هل ما قاله الشيخ (الددو) صحيح؟
ماذا قال الشيخ (الددو)؟
قال وفي بودكاست طويل آراء كثيرة، تتفق أو تختلف معه في كثير منها، لكنّ رأيًا من هذه الآراء يلفت النظر بشدة ويثير التساؤلات بقوة وحدّة، وهو قوله: إنّ أول نكبة تعرضت لها الأمة وأثّرت فيها تأثيرًا عميقًا هي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات والوحي أشدّ ما يكون تتابعًا، فلم يكتب لنا دستورًا ولم يبين لنا كيف نختار الحاكم ولا كيف نحاسبه أو نعزله، فتسبب ذلك في ارتداد جمهور المسلمين عن الإسلام، هذا ما قاله باختصار يسير؛ فما القول فيما قال؟
أولًا: فضيلة الشيخ الددو عالم من علماء الأمة المعاصرين، له باع في الفقه والشريعة، وله فضله وجهاده، ونحسبه – ولا نزكيه على الله – على ورع وتقوى وإخلاص وتجردّ، لكن يبقى أنّ كل إنسان – سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم – يؤخذ منه ويردّ عليه، فلا مزايدة على الشرع للنيل منه أو الطعن عليه، وإذا كنّا نحبه ونجلّه ونحترمه ونسمع له ونطيع في المعروف لكونه أحد علماء الأمة الكبير؛ فإنّ الحق أحبّ إلينا.
ثانيًا: القول بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يكتب لنا دستورًا، يُعَدُّ من قبيل الكلام الذي لا يروج في مضارب الشريعة وأسواق الفقه بفلس أكله الصدأ؛ لأنّ جميع الموادّ القانونية التي تمثل دستورًا دستورًا لحكم إسلاميّ مبثوثة في الكتاب والسنة، وما تُرك – فقط – هو الترتيب والتبويب والتدوين، شأنها في هذا شأن جميع العلوم الإسلامية القائمة على الكتاب والسنة، والتي لم يقم تأخير تدوينها وتبويبها دليلًا على نقص في الدين أو قصور في التشريع.
ثانيًا: لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّته دون أن يبيّن لها طريقة اختيار الحاكم ولا طريقة محاسبته وعزله، وإنّما الذي تركه ولم يفعله، وهمّ أن يفعله ثمّ تراجع، هو أن يقوم هو نفسُهُ بالاستخلاف والتوصية لإمام بعده، أو لسلسلة من الأئمة يسميهم، ولو كان الاستخلاف من قبيل البلاغ ما تركه بعد أن همّ به، ولكنّه كان من قبيل النصح للأمة، وكونه – عليه السلام – همّ بالتوصية – كما في حديث ابن عباس وأحاديث عائشة – ثم تركها بعد الهمّ بها يُعَدُّ دليلًا على أنّ الترك مقصود، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص ولم يستخلف ولم يولّ أحدًا بعده، مع توفّر الدواعي وانتفاء الموانع واتساع الظرف؛ وهذا يعني أنّه ترك الأمة لتختار بنفسها، وهذا أحد الأدلة – العديدة – على أنّ الأمة مصدر الشرعية السياسية، وهذا حكم شرعيّ كبير يجب أن يوضع في دستور الأمة كمادة قانونية دستورية كبرى، أمّا آلية الاختيار فهذه من جملة التفصيلات التي ردّنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سنة الخلفاء الراشدين أي – طريقتهم – في حديث العرباض بن سارية وغيره، وقد كانت طريقتهم جميعًا هي أن يتحقق هذا الاختيار بمسار يمرّ بمرحلتين، الأولى: البيعة الخاصة (بيعة أهل الحلّ والعقد)، والثانية: البيعة العامة (بيعة السواد الأعظم).
ثالثًا: دلّ القرآن والسنة – قولية وعملية – على أنّ الدولة في الإسلام قامت على علاقة عَقْدِيّة، وأنّ الشريعة اشتملت – ليس فقط على مبادئ سياسية عامّة – وإنّما على نظام سياسيّ شامل وكامل، نظام يشتمل على أسس ومؤسسات وآليات، غير أنّه – لكماله – ترك فجوات عن قصد، بعضها في مساحة الأدوات والآليات والأمر الفنية، التي تَكِلُها الشريعة أصلًّا للعقل البشري والتجربة الإنسانية، وبعضها في مساحة موارد الاجتهاد، التي تتغير فيها الأحكام المنوطة بالعوائد والمصالح بتغير الأزمان.
رابعًا: القول بأنّ هذا – ما ادعاه الشيخ – كان هو السبب في ردّة أغلب المسلمين قول عار عن الصحة تماما؛ لأنّ الردة كانت كلها في أول عهد أبي بكر والأمة في قمة رشدها السياسيّ، ولم يكن أحد يخالجه شك في أحقية أبي بكر بها ولم ينازعه أحد عليها ولم يكن للردة من سبب وجيه يرتبط بمظالم سياسية أو اختلالات حكمية، إنّما كانت كلها حسدًا وجاهلية، ومحاولات مستميتة من جيوب النفاق للانقلاب على الإسلام نفسه.
خامسًا: نظلّ نحمل للشيخ – حفظه الله – الحبّ والتقدير، وندعو المسلمين في أنحاء المعمورة للأخذ عنه والاقتداء به، وإذا كنّا نرى هذه زلة من الشيخ، فهي في بحر فضله كقطر حبر في نهر جاري، ونسأل الله تعالى أن يبارك لنا في علمه وفضله، والله المستعان. ..

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق