فتوى بذيئة
هذا كلام من القبح والابتذال بحيث أشك في أنه تسرب خطأ من أحد صناديق القمامة الفكرية، ذلك أنني ما أن وقعت عليه حتى قلت إنه صادر عن واحد من اثنين؛ إما معتوه لا رجاء منه، أو مريض نفسي وعقلي لا يعتد بقوله، وانما يودع إحدى المصحات العلاجية.
إلا أنني ترددت في تجاهله بعدما خطر لي احتمال ثالث هو أن يكون صادرا عن طرف خبيث، لكنه «غشيم» وحديث العهد بأساليب الدعاية السوداء. فاختار أكثرها هبوطا وفجاجة. عزز ذلك الانطباع أنني وجدت جريدة محترمة مثل «الحياة» اللندنية أخذته على محمل الجد، واعتبرته «خبرا» ونشرته على صفحتها الأولى يوم الخميس الماضي 27/3.
شجعنى على التطرق للموضوع أيضا أن شيئا قريبا منه جرى تسريبه فى الثمانينيات، في أثناء تصاعد موجة الإرهاب في مصر؛ إذ قيل آنذاك إن الانتحاريين يحرصون على حماية أعضائهم؛ تحسبا للقاء الحور العين في الجنة، وهي أكذوبة صدقها بعض الخصوم، واستشهدوا بها فيما كتبوه وقتذاك.
خبر «الحياة» تناول أصداء فتوى بذيئة قيل مرَّة إنها مجهولة المصدر ذاع أمرها في تونس، وتحدثت عما سمى «جهاد النكاح»، إذ دعت الفتيات التونسيات إلى دعم المقاتلين في سوريا من خلال معاشرتهم، فيما وصفته الجريدة بأنه «جهاد جنسي».
وقد نقلت الجريدة عن «المجاهدين» الذين عادوا إلى بلادهم بعد المشاركة في القتال بسوريا قولهم ان 13 فتاة تونسية توجهن إلى أرض المعركة استجابة للفتوى. إلا أنها في موضع آخر نسبت الفتوى لشيخ سعودي لم تذكر اسمه، ولكن أشير إليه بحرفين هما م.ع. وهو ما نفته مصادر قريبة منه.
أشارت الجريدة إلى احتمال أن تكون مواقع مؤيدة النظام السوري هي التي تتولى الترويج لها، في تصرف استهدف تشويه صورة المقاتلين الإسلاميين، لكن الخبر المنشور ذكر انه «بغض النظر عن كون الفتوى صحيحة أم مزورة، فإنها على ما يبدو لقيت استجابة من قبل ما لا يقل عن 13 فتاة تونسية حتى الآن» بل إن صحفا تونسية -لم تتحدد- نشرت قبل أيام خبرا مفاده أن شابا تونسيا أقدم على تطليق زوجته، بعدما تحولا إلى سوريا منذ ما يقرب من شهر، لكي يسمح لها بأن تنخرط في «جهاد المناكحة» مع المقاتلين هناك.
إلى جانب ذلك، ظهر شريط فيديو على شبكة الإنترنت قدم ذوو فتاة محجبة تدعى «رحمة» أكدوا أنهم لم يجدوها في المنزل ذات صباح. وعلموا بعد ذلك انها توجهت إلى سوريا لتطبيق جهاد النكاح، رغم أنها لم تتجاوز 18 عاما، واعتبرت عائلة الفتاة التي عادت بعد ذلك إلى بيتها وتعهد أهلها بإبعادها عن الانظار، أن رحمة ليست متشددة في التديُّن، لكنها خضعت لتأثير زملاء لها في الدراسة عرفوا بانتمائهم إلى التيار السلفي الجهادي، والأرجح أن يكونوا قد غسلوا دماغها، واقنعوها بالسفر إلى سوريا لأجل ذلك.
ما يثير الدهشة ليس فقط مضمون الفتوى البذيئة، ولكن أيضا أن بعض المحترمين تعاملوا معها باعتبارها أمرا يمكن مناقشته والحديث عن احتمالاته، وبدلا من أن يقولوا إن ذلك كلام معيب، لا يصح أن يتحدث به العقلاء وليس فقط الفقهاء، فإنهم قالوا كلاما آخر.
فوزير الشؤون الدينية التونسي قال إنها لا تلزم الشعب التونسي ولا مؤسسات الدولة، فضلا عن أنها ابتدعت مصطلحا غريبا لا أصل له في المرجعية العلمية.
وعلق عليها باحث تونسي مختص بالجماعات الإسلامية، قائلا إنها تمثل رأياً شاذاً لا يتبناه علماء الدين، ورجح أن يكون المعنى بالفتوى -في حال وجودها- الفتيات السوريات المقيمات هناك، واللاتي يمكنهن مؤازرة المجاهدين عبر الزواج بهم لساعات (كأنه يقصد زواج المتعة المعترف به عند الشيعة).
إذا ثبت أن هناك «فتوى» بهذا المضمون، وتبين أن صاحبها ليس معتوها ولا هو مريض عقلي، فإننى أرجح ما قيل عن أنها مدسوسة أريد بها إما تشويه الثوار الذين يقاتلون لإسقاط نظام الرئيس الأسد، أو تشويه السلفيين بدعوى انهم يبذلون مفهوم الجهاد ويوظفونه لتغطية مثل هذه الممارسات.
وفي هذه الحالة فإن مصدر الفتوى البذيئة، إما أن يكون المخابرات السورية التي نعرف انها لا تتورع عن فعل شيء من ذلك القبيل، أو يكون مصدرها خصوم الإسلاميين الذين يسعون لإقصائهم، ولا يكفون عن محاولة اغتيالهم أدبيا أو معنويا. وليس هناك ما يمنع أن يتفق الطرفان على الترويج لهذا الكلام بعد طبخه، باعتبار أن لكل منهم مصلحة في ذلك.
لقد خرجت فكرة «تجفيف الينابيع» من تونس في العهد السابق، وأريد بها محاربة التدين؛ بدعوى أنه يشكل الحاضنة التي تفرخ الإرهاب وترعاه. ولا أستبعد أن يكون الخصوم قد انتقلوا بمثل هذه الفتوى إلى طور آخر في حربهم يستهدف تشويه وتلويث المفاهيم.
أدري أن مخاصمة الإسلاميين احتدت بعد الارتفاع النسبي لأسهمهم في ظل «الربيع العربي»، وهو ما ألجأ البعض إلى استخدام أساليب وأسلحة محظورة سياسيا وأخلاقيا في أجواء تلك الخصومة، إلا أنني لم أتوقع أن ينحط المستوى إلى تلك الدرجة التي لا تخطر على البال، إلا أن أداء أبالسة الإنس ليس له سقف أو حدود.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق