الجمعة، 26 سبتمبر 2025

إعادة إنتاج النكبة... دولة فلسطين أم ولاية فتح؟

 إعادة إنتاج النكبة... دولة فلسطين أم ولاية فتح؟

وائل قنديل

"وجدّدوا التزامهم بالتعاون مع الرئيس ترامب، وأكّدوا أهمية قيادته من أجل إنهاء الحرب وفتح آفاق لسلام عادل ودائم". 

... هذه الفقرة من البيان المشترك الصادر عن الدول العربية والإسلامية بعد اجتماع الرئيس الأميركي بها في نيويورك خارج إطار الأمم المتحدة، تبدو وكأنّها منقولة حرفيّاً من أرشيف الفترة التي قادت العرب إلى النكبة الأولى في العام 1948 وضياع فلسطين.

لا يُخفي دونالد ترامب التماهي الكامل مع التصوّرات الصهيونية للصراع، ولا يترك مناسبة إلا ويؤكّد فيها التزامه التام بمصلحة الكيان الصهيوني، ومساعدته في توسيع حدوده الجغرافية وفرض هيمنته السياسية والعسكرية على الإقليم، فضلاً عن أنه لا يفعل أكثر من تحويل الأحلام الإسرائيلية إلى قرارات مُلزمة لدول المنطقة، انطلاقاً من مسألة واحدة أساسية في العقل الأميركي الصهيوني، بشأن ما يجري في غزّة والأراضي الفلسطينية المُحتلة، وتتلخّص في ثلاث نقاط رئيسة: استعادة أسرى الاحتلال وجثث قتلاه في الهجوم على غزّة، وإلقاء المقاومة الفلسطينية أسلحتها ومغادرة فلسطين واعتبار خيار المقاومة  من أشكال الإرهاب، وأيضاً تعيين إدارة لغزّة المدمّرة المهدّمة تشارك في اختيارها إسرائيل، ثم يمكن الكلام عن إدخال المساعدات وإعادة بناء القطاع المدمّر، وفقًا لرؤية الرئيس الأميركي، مشروعاً سياحيّاً تملكه واشنطن وتديره بالأموال العربية بالطبع.

والحال كذلك، ومع الالتزام العربي الرسمي المُعلن بالعمل تحت قيادة ترامب، وبأمره، يصبح الخطاب المتكرّر عن "رفض التهجير" نوعاً من اللغو الفارغ، بالنظر إلى أنّ الشعب الذي يردّدون أغنية رفض تهجيره بكلّ ابتذال لن يبقى منه شعب، بمعنى مواطنين يتمتّعون بالسيادة على أرضهم في وطنهم الحر، لا كميّاً من حيث التعداد الذي يتناقص بمعدّل مائة مواطن في اليوم، ثلاثة آلاف كلّ شهر على مدار 24 شهراً، أو كيفيّاً بمعنى أنّ المسموح لهم بالبقاء في غزّة سيصبحون محض "مادّة بشرية" لتشغيل المشروع الأميركي الإسرائيلي، المُموّل عربيّاً.

الكلام طوال الوقت عن رفض التهجير من دون أيّ جهدٍ ملموسٍ لإزالة الأسباب التي تغذّي حلم التهجير عند العدو، الذي لم تعد الدول العربية الملتزمة قيادة ترامب تسميه عدوّاً، هو كلام يخلو من أيّ مضمونٍ جدّي، على نحو يذكّر بما فعلته مجموعة الدول العربية والإسلامية التي ألزمت نفسها بالعمل تحت قيادة بريطانيا العظمى لحلّ قضية الاحتلال اليهودي لفلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي، وبالتحديد بعد اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الكبرى في وجه الاستيطان الصهيوني المحمي والمدعوم بالانتداب البريطاني على فلسطين. تلك الانتفاضة التي عُرفت بالثورة العربية الكبرى بمواجهة عصابات الهجرة اليهودية تطوّرت إلى عصيانٍ مسلّح وإضراب عام دام ثلاث سنوات في وجه بريطانيا التي منحت ما لا تملك إلى من لا يستحقّ، ووجدت مشروعها لتمكين الكيان الصهيوني في خطرٍ شديدٍ فماذا فعلت؟

فعلت بريطانيا ما تفعله أميركا الآن بالضبط لقتل ثورة 7 أكتوبر (2023*، لجأت إلى استخدام الملوك والقادة العرب والمسلمين للضغط على صنّاع الثورة الفلسطينية والكبرى، تشكيل لجنة تتولى الضغط على الثوّار لإنهاء ثورتهم وتسليم سلاحهم مع وعودٍ وهميةٍ بأنّ بريطانيا الرحيمة سوف تعطيهم حقوقهم. في وثائق المقاومة الفلسطينية الصادرة عن معهد الدراسات الفلسطينية في بيروت عام 1968 تجد أن الوسطاء العرب نجحوا في التأثير على لجنة أعيان الثورة لقبول هذه الوساطة بالإجماع بوصفها  

"أفضل وسيلة للتوصل إلى حل للأزمة، حل يسمح للحكومة الانكليزية بإثبات حسن نواياها تجاه الشرق العربي".

وتُرك لرئيس وزراء العراق في ذلك الوقت، نوري السعيد باشا، أن يصوغ باسم ملك العراق رسالة الملوك والأمراء العرب كالتالي: 

"لقد تألمنا كثيراً للحالة السائدة في فلسطين. فنحن بالاتفاق مع إخواننا ملوك العرب والأمير عبد الله ندعوكم إلى الخلود للسكينة حقناً للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية، ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل والوفاء بتعهداتها. وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم".

وفى 8  أكتوبر / تشرين الثاني 1936 قبل الملك ابن سعود نصّ البيان، وفي 9  أكتوبر قبله الأمير عبد الله أمير شرق الأردن والإمام يحيى إمام اليمن بدورهما. وفي 10 أكتوبر كان بوسع المندوب السامي أن يرسل برقية إلى لندن ليبلغها بأنّ النصّ قد قبله كلّ الملوك العرب باستثناء ملك مصر، وأنّه، رغم هذا النقص، فإنّ اللجنة العربية العليا ستطلب منذ الغد (11 أكتوبر) إنهاء الإضراب والاضطرابات ابتداء من 12  أكتوبر/ تشرين الثاني. وبالفعل أعلنت اللجنة العربية العليا في 11 أكتوبر/ تشرين الثاني 1936 أنه "بناء على طلب الملوك والأمراء العرب" ينبغي إيقاف الإضراب الذي كان قد استمرّ مئة وسبعين يوماً".

لو دقّقت  في اللحظة الراهنة، سبتمبر/ أيلول 2025  ستجد مشاهد الماضي تتجسّد أمامك الآن مع تبدّل الأدوار في منظومة الحكومات العربية، فها هو محمود عبّاس يحاول لعب دور لجنة وأد الانتفاضة على نحو أكثر بشاعة من الماضي، إذ يذهب إلى الأبعد والأسفل، حين يجرّم الثورة الفلسطينية ويعتبرها إرهاباً، ويجعل أرزاقه أنّه  يكرّر اعترافه بحقّ الكيان الصهيوني في الوجود عشر مرات مقابل إنكار حقّ "حماس" في الوجود 20 مرّة، فكلّ ما يشغله الحصول على "ولاية فتحاوية" صغيرة، وليهنأ الاحتلال ببقية فلسطين، وكذلك يفعل القادة العرب الذين عادوا من عند ترامب، مُفاخرين بالعمل تحت قيادته، مُلتزمين بمقولاته المقدّسة عن ضرورة إنهاء وجود فصائل المقاومة الفلسطينية في غزّة، وفي مقدمتها حركة حماس وتجريدها من سلاحها واستبعادها من أيّ دور في إدارة القطاع.

إسرائيليّاً، أيضاً، ستجد نتنياهو في دور بن غوريون، الذي كان يبدي امتعاضاً وغضباً زائفين ممّا توصّلت إليه بريطانيا مع القادة العرب والمسلمين، تماماً كما يفعل نتنياهو الآن مع مخرجات اجتماعات إدارة ترامب والحكومات العربية، يمتعض، لكنه يردّد بينه وبين نفسه "فهذه الحدود التي يفرضونها علينا سنحطمها".



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق