أسباب صدام الأنظمة الحاكمة مع الإخوان المسلمين (2)
دراسة تاريخية
تمهيدي
أولاً: الاحتلال البريطاني وسيطرته على مصر
لقد تعرضت مصر بسبب موقعها الفريد للغزو المتتالي من قبل الدول الخارجية، وفي كل مرة كانت تفرض الدولة الغازية سياستها ومنهجها على الدولة المحتلة، وانتهت هذه الحملات الاستعمارية بالغزو البريطاني لمصر في سبتمبر عام 1882م، والذي سعى منذ اللحظة الأولى على تشكيل سياسة البلاد بما يتراءى لمصالحه، فسخر مقوماتها لخدمته وخدمة أهدافه الاستعمارية، وللأسف ساعده بعض المصريين الذين افتتنوا بحضارته، فارتموا في أحضانه، وسخروا كل جهودهم لتمكينه من السيطرة على كل مقومات البلاد واستعباد أهلها.
ثانياً: التحكم في السياسة والحكم
وفرض الإنجليز سياستهم منذ اللحظة الأولى على كل مصري، فأصبحت السياسة والقرارات السياسية تصدر من قصر الدوبارة، ومن مقر المندوب السامي البريطاني، حتى وصل الأمر بتدخلهم في عزل خديوي وتولية آخر على العرش، بل عملوا على عزل ونفي الملك فاروق في الحادثة الشهيرة في 4 فبراير 1942م إن لم يستجب لرغباتهم، فنزل لهم في مشهد مهين على هذه الرغبات وحققها لهم، كما أن الإنجليز فرضوا على السياسة المصرية مبدأ مصاحبة من يصاحب الإمبراطورية البريطانية ومعاداة من يعاديها.
ثالثاً: السيطرة الاقتصادية
بل وصل الأمر لأخطر من ذلك عندما سيطرت بريطانيا على كل المقومات الاقتصادية للبلاد، فأصبح الجنيه المصري يسير في ركاب الجنيه الإسترليني، وأصبحت الخامات المصرية لا تصدر إلا إلى بريطانيا، وأصبحت المنتجات المصرية تساق لخدمة الجيش البريطاني، وحرم منها أبناء الوطن، فتفشت الأمراض والفقر والتسول والبطالة، وظهرت الطبقية، فعاش غالبية الشعب المصري حياة أشبه بالحياة التي تحياها المواشي، فحرم أبناؤهم من التعليم، ومن الترقي للوظائف العليا والتي أصبحت حكرًا على أبناء الأثرياء الذين يدورون في فلك المستعمر الإنجليزي ويخدمونه، وتقضي مصالحهم فعل ذلك على حساب أبناء الشعب الفقير.
رابعاً: الانهيار الاجتماعي والأخلاقي
كما تعرضت الحياة الاجتماعية لضربات قوية وزلازل عمت أركان الأسر بعد دخول المحتل، فسن البغاء بقانون وأصبح مشروعا في بلد دينه الأول الإسلام، كما فشت الرشوة والمحسوبية والانحلال الخلقي، واغتصبت الحرائر على يد ضباط وعساكر الجيش البريطاني، ولم يحرك ذلك حكومة ولا ملكًا، فباتت البلاد في فوضى، وساعد على ذلك شيوع ثقافة الغرب وسط أبناء الأمة، وهي الثقافة التي كان يقصد من ورائها شيوع الانحلال، والسعي وراء هذه الشهوات، وخدمتها على حساب التصدي لهذا المحتل، والتصدي لسياسته التدميرية.
خامساً: ضرب التعليم والعلماء
وفي ذات الوقت لم يكتف الاستعمار بالسيطرة على الأمور السياسية والاقتصادية والفكرية، ونشر الفساد وسط الطبقات الاجتماعية، بل عمل على تدمير البنية التحتية لشعوبنا، وضرب الأخلاق في محرابها، فوجه سهامه إلى حصن الأمة الحصين وهم العلماء فأنقص من شأنهم، وعمل على شرائهم، فانساق وراء كلماته الزائفة نفر من العلماء، ودمر مناهج التعليم، ولقد اعترف القس زويمر في مؤتمر عالمي عام 1925م بهذا حين قال: “إن السياسة التي انتهجها “دانلوب” في مصر نحو التعليم ما تزال مثار شكوى لاحتوائها على شوائب كثيرة ضد مقاصد الدين والوطن”، كما حصر الاحتلال التعليم في أبناء الطبقة العليا، وفرّق بين التعليم الأزهري والتعليم العام.
سادساً: بروز المقاومة الشعبية
كل ذلك أحدث تغييرات في تربية وتنشئة أبناء الوطن المحتل، فخرج منهم رجال تصدوا بكل طاقتهم إلى فكره المعوج الذي أراد به السيطرة على أبناء الأمة ورجالاتها، بل حملوا السلاح في وجهه وأذاقوه الويلات بين زقاقات وحواري الأحياء، حتى دفعوه إلى الخروج والتمركز في مدن القنال.
سابعاً: نشأة جماعة الإخوان المسلمين
في هذا الزمن نشأت دعوة الإخوان المسلمين عام 1928م، وعمل حسن البنا منذ اللحظة الأولى على إيجاد جيل يعرف حق وطنه، وحدد مهمة الإخوان المسلمين في رسالة: “رسالة بين الأمس واليوم” والتي صدرت أوائل الأربعينيات فقال:
“شهد الله أننا لا نريد شيئًا من هذا وما لهذا عملنا ولا إليه دعونا، ولكن اذكروا دائمًا أن لكم هدفين أساسيين:
1 – أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي وذلك حق طبيعي لكل إنسان، لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد قاهر.
2 – أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة، تعمل بأحكام الإسلام، وتطبق نظامه الاجتماعي، وتعلن مبادئه القويمة، وتبلغ دعوته الحكيمة الناس، وما لم تقم هذه الدولة فإن المسلمين جميعًا آثمون مسئولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها وقعودهم عن إيجادها. ومن العقوق للإنسانية في هذه الظروف الحائرة أن تقوم فيها دولة تهتف بالمبادئ الظالمة وتنادي بالدعوات الغاشمة، ولا يكون في الناس من يعمل لتقوم دولة الحق والعدالة والسلام”.
ثامناً: مراحل تطور الدعوة
بهذه الأهداف حدد الأستاذ البنا مهمة جماعة الإخوان المسلمين، وأخذ يعمل على تحقيق ذلك في كل المراحل التي مرت بها الدعوة من مرحلة التعريف بالدعوة لمرحلة التكوين، ثم أراد أن يختمها بمرحلة التنفيذ، واستطاعت الجماعة تحقيق المرحلتين الأوليين: التعريف من عام 1928م حتى عام 1938م، ثم كانت مرحلة التكوين من عام 1939م حتى استشهاد حسن البنا وإن كانت كل المراحل متداخلة في بعضها البعض، وبدأت في تحقيق أهدافها وإصلاح المجتمع فحاربت التبشير والبغاء وكل ما يهدم الدولة، كما طالبوا بإصلاح مجال التعليم، عملوا على إصلاح الناحية الاقتصادية، فأنشئوا الشركات والمصانع كشركة المعاملات الإسلامية سنة 1939م، والشركة العربية للمناجم والمحاجر عام 1946م، وشركة الإعلانات العربية والتي تأسست عام 1947م واشتغلت بالدعاية والإعلان والإخراج، وشركة الغزل والنسيج عام 1948م وهم بعيدون في البداية عن الأمور السياسية.
تاسعاً: النشاط الاجتماعي والإصلاحي
وقامت الجماعة بإنشاء دار التائبات بالإسماعيلية، وساعدت الجمعيات التي طالبت بإلغاء البغاء، ونتيجة لهذه الجهود التي بذلها الإخوان والشرفاء من هذه الأمة ألفت لجنة لبحث موضوع البغاء الرسمي بموجب قرار مجلس الوزراء الصادر في 12 أبريل سنة 1932م، وقد عقدت تلك اللجنة أول اجتماع لها يوم 8 يونيو سنة 1932م برئاسة الدكتور محمد شاهين باشا وكيل الداخلية للشئون الصحية لدراسة هذا الأمر.
عاشراً: الموقف من السياسة في البداية
وفي المجال السياسي لم يرغب حسن البنا في بداية الدعوة أن يصطدم بالواقع الذي تحياه البلاد من كونها واقعة تحت الإستعمار.
وحاول قدر المستطاع تجنب الدخول في مهاترات سياسية حزبية مما كانت معروفة وشائعة في تلك الفترة، وحتى لا تعد جماعته حزبًا من الأحزاب القائمة فينصرف عنها الناس، وقد كتب حسن البنا خطته في النهوض بالأمة فقال تحت عنوان: “في سبيل النهوض”:
“يجب أن تكون دعامة النهضة “التربية”؛ فتربى الأمة أولاً وتفهم حقوقها تمامًا، وتتعلم الوسائل التي تنال بها هذه الحقوق، وتربى على الإيمان بها، ويبث في نفسها هذا الإيمان بقوة، أو بعبارة أخرى تدرس نهضتها درسًا نظريًّا وعمليًّا وروحيًّا، وذلك يستدعي وقتًا طويلاً؛ لأنه منهج دراسة يدرس لأمة، فلابد أن تتذرع الأمة بالصبر والأناة والكفاح الطويل، وكل أمة تحاول تخطي حواجز الطبيعة يكون نصيبها الحرمان”.
الحادي عشر: فهم الإخوان للسياسة
لكنه كان مع ذلك يربي أفراد جماعته على معنى السياسة، وأنها إصلاح، وليست حربًا بين كل حزب وآخر، أو صراعًا على الكرسي، فلم تلتفت أية حكومة للإخوان المسلمين إلا على أنهم جماعة دينية تربي أبناءها على معاني الدين، غير أن الجماعة لم تكن بعيدة عن السياسة منذ نشأتها -كما يقول به بعض المؤرخين- لكن السياسة التي كان يقصدها حسن البنا في البداية هي السياسة الحزبية التي لا تجني سوى الصراعات والمهاترات، حتى إنه دفع العمال المنتمين للجماعة لاستقبال الملك فؤاد في الإسماعيلية؛ حتى يري الغرب كيف أن المصريين يحترمون ملكهم.
الثاني عشر: التصريحات الفكرية والسياسية للبنا
وأوضح حسن البنا ذلك في رسالة “إلى أي شيء ندعو الناس”، والتي صدرت في مايو 1934م حينما قال:
“يا قومنا، إننا نناديكم والقرآن في يميننا، والسنة في شمالنا، وعمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة الصالحة قدوتنا، وندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام وهدي الإسلام، فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا، وإن كان من يدعوكم إلى هذه المبادئ سياسيًّا فنحن أعرق الناس -والحمد لله- في السياسة، وإن شئتم أن تسموا ذلك سياسة فقولوا ما شئتم، فلن تضرنا الأسماء متى وضحت المسميات وانكشفت الغايات.
يا قومنا: لا تحجبنكم الألفاظ عن الحقائق، ولا الأسماء عن الغايات، ولا الأعراض عن الجواهر، وإن للإسلام لسياسة في طيها سعادة الدنيا وصلاح الآخرة، وتلك هي سياستنا لا نبغي بها بديلاً، ولا نرضى سواها دينًا، فسوسوا بها أنفسكم، واحملوا عليها غيركم تظفروا بالعزة الدنيوية، والسعادة الأخروية، ولتعلمن نبأه بعد حين”.
الثالث عشر: الخاتمة – سبب التصادم
إذًا .. لم يكن الإخوان كما ذكر البعض قد تجاهلوا السياسة منذ نشأة الدعوة، وأنهم تغيروا عن مبادئهم، لكنهم ساروا بمرحلية دعوية حتى يستطيعوا تربية المجتمع تربية إسلامية، حتى يكون مؤهلاً للحكم على الوضع بما يرى.
إذًا.. ما السبب في صدام الإخوان مع الحكومات في النظام الملكي؟
في المقال القادم تتمة

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق