المؤرخ الأمريكي «روجر أوين»
يكشف الحقائق كاملة في أحدث كتبه
«صعود وسقوط الجمهوريات العربية الوراثية» (1)
«صعود وسقوط الجمهوريات العربية الوراثية» (1)
بقلم: مؤمن الهباء
لم يكد ينتهي العقد الأول من الألفية الثالثة حتى كان «النظام العربي» يهتز من الأساس اهتزازاً شديداً بفعل الثورة الشعبية التي انطلقت في تونس ضد حكم الرئيس «زين العابدين بن علي» في ديسمبر 2010م، بعد أسابيع قليلة انطلق المصريون في الشوارع والميادين يرددون الهتاف نفسه الذي ردده التونسيون من قبل: «الشعب يريد إسقاط النظام»، وأسقطت ثورة 25 يناير 2011م الرئيس «حسني مبارك» في الشهر الأول من العام الأول في العقد الثاني من الألفية الثالثة.
وتحولت هزة النظام العربي إلى زلزال عنيف ومخيف؛ نظراً للضجة الكبرى التي أحدثها سقوط «مبارك» إقليمياً ودولياً، ثم توالى سقوط «القذافي» في ليبيا، و«علي عبدالله صالح» في اليمن، ومازال «بشار الأسد» يعاني سكرات السقوط في سورية على مدى عامين متتاليين.
لقد كان «مبارك» ركناً أساسياً في الإستراتيجية الأمريكية بالمنطقة العربية، وكانت تحالفاته المستقرة على مدى ثلاثين عاماً عنصراً مهماً للتوازن والاستقرار والسلام بالمفهوم الأمريكي، أما الصهاينة فكانوا يعتبرونه «الكنز الإستراتيجي» لهم في مصر والشرق الأوسط بصفة عامة..
ولم تكن مصادفة أن تجتمع في هذه الأنظمة التي تهاوت بسرعة عدة عناصر جعلتها متشابهة في الشكل والمضمون، فهي أنظمة استبدادية عسكرية فاسدة، وإن اتخذت من «الديمقراطية» واجهة وشعاراً، تقوم على حكم الفرد وأسرته، والحزب الواحد الذي لا يتغير، ثم هي قبل كل شيء أنظمة وراثية ملكية وإن كان اسمها الرسمي «جمهورية».
وقد شكلت هذه الأنظمة الجمهورية الوراثية ظاهرة في العالم العربي، استحقت أن يتوقف أمامها المؤرخ الشهير «روجر أوين»، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة «هارفارد»، فخصَّها بالبحث والدراسة، وحلل خصائصها وآلياتها، ووضع شهادته عليها في كتاب «صعود وسقوط الرؤساء العرب الأبديين» الذي صدر في شهر مايو 2012م، وكان قد بدأ في وضع دراسته هذه في أواخر عام 2010م قبل انطلاق الثورة التونسية، لكن الثورة اضطرته إلى التأني والتوسع والبحث في الجذور على مدى خمسين عاماً مضت، واستشراف المستقبل الذي ينتظر ثورات «الربيع العربي».
وتجدر الإشارة في البداية إلى أن المؤلف أعطى اهتماماً بالغاً لظاهرة التوريث الرئاسي في الجمهوريات العربية من «الرئيس الأب» إلى «الابن»، بينما أغفل نوعاً آخر من التوريث كان يتم من «الرئيس» إلى «النائب» الذي كان يصطفيه من بين أخلص أتباعه ومريديه، ويجعله بمثابة ولي العهد وكاتم الأسرار، ويضع من الآليات الدستورية ما يصعد به إلى السلطة بإجراءات شكلية لا علاقة لها بإرادة الشعب، وبذلك تنتقل السلطة من الرئيس بعد وفاته إلى نائبه - التابع الأمين - الذي اختاره على عينه ولياً لعهده ووريثاً لعرشه تحت شعار الجمهورية الزائف.
وهكذا لم يتوافر المناخ السياسي الصحي لإقامة نظم ديمقراطية سليمة في أي دولة عربية، وإذا قلنا: إن الملوك لا يرحلون إلا على يد القدر، فإن رؤساء الجمهوريات العربية تعلموا أيضاً كيف يحتفظون بمناصبهم مدى الحياة..
وفي الثمانينيات من القرن الماضي، ظهر جيل جديد من الرؤساء، وصفهم خبراء السياسة في العالم بأنهم الرؤساء الملوك، لم يترددوا في توريث الرئاسة لأبنائهم من بعدهم، كما فعل الرئيس السوري الراحل «حافظ الأسد»، وكما حاول أن يفعل «صدام حسين» في العراق، و«حسني مبارك» في مصر، و«معمر القذافي» في ليبيا، و«علي عبدالله صالح» في اليمن، و«زين العابدين بن علي» في تونس، لكن القدر لم يمهلهم جميعاً، وقامت الشعوب بثورات عارمة غير متوقعة لتسقط هذه الأنظمة العتيقة.
ويشير «روجر أوين» في كتابه إلى أن الرئيس الجزائري «عبدالعزيز بوتفليقة» قام بإجراء تعديل في دستور الجزائر يضمن له الترشح لفترة رئاسية ثالثة رغم مرضه، والحقيقة أن التعديل يضمن للرجل البقاء في الرئاسة مدى الحياة لينضم إلى نادي «الرؤساء الملوك» الذين يحكمون مدى الحياة في العالم العربي، والذين يتمتعون بسلطة مطلقة مثل الملوك، وهو ما يولِّد لديهم الرغبة تلقائياً في توريث الحكم لأبنائهم وتكوين أسرة رئاسية.
يقول «روجر أوين»: إن الحكام العرب الأبديين كان يراقب بعضهم بعضاً، ويتعلم بعضهم من تجارب بعض، ويتبادلون إستراتيجيات الإدارة والمساعدة فيما بينهم، ويحاولون خلق شرعية شعبية مصطنعة مبنية على نجاح اقتصادي ودستور محرّف وانتخابات مزوَّرة وقمع للحريات، ويزعمون بأن «الجامعة العربية» توفر إطاراً فضفاضاً لطموحاتهم، وعلى الرغم من أن هؤلاء الرؤساء سيلقون بظلالهم على المستقبل إلى حين، إلا أن «أوين» لديه ثقة كاملة في أن الانتفاضات العربية قد أنهت عهودهم تماماً..
فقد قُتل «صدام» وابناه، وسُجن «مبارك» وابناه، وهرب «بن علي» وزوجته (وريثة العرش الرئاسي)، وأُطيح نهائياً بـ«علي عبدالله صالح» وولده، وبقي «بشار الأسد» معزولاً مهدداً في كل لحظة بالموت مع زوجته، وحتى الرئيس السوداني «عمر البشير» أعطى موثقاً غليظاً بأنه لن يترشح لفترة رئاسية جديدة عندما تنتهي مدته في عام 2015م؛ وهو ما يعني عملياً نهاية ظاهرة كان مقدراً لها أن تحكم الشرق الأوسط لعقود قادمة من توريث الحكم.
ويؤكد المؤلف أن ظاهرة الرؤساء الأبديين في العالم العربي كانت نتاج ظروف تاريخية وليس محصلة حتمية لـ«العقل العربي»، ولا «النزعة القبلية»، ولا «الدين الإسلامي»، كما يحلو للبعض أن يدعي..
فهناك كوريا الشمالية - الشيوعية - التي سلكت نفس الطريق قبل الرؤساء العرب، وكذلك بعض دول وسط آسيا. ومن الإشارات المهمة في كتاب «أوين» حديثه عن علاقة الولايات المتحدة بهؤلاء الرؤساء العرب الأبديين، وتعمّدها غض الطرف عن سياساتهم القمعية لشعوبهم ما داموا ملتزمين بتنفيذ إستراتيجيتها في المنطقة، فالولايات المتحدة مستعدة دائماً للتضحية بالمبادئ والشعارات الديمقراطية من أجل مصالحها، وحين اندلعت الثورة الشعبية في مصر، وأجبرت «حسني مبارك» على التنحي في 11 فبراير 2011م؛ هلَّل الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» بنجاح الثورة في مصر، وانتصار المظاهرات السلمية، ونجاح المتظاهرين في ميدان التحرير في إسقاط النظام، لكن واشنطن في الواقع كانت قد تأخرت كثيراً في إعلان تأييدها لدعوات الديمقراطية في مصر، وطبقاً لما قاله «روجر أوين»، فإن واشنطن كانت تحرص على مدى عشرات السنين على تفضيل الحكام على الشعب، والانحياز لرؤية الدكتاتور ونظامه القمعي في أن الديمقراطية ستأتي حتماً بـ«الإسلاميين المتشددين»؛ وبالتالي فلا حاجة للتغيير والديمقراطية مادام ذلك يخدم المصالح الأمريكية في العالم العربي والشرق الأوسط.
وبناء على هذه القاعدة، قدمت أمريكا لنظام «مبارك» 60 مليار دولار مساعدات اقتصادية وعسكرية منذ عام 1979م وحتى اليوم، كما قدمت دعماً سياسياً غير محدود للنظام السياسي في مصر مقابل تأمين مصالحها في المنطقة، وضمان أمن «إسرائيل»، وإقامة علاقات قوية مع الدول المعتدلة المنتجة للبترول، وعلى مدى أيام الثورة الطويلة تقاعس «البيت الأبيض» بوضوح عن دعم سيادة الشعب في مصر، وسعى إلى ضمان نقل السلطة لواحد من أتباع «مبارك»، وحتى بعدما نجح ثوار التحرير في إحباط هذه الخطة بقي التحالف الأمريكي قائماً مع القوى المناهضة للديمقراطية، ومستعداً للتنازل عن القيم الديمقراطية إذا لم تتوافق مع مصالحه.
ويتوقف «روجر أوين» في كتابه المهم أمام دور الاستعمار الأوروبي في نشأة الدول العربية، وتنصيب رؤسائها ومساندتهم في الاحتفاظ بسلطاتهم إلى أقصى مدى، مؤكداً أنه منذ العصر الروماني وحتى اليوم، فإن ظاهرة الرؤساء الملوك في العالم العربي لا تعدّ من المفاجآت التاريخية، فقد حدث في الولايات المتحدة ذاتها أن رفض الرئيس «جورج واشنطن» أن يتم تنصيبه ملكاً بعد الثورة الأمريكية، في حين وافق «نابليون بونابرت» على تتويجه إمبراطوراً على فرنسا بدعوى الحفاظ على الثورة الفرنسية وضمان استمرارها.
وشهدت مصر انتقالاً سلمياً للسلطة مرتين من الرئيس لنائبه فيما يشبه التوريث، فقد انتقل الحكم تلقائياً لـ«السادات» بعد وفاة «عبدالناصر» عام 1970م، ثم انتقل تلقائياً لـ«مبارك» بعد مقتل «السادات» عام 1981م، وخلال الثلاثين عاماً الماضية صار الحكم شبه موحد في معظم البلدان العربية الجمهورية من حيث السلطة الرئاسية المركزية التي يدعمها الجيش وأجهزة الأمن والشرطة، ويدعمها أيضاً التحالف الأوروبي الأمريكي في مواجهة ما سمي بـ«التطرف الديني»..
ولا شك أن اعتماد أي نظام سياسي على الدعم المالي والسياسي الخارجي يعني بوضوح أن مقومات الدولة الوطنية لم تكتمل اقتصادياً وسياسياً على الأقل؛ ولهذا السبب - عدم اكتمال مقومات الدولة الوطنية - لم يكن هناك اقتناع وطني عام وحاسم بضرورة الديمقراطية واستقلال الإرادة الشعبية عن الحاكم، ومفهوم العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين، وسادت - على العكس - رؤية عامة تنظر للرئيس عل أنه الأب أو كبير العائلة أو المجاهد الكبير أو الزعيم والكفيل، وكلها ألقاب ترفع الحاكم من مقام الرئاسة الدستورية بالمفهوم السياسي الذي تعارفت عليه الديمقراطيات الحديثة إلى مقام الملك «المقدس» الذي يعرف أكثر من الجميع، وتتوافر لديه الحكمة أكثر من الجميع؛ وبالتالي فإنه يفكر ويقرر نيابة عن الجميع، ويختار خليفته بعيداً عن رأي الجميع الذين ما عليهم إلا السمع والطاعة.
وقد استطاع الرئيس المصري الأسبق «جمال عبدالناصر» أن يقيم النموذج الأول والأمثل للدولة الأبوية التي يحكمها الفرد «الرئيس/ الملك»، وذلك بعد أن أطاح بزملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة واحداً تلو الآخر؛ لكي ينفرد وحده بكل السلطات، وحينما أراد أن يتنحى عن السلطة عقب هزيمة عام 1967م أعلن نيابة عن الشعب نقل السلطة إلى زميله القديم «زكريا محيي الدين» المتهم بميوله الأمريكية حتى يرفضه الناس ويتمسكوا بالرئيس «الأب/الزعيم»، وهذا ما حدث بالضبط، وبقي «عبدالناصر» في السلطة حتى جاءت رحلته الشهيرة للمغرب في ديسمبر 1969م فقرر تعيين رفيقه «أنور السادات» المطيع جداً، والذي لم يخالفه الرأي أبداً، في منصب نائب رئيس الجمهورية خوفاً من أن يتعرض للاغتيال، هكذا اختار «عبدالناصر» خليفته وقال له: إننى لا أريد أن أترك فراغاً في السلطة. وبعد حرب أكتوبر 1973م، أراد «السادات» أن يتخلص ممن حوله من القادة الكبار الذين يرون في أنفسهم أنداداً له، فاختار واحداً من جيل الوسط ليكون نائباً له، وكان من أهم مؤهلات «حسني مبارك» لشغل المنصب الرفيع أنه يبدو ضعيفاً وبلا طموح، وولاؤه الكامل لمن عيَّنه، ثم تعرض «السادات» لاغتيال مفاجئ في أكتوبر 1981م ليتولى «مبارك» الرئاسة بشكل تلقائي ودون عناء.
وعلى مدى ثلاثين عاماً في الحكم، حرص «مبارك» على عدم تعيين نائب له واستبعاد أي شخص له طموح أو له شعبية، بينما كانت الخطط جاهزة للتنفيذ على الأرض كي يكون ابنه «جمال» هو خليفته ووريثه في السلطة، وكانت هذه الخطط من أكبر أسباب الثورة في يناير 2011م، وكانت أيضاً من أسباب انحياز الجيش للثورة.
ونستكمل تفاصيل الكتاب إن شاء الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق