غزّة.. كوفادونغا العرب وصحوة الأمة
سيلين ساري
لا يكتب التاريخ مساره دائمًا من القصور أو العواصم، بل أحيانًا يولد من الكهوف والصخور.
ففي القرن الثامن الميلادي، حين بدا أنّ الإسلام قد رسّخ أقدامه في الأندلس، احتمى رجل يُدعى "بيلايو" في كهف ضيّق يُعرف باسم كوفادونغا، ومعه بضع عشرات من المُنهزمين. لم يكن أحد في قرطبة أو غرناطة يتخيّل أنّ ذلك الملجأ الصغير سيصبح الشرارة التي تُشعل حركة الاسترداد المسيحية، وتنتهي بعد سبعة قرون بزوال الحضارة الإسلامية وإسدال الستار على الأندلس؛ الحضارة التي أنارت أوروبا بعد عصور الظلام. من صخرة غير ذات شأن بدأت النهاية، ومن كهف منسي أُعيد رسم خريطة أوروبا.
اليوم، يُعيد التاريخ نفسه بصورة معكوسة على شاطئ المتوسط. ففي غزّة، تلك البقعة المُحاصرة التي لا تتجاوز مساحتها بضع مئات من الكيلومترات، ينهض كهف آخر. مدينة يراها العالم "هامشية" أمام قوّة استعمارية مُدجّجة بالسلاح والدعم الدولي، لكنها تحوّلت إلى صخرة الأمّة التي ترد السهام وتفضح الوهم. كوفادونغا كانت بداية الزوال، أما غزّة فهي بداية القيامة.
غزّة اليوم ليست مجرّد جغرافيا محدودة، بل معنى مُتجدّد. من تحت الحصار والجوع والركام خرج رجال يقولون إنّ الأمة لم تمت، حوّلوا الألم إلى بطولة، واليأس إلى يقين، ليغرسوا في الوعي أنّ الاحتلال، مهما بدا مُطلق القوّة، فإنّه قابل للانكسار. وكما صنعت كوفادونغا أسطورة البداية للأوروبيين، تصنع غزّة اليوم أسطورة التحرير للعرب والمسلمين: كهف أنهى حضارة، وكهف آخر يؤسّس لعصر جديد.
ليست قضية فلسطينية فقط، بل قضية عروبة كاملة، تضع الحكام في مواجهة تاريخية مع شعوبهم
لكن غزّة لم تبق في حدود الرمزية، صارت امتحانًا سياسيًا للأمّة بأسرها. فهي تكشف موقع كلّ نظام من كرامة شعبه، وتفضح المسافة بين خطاب الحُكّام ووجدان الجماهير. الشعوب ترى في غزّة مرآة تعكس الصدق أو الخيانة، المقاومة أو التواطؤ، حتى غدت معيارًا للشرعية لا يستطيع أحد الإفلات منه. إنّها ليست قضية فلسطينية فقط، بل قضية عروبة كاملة، تضع الحكام في مواجهة تاريخية مع شعوبهم.
وعلى المستوى الدولي، تبرز غزّة كعقدة حقيقية في قلب النظام العالمي. فقد كسرت هيبة الجيش الإسرائيلي الذي لطالما قُدّم كقوّة لا تُقهر، وحطّمت أسطورة الردع التي بُنيت على تراكم الخوف. كما وضعت واشنطن في مواجهة أخلاقية أمام الرأي العام، وأجبرت موسكو وبكين وبروكسل على الاعتراف بأنّ غزّة ليست مجرّد ساحة حرب، بل فاعل سياسي يُغيّر الحسابات. إنّ مدينة صغيرة مُحاصرة أصبحت نقطة توازن تُعيد ترتيب أوراق القوى الكبرى.
هنا تتجلى قيمة غزّة؛ أنّها تُعيد تعريف مفهوم القوةّ، تقول إنّ الحضارات لا تُقاس بالخرائط ولا بترسانة السلاح، بل بقدرتها على أن تجعل من المعاناة وقودًا للمواجهة، ومن الضعف صلابةً، ومن الهزيمة نقطة انطلاق نحو النصر.
في غزة يُكتب الدرس، أنّ المستقبل لا يُرسم بالمدافع وحدها، بل أيضًا بصلابة الإرادة التي ترفض الانكسار.
لم تعد غزّة مجرّد معركة عابرة، بل أصبحت أفقاً حضارياً يُعيد للأمة إيمانها بذاتها بعد عقود من الانكسار
هذه الحقيقة تُفسّر لماذا يهتزّ العالم كلّما صمدت غزّة، ولماذا تتحرّك الجماهير من جاكرتا إلى الرباط كلما نزف شريانها. فغزّة لم تعد مجرّد معركة عابرة، بل أصبحت أفقًا حضاريًا يُعيد للأمة إيمانها بذاتها بعد عقود من الانكسار. هي لا تدافع عن حدودها فقط، بل عن المعنى نفسه: معنى أن تكون للأمّة قضيّة حيّة، ومعنى أن تظلّ لها قدرة على الفعل.
في النهاية، غزّة هي كوفادونغا العرب وصخرة الأمّة: كهف صغير يصوغ ملحمة كبرى، وصخرة تفتح طريق القيامة.
فإذا كانت الأندلس قد انهارت من كهف في أستورياس، فإنّ الأمّة ستولد من كهف غزّة.
وبين كهف الأمس وصخرة اليوم يقف التاريخ شاهدًا على أنّ الشعوب لا تموت، وأنّ المعنى قد يصمد أكثر من السلاح، وأنّ الكهوف الصغيرة قد تغيّر خرائط العالم.
.jpg)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق