوحة أمام استعمارها، لا أن تضع حداً فحسب لمغامرة محمد علي الشمولية التوسعية؛ بل كذلك أن تجعل من المستحيل قيام كيان جغرافي - سياسى جديد فى هذه المنطقة يكون أكثر قابلية للحياة من الكيان العثماني القائم. وفي هذا المنظور وضع المشروع الاستراتيجي، وكان هدفه إقامة حاجز جغرافي وبشرى بين مصر ومجال توسعها في آسيا".
ولكن في حين كانت باريس وسان بطرسبرج وفيينا وبرلين وروما تتصوّر المشروع الاستراتيجي (الحاجز) ككيان أغلبيته من المسيحيين، يوضع تحت حماية هذه أو تلك من الدول الكاثوليكية أو الأرثوذكسية أو البروتستانتية، فقد تصورت لندن المشروع الاستراتيجي "بعثاً لليهود".
ولكن في حين كانت باريس وسان بطرسبرج وفيينا وبرلين وروما تتصوّر المشروع الاستراتيجي (الحاجز) ككيان أغلبيته من المسيحيين، يوضع تحت حماية هذه أو تلك من الدول الكاثوليكية أو الأرثوذكسية أو البروتستانتية، فقد تصورت لندن المشروع الاستراتيجي "بعثاً لليهود".

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق