الحرية بين الحجر والتبر.. من كابل إلى أغادوغو

الكاتب: إن سر بقاء الإنسان والمحافظة على نوعيته مرهون بالعقل الذي يفكر
خارج إطار ربقة الرهن لأجَل غير
‘أما نصر أو استشهاد".. تلك هي الحرية التي تعتق الإنسان من أغلاله، بل هي الروح المتدفقة نحو حياة فطرية لا تبيع تراب الأرض، لأن الأرض مقدسة بقدسية من عليها ضمن منظومة تعاقب الأجيال.
"ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر".. ذلك هو من حفر قبره قبل أوانه، لأنه سلّم بإرادته لأن يكون مخلفات يُردم بعضها فوق بعض، ليصبح رهينا لـ"محبسين" وضع نفسه في تلابيبهما وضاع في صحراء التيه، مستبدلا إنسانيته الفطرية ليتحول من إنسان حر إلى تابع لم يستطع الرجوع إلى أصله، ولم يتمكن من التعايش مع وضعه.
إن سر بقاء الإنسان والمحافظة على نوعيته مرهون بالعقل الذي يفكر خارج إطار ربقة الرهن لأجَل غير معلوم، فالعقل هو المقود الذي يجعل الحرية جوهر البقاء والاستمرار، وهو الذي يبعدها عن الاعتقاد بأنها- أي الحرية- ترف سياسي يُرسم شعارا انتخابيا عند الحاجة.
يقول الكاتب والإعلامي أحمد فال الدين في مؤلفه "حجر الأرض": الأفغاني يفضل أن يُدفن واقفا على أن يعيش راكعا، فالأرض عنده ليست تربة فحسب، بل هي عقد أزلي بين الدم والتراب"
حجر الأرض
ما زالت الذاكرة الحرة تسجل مشهد طائرة النقل العسكرية الضخمة (Boeing C‑17 Globemaster III)، التابعة لسلاح الجو الأميركي أثناء تحركها من مطار "حامد كرازي الدولي" في كابل، وقد تشبث عشرات الأفغان بجوانبها؛ ظنا منهم أنها بداية طريق الوصول إلى الخلاص المجهول.
في 16 أغسطس/ آب 2021، سقطت كابل في أيدي الدولة الإسلامية وأمراء "العمائم المظفرة"، على حد وصف الكاتب والإعلامي أحمد فال الدين.
حينها، تمكنت الحرية من تملك زمام الأمور في أرض لم تعرف إلا لغة الدم والبارود، فانتحر على أبوابها أعتى وأشرس احتلالين لأكبر إمبراطوريات العالم، وكما قال شكيب أرسلان: "لو لم يبق للإسلام في الدنيا عرق ينبض، لرأيت عرقه بين سكان جبال الهيمالايا والهندوكوش نابضا، وعزمه هناك ناهضا".
حينها، تناثر ماء النظام الدولي وانكشفت سوءاته المتكررة، كما ظهرت جثث وأشلاء على الأرض فيما بعد، فالاعتقاد السائد آنذاك هو الهروب من هيمنة طالبان إلى الهيمنة الكبرى الأكثر رسوخا، والتي لا تُعرف وجهتها وتوقيت وصولها؛ لأن الخوف كان سيد الموقف.
يبقى النموذج الأفغاني الأكثر هيبة وحضورا في وضع جيوسياسي معقد، فالأفغاني بفطرته مقاتل شرس، لا يمكن أن يرضى بالهوان والذل، لأنه آمن بأن الدماء ترخص في سبيل الحرية، والتراب أثمن من دولار جاء على طبق مؤجل السداد.
يقول الكاتب والإعلامي أحمد فال الدين في مؤلفه "حجر الأرض": الأفغاني يفضل أن يُدفن واقفا على أن يعيش راكعا، فالأرض عنده ليست تربة فحسب، بل هي عقد أزلي بين الدم والتراب".. فذلك هو النموذج الذي برهن للعالم بأن الأرض لا تتحرر بالبيانات وعبارات الشجب التي اتسع خرقها، فاستعصى الخرق على الراتق.
على الرغم من اختلاف الجغرافيا في بعدَيها الزماني والمكاني، بين نموذج تحرر أفغانستان من السوفيات والأميركان، وتحرر بوركينافاسو من القيد الفرنسي، فإن الهدف واحد، وهو الخروج بشموخ وكبرياء من عباءة الهيمنة الغربية، التي فهمها الأحرار الذين كتبوا التاريخ بدمائهم، فيما انطلت تلك الهيمنة على المستعبَدين الموالين للدولار، الذين تركوا للآخرين أن يكتبوا عنهم، فلم يكن لهم قرار، بل سيقوا إلى مستقبل مرسوم لهم.
أربعون عاما أو ما يزيد هي الفترة التي قضتها أفغانستان للتخلص من هيمنة الاحتلال السوفياتي (1979ـ 1989)، ثم الاحتلال الذي فرضته أميركا وحلف الناتو (2001ـ 2021)، إلى أن وصلت إلى حكم إسلامي يتعثر بكثرة العقد السياسية في الاعتراف الدولي به، إلا أنه لم يسلم نفسه لقمة سائغة.
وفي ذات الوقت، ها هو يبني نفسه بأن يكون نموذجا للتقدم الاقتصادي والثبات السياسي، ضمن موقع إستراتيجي في قلب آسيا الوسطى، وعقدة الوصل بين الصين وباكستان، باعتبار أفغانستان إحدى الدول التي ستجني ثمار "الحزام والطريق الصيني"، إلى جانب امتلاكها احتياطيات ضخمة من النحاس والليثيوم والنفط والغاز.
وبشهادة كثير من المختصين، فإن أفغانستان سددت كافة ديونها، ووضعت نفسها في طريق الاستقلال كدولة إسلامية تحت حكم طالبان، وباحثة عن اعتراف دولي وفق ما تراه من مقاييس لذلك.
يقول د. حياة الله عتيد، وهو مستشار دولي في تطوير المواهب: ستكون أفغانستان أغنى من كل دول الخليج إذا تُركت لنا إدارة البلد لنمشي كما نحن الآن، ونكمل بما لدينا، وستساهم مؤسساتنا الخيرية في تنفيذ مشاريع الأعمال الخيرية في البلدان الفقيرة".
إن العبرة من ذلك هي في التحول الكبير الذي تشهده أفغانستان كنموذج يتجاوز المتوقع، من تقديم الدم والمقاومة إلى وضع اقتصادي متفاعل مع العالم بقوة قراره السياسي، شريطة عدم التدخل وشق الصف بين وحدته، وعدم السماح بإضعاف النموذج الإسلامي الذي يجب أن يسود، فهل سيكون هذا النموذج مستقرا وقادرا على الصمود؟
إن ثقافة الخوف من القوى الاستعمارية (الغرب) تحولت من هاجس سياسي إلى أداة تسلط وقهر مزدوجة المواقف، دفعت الدول المشوهة إلى اعتناق التسليم بدون مواجهة
ذهب الحرية
هناك، في قلب غربي أفريقيا، تعيش بوركينا فاسو حبيسة بدون منفذ بحري، تحدها من الشمال مالي، ومن الشرق النيجر، ومن الجنوب الشرقي بنين، ومن الجنوب توجو وغانا، ومن الجنوب الغربي كوت ديفوار (ساحل العاج). وهي دولة طابع سكانها شبابي تحت سن الـ18 سنة، وهي نقطة وصل إستراتيجية بين الساحل الأفريقي والصحراء الكبرى.
في سبتمبر/ أيلول 2022، دخل إبراهيم تراوري التاريخ بانقلاب أطاح بالنظام الموالي لباريس، لينقل بلاده من نظام حبيس ومكبل إلى نظام يكسر قيود التبعية الاستعمارية، لتكون واحة متمردة تعيد توجيه بوصلة التحالفات نحو الشرق، وتكون الثروات المتمثلة في الذهب (80% من صادراتها) الأداة التنموية للبلاد، ويوقف نهبها من الشركات الفرنسية.
لطالما كانت فرنسا، "الأم الناعمة الحنون"، تمتص رحيق الذهب واليورانيوم من بوركينا فاسو باستعمار مقنع منذ 1960، إلا أن استرداد الحقوق من تلك الأنياب التي تبتسم في شكلها لم يكن بالشيء السهل، بل تشكل بثورة عسكرية قادها شاب لا يتجاوز عمره 34 عاما، رافضا التبعية الفرنسية، ومتجها نحو بناء تحالفات بديلة عبر روسيا، والصين، وتركيا، ودول الخليج العربي.
إن قاعدة تراوري مبنية على أن تكون الثروة وسيلة للتحرر لا للتعبية والاستنزاف، حيث تناقص الاعتماد على المساعدات الفرنسية من 45% إلى 12%، أي إنه تحلل من قيود القروض وهيمنتها التي لا توجِد بلدا متقدما، مهما كان ظاهرها أو عوائدها على الطبقات الحاكمة ومن حولها.
بين كابل وواغادوغو ثمة تناص في النص وتشابه في الحواشي والمتون… هناك، بين تجليات القيادة التحررية يقين تام بأن طين الأرض يتماثل ويتوافق مع طين الإنسان، أو أنه هو ذاته؛ فالتحرر العسكري لا يكفي إن لم يتبعه- وبقوة- قرار سياسي حازم، يتكئ على وعي جمعي يحمي الإنجاز، وينهض كطائر الفينيق من رماد محرقة الاستنزاف، وانعكاسات قروض البنك الدولي، التي تلمع كالذهب في ظاهرها، بينما هي أغلال مستترة بعيدة المدى.
إن الحريات، بمختلف توجهاتها، لا تُمنح على طبق من ذهب أو سجاد "أحمر" يُفرش لمرور الأحذية الملمعة عليه، بل هي شرف يُنتزع بالقوة!
إن ثقافة الخوف من القوى الاستعمارية (الغرب) تحولت من هاجس سياسي إلى أداة تسلط وقهر مزدوجة المواقف، دفعت الدول المشوهة إلى اعتناق التسليم بدون مواجهة، بل جعلتها رهينة محبسين: محبس الذل السياسي ومحبس التعبيد الاقتصادي، لتكون مرهونة بصكوك لا تنفك عقدتها للتوجهات الأميركية والغرب أجمع، فلا تستطيع إيقاد شمعة لبناء تحالف خارج عن تلك الهيمنة، فهم عبيد في سوق الرأسمالية المعولمة المقيتة.
إن الحريات، بمختلف توجهاتها، لا تُمنح على طبق من ذهب أو سجاد "أحمر" يُفرش لمرور الأحذية الملمعة عليه، بل هي شرف يُنتزع بالقوة! فتلك أفغانستان علمتنا أن الدم يغلب السيف، وهذه بوركينا فاسو أثبتت أن الاقتصاد يكسر الهيمنة، فالدول التي تنام على محبسيها تبقى تدور في فلك الغرب، خاضعة لتصرفاته، مكبلة بديونها التي لم تستطع التحرر منها، ولن تستطيع.
ثمة شعور بالحرية عندما تتخلص الأرض من دنس أقدام الاحتلال، وتتحول إلى طهر أصحاب الأرض، وقد قال أحمد فال الدين: "حين يخرج آخر جندي أجنبي من أرضك، تبدأ أول خطوة نحو استعادة نفسك".
فهل نحن أمام ولادة حيوات جديدة، تتحرر فيها الشعوب من أنياب الإمبراطوريات المهلكة للحرث والنسل؟ وهل يمكن أن نطلق على أفغانستان اسم "مدرسة الدم والمقاومة"، وعلى بوركينا فاسو "مدرسة الاقتصاد والسياسة"؟ وهل يمكن اعتبار النموذجين خريطة انعتاق للشعوب للخلاص من محبس الذل ومحبس التعبيد؟


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق