الخميس، 27 يونيو 2013

كيف نفهم تحركات الجيش المصري الأخيرة ؟

كيف نفهم تحركات الجيش المصري الأخيرة ؟

شريف عبد العزيز الزهيري

في 11 أغسطس 2012 كانت مصر على موعد من حدث جلل ، اهتزت له كل دوائر صنع القرار إقليميا ودوليا ، هذا الحدث كان الإطاحة بالمجلس العسكري ممثلا في شخص المشير طنطاوي ومساعده الفريق عنان ومعهما باقي أعضاء المجلس العسكري الذي تولى إدارة البلاد بعد خلع مبارك في 11 فبراير سنة 2011 ، لتنهي مصر بهذه الخطوة ستين عاما متصلة من الحكم العسكري للبلاد ، ولتصبح مصر لأول مرة تحت حكم رجل مدني منتخب انتخابا حرا ومباشرا من الشعب المصري .
ومنذ هذا اليوم والجيش المصري في حالة استكانة بعيدا عن المشهد السياسي ، بعد أن ذاق الأمرين خلال إدارة المرحلة الانتقالية ، وتدهورت مكانته ، وتلوثت سمعته كثيرا بسبب معاناة شئون الحكم ، وقد جعل قائده الجديد الفريق السيسي جل اهتمامه برفع جهوزية وكفاءة الجيش ـ معدات وأفراد ـ بعد سنين من الترهل والانكفاء على الذات والبعد عن الأعمال الميدانية ، فانشغل بتدريبات مكثفة ودورات متابعة ومناورات شبه دورية شارك هو بنفسه في معظمها ، وذلك كله من أجل رفع كفاءة الجيش واستعادة لياقته القتالية ، ولإزالة الآثار السيئة لفترة الحكم الانتقالي والتي أثرت على القوات المسلحة بشدة .
الجيش المصري ظل طوال العام المنصرم يراقب التطورات السياسية في البلاد ، يراها وهي ترتفع وتهبط ، حتى ارتفعت لأعلى درجات الالتهاب في أواخر 2012 بعد صدور الإعلان الدستوري المثير للجدل ، ثم الاستفتاء على الدستور ، وما صاحب ذلك من صدامات دموية وعنيفة في شتى أرجاء الجمهورية ، ومع ذلك ظل محافظا على موقعه وثباته الوظيفي والعضوي ، واستمرت الاستفزازات والصدامات لتصل لدرجة مخيفة في بورسعيد وأقاليم القنال في يناير 2013 ، وأيضا ظل الجيش محافظا على رباطة جأشه ، وصمد للإغراءات المتوالية والدعوات المستمرة لنزوله وانقلابه على الشرعية ، بل سارع بإغلاق مكتب الشهر العقاري ببورسعيد لما شرع أهالي بورسعيد الناقمون على الرئاسة في عمل توكيلات للفريق السيسي بإدارة البلاد ، في إشارة بالتزامه بالشرعية ورفضه لأي محاولة لتقويض بنيان النظام الجديد ، وعودة الجيش للحياة السياسية .
فإذا كان هذا هو الموقف المعلن والثابت للجيش المصري منذ أغسطس 2012 ، فما الذي دفعه الآن لمثل هذه التصريحات والتحركات الأخيرة ؟ وبعيدا عن خطاب الرئيس  مرسي الأخير الذي أكد فيه على أن كل هذه القرارات والتحركات التي قام بها الجيش كانت بناء على تنسيق وأمر منه ، كيف نفسر هذه التركات الأخيرة ؟
كلمة السر في التغيير المفاجئ في موقف الجيش المصري وتحركاته وتصريحات قيادته الأخيرة يتلخص في كلمة واحدة وهي " الأمن القومي "
فالجيش المصري قد وصل لقناعة معينة بعد رصد مستمر ودقيق لتطورات الأحداث السياسية في مصر أن المشهد السياسي قد أعتم تماما وعمته الضبابية الكاملة ، وأن الحالة السياسية قد وصلت إلى درجة الكسر ، في ظل إدارة مهتزة مترددة مصرة على انتهاج سياسة التأجيل والتباطؤ وترحيل الأزمات ، وفي ظل معارضة فاشلة ذات أطماع وأجندات خارجية أكثر منها داخلية ، فجميع الأطراف الفاعلة في الساحة قد وصلت لمعادلة صفرية ، يرى فيها كل طرف نظام ومعارضة أن بقاء خصمه يعني رحيله للأبد ، وفوز طرف يعني خسارة الطرف الآخر كل شيء ، وهذه الدرجة هي أعلى مستويات التهديد في أي أزمة سياسية ، إذ يصل الاحتكام فيها عادة إلى الصدام الشامل ، وهو ما يهدد الأمن القومي بشدة ، ويجعل سيادة الدولة كلها على المحك .
الأمن القومي لأي دولة هو العامل الأساسي الذي يوفر أجواء التطور والنمو السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري والثقافي  المستمر والمنتظم ، فهو مفهوم له أبعاد أوسع وأكبر من البعد الأمني أو العسكري فقط ، فله أبعاد اقتصادية واجتماعية وإنسانية وسياسية وثقافية ، لذلك كانت أولى معالم وركائز الأمن القومي هو الحفاظ على السلام الداخلي والأمن الاجتماعي والتوافق السياسي الذي يؤدي إلى الدمج والاحتواء وليس الاستبعاد والإقصاء ، وكلما كانت الجبهة الداخلية متماسكة ومستقرة وقوية كلما كان الأمن القومي في أعلى درجاته ، فقوة الداخل هي المحرك الرئيس لقوة الخارج ، وحائط الصد الأول أمام أي أزمات أو أخطار تهدد الدولة القومية .
من يقرأ تصريحات الفريق السيسي في خطابه الأخير الذي فتح الباب لتكهنات كثيرة على جانبي المشهد السياسي يلاحظ أن لفظ " الأمن القومي " قد تكرر عدة مرات وبأداء خطابي معين أبرز المخاوف الحقيقية للجيش المصري ، فالصراع السياسي المحتدم الآن في مصر قد وصل لدرجة عالية من الخطورة والتهديد للأمن القومي ، فالاحتشاد قد وصل لمستوى الصدام ، ولم يعد هناك مجال للتراجع أو ثني نية الحشود ، وكما هو معروف في قواعد الاشتباك : إذا كمل الاحتشاد وقع الاشتباك ، وهو ما نرى بوادره وعلاماته كل يوم في دسوق ، في كفر الشيخ ، في الإسكندرية ، في الفيوم ، وفي المحلة ، في المنصورة ، والحبل على الجرار ، فجميع مدن مصر مرشحة بقوة للصدام والاشتباك ، وإذا وقع ذلك ـ لا سمح الله ـ فسينهار الأمن القومي المصري وتنهار معه الدولة المصرية كلها . لذلك تحرك الجيش سريعا لملئ الفراغات الخطيرة التي تسببت فيها الإدارة الفاشلة والعقيمة لكافة الأطراف السياسية على الساحة المصرية ـ نظاما ومعارضة ـ .
تحركات الجيش الأخيرة وإعادة انتشاره في مداخل ومخارج القاهرة وباقي المحافظات ، جاءت لتعزز هذه النظرية ، جاءت لتقوم بالفصل بين أنصار الرئيس ومعارضيه في أماكن التوتر وبؤر الصدام المتوقعة ، فمثلا تأمين مدينة الإنتاج الإعلامي ، وهي من أكثر البؤر المتوقعة للصدام ، حيث تمثل مدينة الإنتاج وهي كذلك رأس الثورة المضادة في مصر ضد الرئيس ، ويتوعدها الإسلاميون بقوة منذ فترة ، لذلك فالصدام عندها أكيد ، فتدخل الجيش ليمنع الصدام أولا ، ثم يبقي هذه البقعة الخطيرة تحت سيطرته ، ويديرها بطريقته وأسلوبه الخاص الذي يتماشى مع فكرة الحفاظ مع الأمن القومي .
وليس معنى هذا التحرك أن الجيش يخطط للانقلاب أو العودة للحكم مرة أخرى كما يعتقد ويرجو الكثيرون ، فالجيش أذكى من أن يورط نفسه في مثل هذه الأوقات الصعبة ، حتى وإن كانت الأجواء والظروف مهيأة لدرجة كبيرة ، ولو حكم هذه المرة فستكون بناء على رغبات الجماهير . الجيش بأمثال هذه التحركات استعاد دوره الرئيس والمؤثر في الحفاظ على الأمن القومي ، وتصويب مسار الحياة السياسية والهيمنة عليها بصورة غير مباشرة ، بعيدا عن أوضار الولاية المباشرة ، فجيوش العالم الثالث ومصر إحداها ، تفضل دائما القيادة السياسية الضعيفة بحيث يبقى للعسكر دائما كلمة نافذة وسيطرة كاملة .
وخلاصة الكلام أن الجيش لن ينقلب على الشرعية الدستورية ، ولن يستجيب للإغراءات مهما بلغت قوتها ، لأنه في واقع الأمر وبعد تحركاته الأخيرة قد صار هو نفسه الشرعية التي يستمد منها النظام قوته وبقاءه ، فكيف إذا ينقلب الجيش على نفسه ؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق