ماذا أرى في التجديد والمجددين؟
مصطفى صادق الرافعي (ت 1356هـ - 1937م)
لقد كتبت كثيرًا في هذا الباب، وأمضيت في كلِّ قضية حكمها، ووضعت لكل صورة ألوانها، وضربت وجهي القياس عند أهل هذا الجديد، فيما يستقيم لهم ويلتوي عليهم، ولكن فنون الكتابة في هذه المعاني كفنون الحرب، وفيما أرى لابدَّ فيها من إبداع لتغيير ما لا يتغير في ذات نفسه. وعلى ما بلغت وسائل الموت في العلم والجهل فإنها لم تستطع أن تميت أحدًا مرتين، ولن نجعل الموت من بعد إلا ما هو من قبل، ومع ذلك فهي لا تزال تجدِّد وتبدع... فهل عند أصحابنا المجددين وسيلة لإحيائنا مرتين!
إنَّ هذه الحياة الواحدة على هذه الأرض يجب أن تكون على سنتها في مثل ما كانت تصلح به من الضبط والإحكام، والجلب لها، والدفع عنها، والمحافظة عليها بوسائلها الدقيقة الموزونة المقدرة، والسهلة في عملها، الصعبة في تدبيرها، فعلى نحو مما كانت الحياة في بطن الأم يجب أن تعيش في بطن الكون، بحدود مرسومة، وقواعد مهيأة، وحيز معروف، وإلا بقيت حركات هذا الإنسان في معناها كحركات الجنين، يرتكض ليخرج عن قانونه، فإما ألقى به عمله مسخًا مشوهًا، وإما ألقى به ميتًا من جسد، كان كلُّ ما فيه قبل ذلك يعمل لحياته.
الجسم كلُّه يشرع للجنين ما دام فيه، والاجتماع كله يشرع للفرد ما دام فيه، فكيف يكون أمر من أمر إذا كان الجنين مجددًا... لا يعجبه وضع القلب، ولا يرضيه عمل الدم، ويرى المعدة أكبر مما يحسن أن تكون، أو على غير قواعد الفن والجمال... وهو لا يريد أن يكون مقيدًا؛ لأنَّه مجدِّد، فهو طبيعة بذاتها يجب أن تتسلط على ما حولها، وتصلح فيه وتجدِّد منه، ثم يجد في جغرافية الجسم الذي يجنُّه قارتين جميلتين كأوربا وأمريكا، يقال لهما الرئتان، فيأبى إلا أن يكون في واحدة منهما لا فيهما الهواء.
أنظر الآن إلى الطريق فأرى شرطيًّا، يضرب في هذا الشارع مقبلًا ليدبر أو مدبرًا ليقبل، وقد ألبسته الحكومة ثيابًا يتميَّز بها، وهي تتكلَّم لغة غير لغة الثياب، فلا تنطق من زينة أو ترف أو قصد أو فقر أو حرٍّ أو برد، بل تقول: أيُّها الناس، إنَّ هاهنا الإنسان الذي هو قانون دائمًا، والذي هو قوة أبدًا، والذي هو سجن حينًا، والذي هو مشنقة إذا اقتضى الحال.
يا أصحابنا الملحدين والمجددين: أتحسبون هذا الشرطي قائمًا في هذا الشارع كجدران هذه المنازل؟ كلا! إنَّه واقف أيضًا في الإرادة الإنسانية، وفي الحس البشري، وفي العاطفة الحية، فكيف لا تمحونه مع أنَّه في ذاته إرغام بمعنى، وإكراه بمعنى غيره، وقيد في حالة، وبلاء في حالة أخرى.
لكنَّه إرغام ليقع به التيسير، وإكراه لتنطلق به الرغبة، وقيد لتتمجد به الحرية، وكان هو نفسه بلاء من ناحية؛ ليكون هو نفسه عصمة من الناحية المقابلة.
كلُّ دين صالح، وكلُّ فضيلة كريمة، وكلُّ خلق طيب إنما هو على طريق المصالح الإنسانية هذا الشرطي بعينه، فإما تخريب العالم أيها المجددون، وإما تخريب مذهبكم...
أنتم ويحكم تقولون: العلم والفن والشهوة والغريزة والعاطفة والمرأة وحرية الفكر واستقلال الرأي ونبذ التقليدوكسر القيود إلى آخره وإلى آخرها... فهذا كله حسن مقبول سائغ في الورق، إن كان مقالة أو قصة، وحين ينحصر في حدوده التي تصلح له من ثياب الممثلين ... ولكنكم حين تخرجون هذا كلَّه للحياة على أنَّه من قوتها الموجبة تردُّه الحياة عليكم بالقوة السالبة... وإذا كان في الإنسانية هذا القانون الذي يجعل كل فكر مريض أو سافل يهدم من صاحبه يهدم في الكون بصاحبه، ففيها أيضًا القانون الآخر الذي يجعل كل فكر صحيح أو سام يبني من أهله – يبني في الكون بأهله.
قال دمنه... ونظرت إلى سلكي الكهرباء وكان واحد منهما فيلسوفًا مجددًا كفلاسفة مصر... فإذا هو يقول لصاحبه: ما أراك إلا رجعيًّا إذ كنت لا تتبعني أبدًا، ولا تتصل بي، ولا تجري في طريقتي، ولن تفلح إلا أن تأخذ مأخذي، وتترك مذهبك، فقال له صاحبه: أيها الفيلسوف العظيم، لو أني اتبعتك لبطلنا معًا، فما أذهب فيك، ولا تذهب في، وما علمتك تشتمني في رأيك إلا بما تمدحني به في رأيي.
وهذا هو جوابنا إذا كنا رجعيين بدين أو فضيلة أو قومية أو بلاغة أو حياء أو عفة، إلى آخرها وإلى آخره... ونحن لا نرى هؤلاء القوم من فلان وفلان عند التحقيق إلا ضرورات من مذهب الحياة وشهواتها وحماقاتها، تلبست بعض العقول من تربية أو تقليد أو مرض أو غاية أو ضعف، كما يتلبس أمثالها بعض الطباع فتزيغ بها، وللغة في الحياة العملية مترادفات أيضًا، تكون الكلمتان والكلمات بمعنى واحد، فالمخرب والمخرف والمجدد بمعنى..، وكيت وكيت كذا والتجديد بمعنى.
كلٌّ منهم يريد أن يضع في كلِّ شيء قاعدة نفسه هو، فهذا موضع العلم والإصلاح عندهم، أما موضع الجهل والغفلة منهم فأنت تتبينه إذا حققت واستنتجت القياس الذي وضعوه، فإنَّه إذا اختلفت القواعد لشيء واحد ذهبت به الفوضى، ولم تبق له قاعدة.
وهذا هو السرُّ في أنَّ التجديد لا يكون شيئًا واقعًا إلا بالمحكمة والمشنقة، كما وقع في تركيا، لأنَّ المشنقة لا تضع إلا قاعدة واحدة، فهي في الحقيقة المجددة لا مصطفى كمال ولا غير مصطفى كمال، أنبحث عما نتسلَّط به أم ما يتسلَّط علينا؟ وهل نريد أن تكون غرائزنا أقوى منا، أو نكون نحن أقوى منها؟ هذه هي المسألة لا مسألة الجديد والقديم، ولعمري لقد قرأت كثيرًا مما كتب المجددون، فأشهد ما رأيتهم يحاولون إلا خلق الصور المكروهة أو المغلوطة في أشكال محبوبة أو صحيحة، وما في ذلك إلا إفساد الحقيقة، أو إفساد الضمير، أو إفساد التعبير، وهم يكادون يقررون في أدب مذهبهم أنَّ للعبقري منهم وقاحة مقدسة... فيهينون الوقاحة بجعلها مع التقديس، ويهينون التقديس بوصف الوقاحة به، وبهذا نجزم نحن أن لا أدب ولا كرامة في هذا المذهب.
إنَّ الواقع في الطبيعة الإنسانية لا يعجزنا؛ لأنَّه واقع، فإن لم يكن هناك المثل الأعلى الذي يعظم بنا ونعظم به- فسد الحسُّ، وفسدت الحياة، وكلُّ الأديان الصحيحة والأخلاق إن هي إلا وسائل هذا المثل الأعلى للسموِّ بالحياة في آمالها وغايتها عن الحياة نفسها في وقائعها ومعانيها.
يقول بعضهم: (الأدب المكشوف)، وهي كلمة من جهله المكشوف لا غير؛ إذ لو علم هذا لعلم أنَّ شرط الجمال في كلِّ كائن لا يقوم بإظهار أشياء منه إلا مع اختفاء أشياء غيرها، فهو مجتمع تحته من كليهما لا من أحدهما، وهو جمال بما يظهره؛ لأنَّه يخفي تحته ما لا يظهره، ولو جئت بأجمل النساء وكشفت مزعة من جلدة وجهها لعادت هي بعينها من أقبحهنَّ، وكذلك القياس في كلِّ جمال لا بدَّ من ترك أشياء كثيرة مستورة، كما لا بدَّ من أخذ أشياء كثيرة على ظاهرها دون باطنها.
لم أرَ إلى الآن من آثار المجددين شيئًا ذا قيمة؛ لا في علم ولا في أدب، ما كان من هراء وتقليد زائف فهو من عندهم، وما كان جيدًا فهو عندهم كالنفائس في ملك اللص لها اعتباران: إن كان أحدهما عند مقتنيها.. فالآخر عند القاضي، كلا يا هذا، لن تسمَّى مالكًا بهذا الأسلوب، إنما هي كلمة تسخر بها من الناس، من نفسك، ومن الحق، كلمة جعلتك غلطًا في اسم من الذهب، ولو صرحت عن حقيقتها جعلتك ولا ريب في اسم من الحديد.
وليس عندنا مجدِّد بمعنى التجديد على حقِّه وعلى مذهبه وعلى مقداره، وإنما هي فوضى، أولئك بعض أشخاصها، وتلك بعض أعمالها، ألا وإن كلمة (جبَّار) لا تقوم في الواقع إلا بأوزان عالية من مقادير القوة في العضلات والعظام والأعصاب والروح، فكلما نزلت هذه المقادير شيئًا تواضع الاسم شيئًا، وتبدَّل شيئًا، وصار شيئًا، فإذا تواضع التجديد وسمَّى نفسه تجربة... لطريقة أو لطرق من الإصلاح لم يعد الجدال بينه وبيننا، بل يكون بينه وبين سنن الحياة في المصالح العامة، هي تقرُّه فثبته، أو هي ترده فتنفيه، ولكن لكن إيه...
المصدر: كتاب (الحديقة) لمحب الدين الخطيب، اعتنى به: سليمان الخراشي، الناشر: المكتبة السلفية، القاهرة. دار العاصمة، الرياض. (ص: 946) بتصرف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق