نقش سلوان بين نتنياهو وأردوغان
لم يكن “نقش سلوان” الذي أثار الجدل بين نتنياهو وأردوغان سوى عنوان جديد للمحاولات الإسرائيلية للسطو على تاريخ فلسطين القديم، وتقديم قراءة صهيونية للوقائع تؤكد المزاعم بأن الأرض لليهود منذ أزمان سحيقة، فهذا اللوح الحجري الموجود في متحف إسطنبول ويطالب به رئيس الوزراء الإسرائيلي يتحدث عن النفق الذي بناه سكان القدس اليبوسيون العرب قبل خروج بني إسرائيل من مصر بألفي عام، لنقل المياه إلى داخل مدينتهم الحصينة.
في إطار التصعيد الإسرائيلي في الضفة وقرار الضم استنادا إلى مزاعم توراتية، وصف نتنياهو النقش بأنه أحد “أهم الاكتشافات الأثرية الإسرائيلية بعد مخطوطات البحر الميت، لأنه يثبت الوجود اليهودي في القدس”، وأشار إلى أنه عرض على رئيس الوزراء التركي الأسبق مسعود يلماز عام 1998 أن يسلمه النقش ويختار مقابله ما يشاء من القطع الأثرية العثمانية في “إسرائيل”، ولكن طلبه قوبل بالرفض خوفا من أردوغان والي إسطنبول في ذلك الوقت.
كان رد أردوغان على نتنياهو حاسما بالرفض، حيث أكد أن “تركيا لن تمنح أحدا ولو حصاة واحدة تعود للقدس”، وقال: “هل أعطاهم السلطان عبد الحميد شيئا؟ هل استطعتم أن تأخذوا منه شيئا؟ نحن أحفاد السلطان عبد الحميد، نسير في الطريق نفسه، ما دامت هذه الروح في هذا الجسد، سنحافظ على أمانات أجدادنا، ولن نسحب يدنا عن القدس أبدا”، وكان أردوغان يعي ما يهدف إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي وهو إضفاء الشرعية على الحفريات التي تجري في القدس الشرقية لابتلاعها.
عين سلوان المحتلة
تعد عين سلوان من أشهر عيون مدينة القدس الشريف وأقدمها، يعود عمرها إلى 5 آلاف عام، حين حفر اليبوسيون وهم فرع من القبائل الكنعانية نفقا تحت الأرض لنقل الماء من نبع أم الدرج إلى داخل القدس، وهو عبارة عن قناة طولها 533 مترا، لتصبح على مر السنين المورد المائي الوحيد لسكان البلدة القديمة.
في نهاية القرن التاسع عشر تم العثور على النقش موضوع الجدال في داخل نفق سلوان، ووجدوا كتابة منحوتة على الجدار، فأسرع الإسرائيليون بتفسيرها على أنها تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد في عهد مملكة يهوذا، وأن الملك “حزقيا” هو الذي حفر القناة كما جاء في سفر الملوك الثاني، وقالوا إنها تثبت الوجود اليهودي في القدس.
النقش الذي يطالب به نتنياهو مكتوب باللغة الفينيقية القديمة التي تفرعت هي والآرامية عن الأبجدية الكنعانية، ولم يذكر العام الذي حفر فيه النفق، ولا الملك الذي أمر بالحفر، ولو كان النقش يعني هذه الرسائل الدعائية لتمجيد الحاكم أو الملك لكان الأولى أن يوضع عند المدخل، وعلى حجر مميز، وبكتابة واضحة، وليس بهذه الطريقة المرتجلة من العمال الذين أنجزوا المهمة.
حتى لو كان “حزقيا” قد قام بمد النفق إلى اتجاه الغرب كما ورد في التوراة، فإن هذا التعديل في المسار لا ينفي أن الذين حفروا النفق هم اليبوسيون. وقد ذكرت التوراة أن مدينة اليبوسيين التي فشل اليهود في احتلالها طوال 300 عام استطاع داود فتحها بعد معرفة مدخل القناة، وتسلل جنوده داخل النفق وسيطروا على المدينة من دون قتال.
يعد نفق سلوان واحدا من المشروعات الهندسية الكبرى التي شيدها الكنعانيون لتأمين الماء لحصونهم، للحماية من الغزاة الذين يطمعون في بلادهم، وهو يشبه نفق بلدة جازر الكنعانية الذي تم حفره قبل ميلاد المسيح بـ3 آلاف عام، على بعد 35 كيلو مترا شمال غرب القدس، بطول 219 قدما لإمداد الحصن بالمياه، والكتابات المدونة على هذه الآثار باللغة الآرامية، حيث لم يكن لليهود الحرف الخاص بهم الذي كتبوا به التوراة إلا بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، وهو مشتق من الخط الآرامي، ولا يوجد ما يسمى بالحرف العبري القديم.
لم يترك اليهود في فلسطين أي منجز حضاري
تهدف الحفريات التي بدأت منذ القرن التاسع عشر في القدس إلى إثبات مزاعم التوراة عن يهودية القدس، والبحث عن أي دليل يؤكد الوجود اليهودي في زمن داود وسليمان وغيرهما، وذلك لتأكيد الحق في الاحتلال وتبريره بمزاعم توراتية لإعطاء القداسة والمشروعية لعملية التهويد بالقتل والإبادة والتهجير
تستخدم الجماعات الصهيونية الاكتشافات الأثرية كدليل على حقها التاريخي في الاستيلاء على القدس كلها، وتقويض حق الفلسطينيين في التمسك بمنازلهم وأرضهم، وهنا يظهر التلاعب باستخدام علم الآثار كوسيلة حرب لطرد أصحاب الأرض بمزاعم التنقيب والبحث، رغم أن البعثات الغربية التي تعمل منذ قرن ونصف قرن لم تعثر على أي أثر أو حفرية تثبت الوجود اليهودي في المكان، مما يؤكد أن وجودهم كان طارئا، ولم يكن لديهم حضارة تدل عليهم.
نقطة الضعف التي تواجه الإسرائيليين حتى اليوم هي عدم وجود أي دليل مادي يؤكد أنهم عاشوا في فلسطين، وعدم الوصول لأي دليل علمي يؤكد المزاعم الإسرائيلية بأنهم أقاموا دولة مستقرة لها منجزات حضارية.
لقد عثر علماء الآثار الغربيون ومنهم يهود كثر على قطع أثرية ثمينة لكل الأمم والشعوب التي عاشت في القدس وفلسطين قبل الوجود اليهودي وبعده، مثل الكنعانيين واليبوسيين والآراميين والآشوريين والبابليين والفراعنة المصريين، وحتى العهود المتأخرة مثل الإغريق والسلوقيين والرومان، ولكنهم لم يجدوا أثرا يعود لليهود.
محاولة اختطاف إبراهيم وتزييف التاريخ
يحاول الصهاينة تغيير التاريخ لإثبات أن وجودهم في فلسطين ممتد ولم ينقطع، فأرجعوا نسبهم إلى سيدنا إبراهيم رغم أنه عاش في القرن التاسع عشر ق.م، بينما ظهر موسى في القرن الثالث عشر ق.م. وبنص القرآن: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين}، وقال الله تعالى: {يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنـزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون}.
حصر اليهود التاريخ بعد إبراهيم في يعقوب وموسى وداود وسليمان ومملكة يهوذا، متجاهلين الفاصل الزمني الطويل بين هذه الفترات المنفصلة، ووصفوا العرب الذين ينتسبون لإبراهيم بأنهم حاميون أي أقل درجة منهم، رغم أن العرب ساميون من أبناء سام بن نوح.
إن عهد إبراهيم عصر عربي قائم بذاته، وهو مرتبط بالكعبة المشرفة، وبيت الله الحرام في مكة، ولا صلة له بعهد موسى ولا عهد اليهود من بعده. فالتوراة كتبت بعد إبراهيم بـ1300 عام، وبعد موسى بأكثر من 7 قرون، وهي غير التي نزلت على موسى، حيث تضم أسفارا بعد وفاة موسى، وتتحدث عن فترات زمنية لاحقة، وبها وصايا لا يمكن نسبتها إلى الله مثل الإبادة، وقتل الأطفال والنساء والبهائم، وحرق المدن.
التوراة التي بين أيديهم اليوم كتبت في الأسر البابلي بعد 700 عام من خروج موسى من مصر، وتم تدوينها في بابل في فترة الأسر البابلي (586 – 539 ق.م)، كتبها الكهنة والأحبار الباقون من مملكة يهوذا التي مُحيت، وقد ثبت أن ما ورد في التوراة من شرائع وتقاليد وطقوس مقتبس من الشرائع الكنعانية والبابلية (انظر كتاب “العرب واليهود في التاريخ، حقائق تاريخية تظهرها المكتشفات الآثارية” للدكتور أحمد سوسة، المفكر العراقي اليهودي الذي اعتنق الإسلام).
الوعد المزعوم ملغى ولم يتحقق
أخطر ما ورد في التوراة هو الوعد المزعوم الذي أعطاه الله لإبراهيم وذريته بملكية الأرض من الفرات إلى نهر مصر (وادي العريش) وأمرهم بإبادة أعدائهم، فالوعد لم يتحقق لا في عهد موسى ولا في عهد داود وسليمان، وتم طرد اليهود من كل فلسطين بعد ذلك على أيدي الرومان، وهذا أكبر دليل على أن الوعد مكذوب وتم حشره في الأسفار المحرفة.
حتى لو افترضنا أن هذا الوعد صحيح، فإن التوراة تعترف بأن الله قد نقضه وألغاه، وقرر إزالة مملكة سليمان، لأنه أهمل وصايا الرب وعبد الأصنام، حسب ما ورد في سفر الملوك الأول: “لما كبر سليمان في السن أغرته نساؤه ليعبد آلهة أخرى، فلم يكن قلبه بكامله مع المولى إلهه.. فقال الله لسليمان: بما أنك تصرفت بهذه الطريقة ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها، فإني أمزق المملكة عنك تمزيقا”.
العجيب أن نتنياهو وقيادات الاحتلال الذين يتحدثون اليوم عن إقامة إسرائيل الكبرى التوراتية وتنفيذ الوعد المزعوم، ليس لهم أي صلة بفلسطين، وليس لهم هم وأجدادهم أي صلة رحم بأبناء يعقوب، فهم لا ينتمون لبني إسرائيل، وإنما هم من يهود الخزر الذين عاشوا في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.
ينتمي قادة الاحتلال والمستوطنون إلى دولة الخزر التي ظهرت في القرن السادس الميلادي جنوب روسيا، بين بحر قزوين والبحر الأسود، وقد اعتنق ملكها الديانة اليهودية ليتميز عن دولة المسلمين في الجنوب ودولة الروس المسيحيين في الشمال، وقضى عليها الروس في نهاية القرن التاسع فتفرقوا في أوروبا الشرقية واتجه الكثير منهم إلى غرب أوروبا وأمريكا.
تاريخ فلسطين معلوم ولن تفلح محاولات تشويهه وتغييره، وكما أن اليهود الغرباء لن يستطيعوا تهويد التاريخ، فلن يستطيعوا سرقة الأرض وتهجير أهلها، فالقوة الطاغية لن تعطي الحقوق لغير أهلها، والقادم لأصحاب الحق الذين يصعب كسرهم، وستكون نهاية المعتدي حتمية، فالتاريخ يعيد نفسه ولكن الحمقى لا يفهمون.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق