
معركة مرج الروم والمعروفة أيضًا باسم معركة مرج دمشق هي من معارك فتوح الشام، وقعت أحداثها في مرج الروم وهو سهل البقاع (في لبنان) بين جيش الخلافة الراشدة وجيش الروم، قيادة جيش المسلمين كانت بيد أمين الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه الذي ثبتت له هذه الصفة بقوله صلى الله عليه وسلم {لكل أمة أمين، وأمين أمتي أبو عبيدة بن الجراح} رواه البخاري، وبقيادة سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه أيضاً والذي ثبتت له هذه التسمية بقوله صلى الله عليه وسلم بعد أن نعى القادة الثلاثة في غزوة مؤتة {… حتى أخذها (الراية) سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم} رواه البخاري، أما قيادة جيش الروم فكانت بيد كل من ثيودور الباتريكيوس (أي البطريق) وشناش الرومي. وأما من حيث الزمان فقد نشبت معركة مرج الروم هذه بعد وقت قصير من معركة فحل عندما حاول البيزنطيون استعادة دمشق أي في أواخر العام الثالث عشر الهجري.
وأما من حيث تسلسل الأحداث : فقد كان فتح دمشق في العشر الأواخر من شهر رجب عام 13هـ بعد حصار طويل محكم دام لأكثر من سبعبن ليلة صبر عليه أهل دمشق لأملهم في إمدادت هرقل لهم، وكانت القيادة الرئيسية في جيش الفتح لكل من أبي عبيدة وخالد بن الوليد، وقيادة جيش الروم بيد توماس صهر الملك هرقل، وكان الفتح بقرار اتخذه أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتحقق الفتح فعلاً بخطة عسكرية أحكمها أبو عبيدة تقوم على قطع الإمدادات الرومية عن دمشق، وهذا ما حدث على أرض الواقع، فقد انسحبت الحامية البيزنطيَّة القادمة من هرقل لنجدة دمشق بعد عجزها عن الوصول إليها على الرغم من شدة قربها منها، ترك الروم لأهل دمشق مسؤولية تدبُّر أمرهم بانفسهم، وهذا ديدن الأقوياء الذين يرون أنفسهم سادة العالم وكبراءه وقواه العظمى، فسرعان ما يتخلَّوْنَ عن حلفائهم إذا انقطعت المصلحة أو انتهى دورهم المرسوم فلم تعُدْ لهم قيمة في حروبهم مع المسلمين.
وعلى الرغم من فتح دمشق وهزيمة الروم فيها وحولها قرروا معاودة قتال المسلمين لاستعادتها من أيديهم، ووسط هذه الظروف نشبت معركة فحْل أو معركة بيسان وفي المراجع الغربية معركة بيلاَّ، وقعت أحداث معركة فحل في بيسان على أرض فلسطين المباركة في الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة من العام الثالث عشر للهجرة النبوية ؛ أيْ بعد مرور أربعة أشهر تقريباً من فتح مدينة دمشق، وكانت بين جيش المسلمين بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح وخالد بن الوليد وأربعة آخرين من كبار القادة المسلمين كل على رأس جيشه، وفي المقابل كان جيش الروم بقيادة سقلار بن مخراق فلما أصيب آلت قيادة الجيش الرومي بعده لنسطورس، بلغ عدد جيش المسلمين خمسة وعشرين ألف مجاهد. أما الروم فقد توالت الإمدادات على جيشهم حتى زاد عن الثمانين ألف مقاتل، فماذا كانت نتيجة معركة فحل هذه ؟ هزيمة ساحقة جديدة للروم الذين لم يستعيدوا دمشق، بل قتل عشرات الألوف من جيشهم معظمهم غرقاً في مياه السدود التي فتحوها أصلاً لإغراق جيش المسلمين، لكن مكر الله كان لهم بالمرصاد فغرقوا هم فيها، وهذه من سنن الله الثابتة التي لا تتغير : قال سبحانه وتعالى {… وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} فاطر 43.
وعودة إلى معركة مرج الروم موضوعنا لهذا اليوم : فبعد الانتهاء من معركة فحْل قرر أبو عبيدة قائد جيش المسلمين مواصلة فتوحاته في الشام : فبتعليماته توجه عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة جنوبًا متجهَيْن إلى أرض فلسطين المباركة، وتحرك أبو عبيدة نفسه وخالد شمالًا متجهَيْن إلى شمال سوريا، لكن هذا الانتشار للقوات الإسلامية وضع يزيداً بن أبي سفيان بدمشق في وضع حرج جداً ؛ إذ أصبح الآن هو المدافع الوحيد عن دمشق وحاميته العسكرية فيها ليست كبيرة العدد بما يكفي لحمايتها وصد الهجمات عنها، استشعر هرقل أهمية هذا الوضع الحرج لدمشق فظنّها فرصةً ذهبية مواتية لاستعادتها من أيدي المسلمين.
فعندما بلغت أخبار هزيمة الجيش البيزنطي في فحل مسامع هرقل عقد من فوره مجلسًا عسكريًا ضمّ كبار قادته العسكريين للتشاور معهم، وفي هذه الأثناء وصل إليه وفد قادم من قيسارية والقدس في فلسطين، فأخبروه بأنهم ما زالوا على التمسك بأمره ومقيمين على طاعته ومخالفين للمسلمين وكارهين لهم، وطلبوا منه الأمداد العسكرية لمساعدتهم في الثبات على هذا الولاء وصد هجمات المسلمين،
كان هرقل في الأصل كارهاً لحرب المسلمين وراغباً في الصلح معهم ليقينه بانتصارهم، ولعلمه أنهم على الدين الحق وأن محمداً (صلى الله عليه وسلم) هو النبي الذي بشرهم به الإنجيل ومن قبله التوراة، وأظهر هرقل كرهه الحرب في معظم معارك فتوح الشام كمعركة فتح بُصْرَى مثلاً، فقد قال لمن حوله بعد هزيمة جيشه فيها [ألم أقل لكم لا تقاتلوهم ؟ فإنه لا قَوام لكم مع هؤلاء القوم] فقالوا له [قاتِلْ عن دينك ولا تُجَبّنِ الناس واقْضِ الذي عليك] فرد عليهم قائلاً [وأيُّ شيء أطلبُ إلاَّ توقير دينكم ؟] لكن لخوفه ممن حوله من رجال الدين أن يقتلوه أو يخلعوه عن ملكه وكرسيّ عرشه على أقل تقدير فقد ظلَّ على كفره وتبنى مواقفهم السياسية والعسكرية، لذا فقد تمسك هذه المرة أيضاً بقرار الاستمرار في الحرب ضد المسلمين، فأرسل في ذات الوقت جيشين منفصلين باتجاه دمشق لوقف الزحف الإسلامي، وعيّن عليهما اثنين من خيرة قادته : الجيش الأول يضم عدداً كبيراً من الفرسان بقيادة ثيودور الباتريكيوس (البطريق) لاستعادة دمشق. والجيش الثاني يضم أيضاً قوة كبيرة من سلاح الفرسان بقيادة شناش (سنس أو سناس) الرومي.
سار الجيشان البيزنطيان في طريقَيْن منفصلَيْن، فوصل الجيش الأول إلى مرج دمشق شرقاً وعسكر فيه، ووصل الجيش الثاني مرج الروم غرباً وعسكر فيه، وصلت أنباء هذا التحرك العسكري الرومي لأبي عبيدة، فجاءته الأوامر العليا بالتوجه إلى دمشق لمساعدة قائد حاميتها يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما لصد محاولات الروم استعادتها، فوصل بجيشه إلى مرج دمشق في طريقه إليها قادمًا من فحل (بيسان) وهناك قسّم جيشه قسمين : القسم الأول بقيادته هو وكانت مهمة جيشه الاصطدام بجيش شناش، والقسم الثاني بقيادة خالد وكانت مهمته الاصطدام بجيش ثيودور،
تكوَّنت معركة مرج الروم كما سأوضّحه تالياً من اشتباكَيْن منفصلَيْن في مكانَيْن مختلفين وبجيشين مختلفين وقائدين اثنين، ووقع القتال فيهما بوقت واحد مُتزامِن، وشارك خالد في كلا الاشتباكين مما جعل بعض المؤرخين يعتبرانها معركة واحدة، وبالتدقيق في المصادر التاريخية يتبين للباحث بأنهما معركتان وليست معركة واحدة.
الْتقتْ القوتان الإسلامية والبيزنطية غرب مدينة دمشق في سهل مرج الروم الذي هو سهل البقاع حيث تجمع الجيشان وواجها بعضهما في تشكيل قتالي مُتقابِل : ثيودور وجيشه مقابل خالد وجيشه، وأيضاً شناش وجيشه مقابل أبي عبيدة وجيشه، وبعد الانتهاء من الإعداد ظل كلٌّ من الجيشَيْن ينتظر مبادرة الآخر لاتخاذ الخطوة الأولى ببدء الهجوم، واستمرا على هذا الحال بقيّة اليوم.
وفي الصباح التالي بدأت المعركة في مرج الروم بمبارزة شخصية بين أبي عبيدة وشناش، فقتل أبو عبيدة شناش القائد الرومي ثم انخرط الجيشان في قتال ضارٍ طويل، أما في مرج دمشق فقد توجه خالد إلى مكان جيش ثيودور فلم يجده، إذ كان قد انسحب هو ونائبه شيودور بجيشهما تحت جنح الظلام وفق خطة عسكرية مبيَّتة وضعها له هرقل القيصر تقوم على أساس استغلال انهماك المسلمين بمن فيهم خالد وفرسانه في قتال جيش شناش في مرج الروم، فأراد ثيودور انتهاز هذه الفرصة والانطلاق بجيشه إلى دمشق لمحاولة استعادتها.
توقع خالد بذكائه وخبرته العسكرية هذه الخطة الخادعة، فأدرك أن دمشق تتعرض الآن للهجوم المباغت، فأخبر أبا عبيدة بهذا الموقف الطارئ وطلب السماح له بمطاردة ثيودور فأذن له بذلك، كان ثيودور يسابق الريح ويتقدم مسرعًا نحو دمشق ليباغت حاميتها بالهجوم، صحيح أن الحرب خُدْعة لكن المؤمن بالمقابل كَيِّسٌ فَطِنٌ أي ذكِيٌّ وحَذِرٌ، وهكذا كان خالد وكثير من قيادات النخبة المسلمة على مدى التاريخ الإسلامي، فلما اقترب ثيودور من دمشق قام يزيد على الفور بنشر قواته واشتبك مع قوات ثيودور، فتمكن من الحفاظ على مواقع قواته لفترة طويلة، لكن تحت وطأة القتال البيزنطي المستميت بدأ بالتراجع على الرغم من التفوق العددي لقواته، فمن الثابت في عقيدة المسلمين القتالية أن القوة العددية عامل لا أثر له على ثبات المسلمين بالقياس إلى قوة الإيمان، فالمسلمون يؤمنون بأن النصر من عند الله وحده سبحانه، وبأن الاعتبار الأقوى إنما هو أولاً لقوة إيمانهم وثانياً لإعدادهم القوة المستطاعة وثالثاً إخلاصهم الدعاء، فهذا ما يثبتهم في مواجهة العدو لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} الأنفال 65-66.
وكانت المفاجأة الصادمة لثيودور ونائبه أن خالداً وفرسانه المتنقّلين والمتصفين بسرعة الحركة وصلوا في ذلك الوقت فوجدوا المعركة دائرة بين قواته وقوات يزيد، فبدأ خالد وفرسانه بمهاجمة الجيش البيزنطي من الخلف، وهكذا وجد البيزنطيون أنفسهم محاصَرِين في وضع الكمَّاشة بحيث لا يتمكنون من الدفاع ولا يمكنهم التقدم إلى الأمام ولا التراجع إلى الخلف، فدارت الدائرة عليهم فقُتِلُوا من بين أيديهم ومن خلفهم ولم يفلت منهم إلا الشريد، وقَتَلَ خالد ثيودور في مبارزة شخصية مباشرة بينهما، وأُصيبت الخطوط الرومانية بالارتباك وبدأ الجنود يفرون من الميدان هاربين، وسرعان ما انتشرت أخبار هذه الهزيمة في دمشق مما أدى إلى فقدان القوات البيزنطية اتزانها وتراجعت منهية بذلك المعركة على هزيمة ساحقة، فجمع المسلمون غنائمهم فقسَّمها يزيد بين جنوده وجنود خالد،
عاد خالد إلى أبي عبيدة فوجده ما زال مشتبكاً مع جيش شناش بمرج الروم فشارك في القتال، وانتهت هذه المعركة هي الأخرى بانتصار جيش المسلمين على جيش عدوهم الذي فرَّق الله جمعهم وشتَّت شملهم ومزَّقهم شر مُمَزَّقٍ : فقتل منهم من قتل وفرّ من نجا منهم إلى حمص، وغنم المسلمون ما ترك هذا القسم من الجيش : الأسلحة وغيرها.
تعتبر معركة مرج الروم هذه انتصاراً حاسماً جديداً لجيش المسلمين ضمن سلسلة انتصاراتهم المتتالية في فتوحات بلاد الشام ؛ حيث قُتل فيها جميع القادة البيزنطيين، وبانتهائها انتهى التهديد البيزنطي بخسارة دمشق أو فرصة استعادة البيزنطيين لها مرة أخرى، وانطلقت جيوش المسلمين فاتحة لما تبقى من مناطق بلاد الشام حتى خرجت نهائياً عن سيطرة الروم ودخلت إلى ظل دولة دين الله.
كان هرقل يتوقع هذا وأكثر، فقد قال لأبي سفيان بعد حوار بينهما بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد أن عرف منه صفات عذا النبي المنتظر [… فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قَدَمَيَّ هاتَيْن…] ولكن لم يأخذ أحد من قومه وأهل دينه برأيه، ولما أدرك حجم الكارثة الكبرى التي حلت به وبدولته يوم هزيمة اليرموك غادر المنطقة نهائياً وقلبه ينفطر حزناً على ضياعها وهو يقول [السلام عليك يا سوريا سلاماً لا لقاء بعده، ونعم البلد أنتِ للعدو وليس للصديق، ولا يدخلك روميٌّ بعد الآن إلا خائفاً].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق