السبت، 14 ديسمبر 2013

عودة التخلف السياسي في مصر

عودة التخلف السياسي في مصر


ثمة إجماع بين المراقبين والمتابعين لحركة الثورات الشعبية ودراسة آثارها على أن الأعوام الثلاثة الأولى هي الأحرج والأخطر في عمر الثورات، حيث تمثل عنق الزجاجة في مسيرة أية ثورة، فمعظم هذه الثورات تفشل في هذه الأعوام تحديدًا، وقليل منها الذي ينجح في تجاوز عنق الزجاجة، والاستمرار في تنفيذ أجندته وتحقيق مطالبه.
وذلك الفشل الأليم قد يرجع للعديد من الأسباب، ولكن أبرز هذه الأسباب يتمثل في عدم شعور مواطني الثورة بمردودات واقعية وعينية لهذه الثورة، فالمكاسب الآنية الوحيدة المتحققة من الحراك الثوري؛ هي المكاسب السياسية، حيث تسقط أغلال وقيود الأنظمة الاستبدادية الديكتاتورية التي كانت تصادر أبسط الحريات، وتقمع أية صورة من صور المعارضات، في حين أن المكاسب الاجتماعية والاقتصادية التي يبحث عنها المواطن العادي ورجل الشارع البسيط تأتي على المدى البعيد، وبعد التخلص نهائيًّا من آثار النظام القديم، وهو ما يمثل أكبر عائق أمام استمرارية الحراك الثوري وتحقيق الثورات لأهدافها ومطالبها. وعلى الرغم من عظم وأهمية المكاسب السياسية في حياة الدول وتقدمها ورقيها، إلا أن هذه المكاسب تحتل المرتبة الأخيرة في سلم أولويات المواطن العادي في دول العالم الثالث، وهي عادة دول القهر والظلم والفساد التي تشهد الحركات الثورية.
فلماذا لا يشعر المواطن العادي بقيمة المكاسب السياسية ولا يهتم بها؟
الإجابة تتلخص في كلمة واحدة؛ وهي "التخلف السياسي" وهي الظاهرة التي ضربت بأطنابها في جذور العقلية العربية والإسلامية المعاصرة، بسبب الأنظمة الاستبدادية والجبرية التي جثمت على صدور الشعوب العربية منذ عشرات السنين، وكرست كل معاني ومفردات التخلف السياسي لدى مواطنيها ورعاياها، من أجل ضمان استمرار الهيمنة والسيطرة. هذه الظاهرة ليست ظاهرة كمية يمكن قياسها وتحديد أبعادها مثل الظواهر الاقتصادية مثلًا، ولكنها ظاهرة كيفية مطلقة تنصرف إلى المجتمع بأسره، تؤدي من خلال استمراريتها لتكريس العديد من الأزمات السياسية المزمنة التي أصبحت من سمات الثقافة العامة لدى المواطن العربي.
من أبرز هذه الأزمات: أزمة الشرعية والتي تتعلق بمدى قانونية ودستورية وشرعية الأنظمة القائمة، فمعظم الأنظمة الإقليمية وفي العالم الثالث هي أنظمة جبرية أتت رغم إرادة شعوبها، إما بانقلاب أو بتزوير أو باستبداد وقهر أو بوراثة جبرية وهكذا، ولذلك فهي لا تخضع لقانون الحساب والمراقبة والتقييم، مما فتح الباب على مصراعيه أمام هذه السلطات نحو الاستبداد والفساد. ومن الأزمات أيضًا؛ أزمة المشاركة وهي تابعة لأزمة الشرعية، فالسلطات المستبدة والأنظمة الديكتاتورية تمنع مواطنيها من المشاركة في الحياة السياسية بحجة عدم أهليتها لممارسة الديمقراطية، وتصر على انفرادها بالقرار، ومع الوقت يترسخ لدى المواطن عدم جدوى المشاركة السياسية، وبالتالي يعزف عن المشاركة في الأنشطة السياسية مثل الدخول في الأحزاب والمشاركة في الانتخابات والاستفتاءات، وتصبح العملية السياسية حكرًا على النظام ومن يدور في فلكه ويتماهى مع رغباته فقط. ومن الأزمات التي أوجدها التخلف السياسي أيضًا، أزمة الاندماج، والاندماج هو أعلى صورة من صور الوحدة الوطنية، وأكثر أبعاد عملية التقارب الشعبي تكاملًا وشمولية، والاندماج يعني إيجاد حد أدنى من الاتفاق على القيم السياسية والاجتماعية التي يهدف المجتمع لتحقيقها متماشية مع هويته وخلفيته الثقافية والتاريخية، وغياب الاندماج أدى لحدوث فجوات كثيرة في بنية العلاقات بين السلطة والشعب، حتى صار العداء وعدم الرضا هو السمت العام للعلاقة بين الحكام والمحكومين.
هذه الأزمات التي صنعها التخلف السياسي جعلت الثقافة السياسية للمواطن العربي عمومًا والمصري خصوصًا، إما أن تكون ثقافة ضيقة لا يهتم فيها المواطن بمدخلات النظام السياسي ولا مخرجاته، يُؤْثِر الابتعاد تمامًا عن عملية صنع القرار أو عن نتائجه، منشغلًا بحياته العملية والاجتماعية، غير مبال بأية تغييرات سياسية تحدث حتى ولو كانت تغييرات جوهرية وثورية. وإما أن تكون ثقافته ثقافة رعوية يهتم بمخرجات النظام السياسي، بمعنى بحثه عن الفوائد المادية العائدة عليه من مدخلات النظام السياسي، وبالتالي اهتماماته بالتغييرات السياسية منصبة على المنافع المتحصلة من هذه التغييرات، دون ذلك فالديكتاتورية والديمقراطية عنده سواء.
وكان من الطبيعي أن تتقلص هذه الظاهرة مع دخول عصر ثورات الربيع العربي التي أطاحت بالعروش التقليدية القائمة على الاستبداد والفساد والديكتاتورية، خاصة وأن المكاسب السياسية كانت من الثمرات العاجلة لهذه الثورات المباركة، وبالفعل أخذت ثقافة المشاركة في العملية السياسية تعرف طريقها إلى العقلية العربية المغلقة، فتأسست الأحزاب وأنشأت منظمات المجتمع المدني، وأطلقت حرية الإعلام، وتنسم العربي والمصري نسائم حرية خالية من أية عوائق وقيود من النظم الحاكمة، ولأول مرة منذ عشرات السنين تقام انتخابات نزيهة خالية من بصمات نظام مبارك، أقبل عليها الملايين من الناخبين، بلغ في واحدة منها وهي الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مارس 2011، اثنين وثلاثين مليون ناخبًا، أعداد حقيقة، اصطفت في طوابير عملاقة، بلغ واحد منها عدة كيلو مترات، في إمارات قوية على بداية اختفاء ظاهرة التخلف السياسي.
ثم كان الانقلاب العسكري في 3 يوليو الذي أهدر كل المكاسب السياسية التي تحققت في ثورة 25 يناير، بداية من إهدار خمسة استحقاقات انتخابية، من تعديلات دستورية، وانتخابات مجلسي شعب وشورى، ورئاسة، ودستور، وحل كل المجالس المنتخبة، وإحلال المجالس المعينة مكانها. ثم تكدير أجواء الحرية بالقيود الثقيلة، من تكميم للأفواه، واعتقال المعارضين، وقتل للرافضين لهذا الانقلاب، وفرض القوانين المشبوهة والاستبدادية مثل قانون التظاهر وقانون الإرهاب، واجتهدت سلطة الانقلاب في سلب مكتسبات الشعب السياسية بكل الوسائل. وفرض التخلف السياسي من جديد على المصريين. فالديمقراطية خطر، والحرية شر، والمشاركة في صنع القرار عبث، والمطالبة بالحقوق تعدٍّ، والمساءلة عن الإنجازات مناكفة، وكل ذلك موبقات يجب التخلص منها حتى تأمن سلطة الانقلاب على عرشها.
ولكن الذي لا يعرفه دعاة الاستبداد والتخلف في مصر وغيرها أن الشعوب التي ذاقت طعم الحرية، وعرفت حلاوة العيش في ظلالها لن ترضى أبدًا أن تتنازل عن هذه الأجواء النقية، ولن ترضى أن تعود للقهر والجبر والخنوع، والانكفاء على الذات، والسير بجوار الحائط، أو حتى داخل الحائط، لن ترضى أن تحيا مثل النملة لتأكل السكر، وتنعم بالعيش الآمن، وهذا ما نراه اليوم في مصر، فرغم كل محاولات القمع وتكميم الأفواه، والتي فاقت ضراوتها كل تصور، من قتل وسحل وحرق وسجن وتضييق ومطاردة وتشريد، رغم القبضة الأمنية الوحشية، ما زال معارضو الانقلاب يخرجون كل يوم في تحدٍّ سافر لبطش الانقلاب وسطوته، رافضين أن يعودوا مرة أخرى إلى الذل والقهر والاستبداد، وقد يجادل البعض بأن غالبية الشعب المصري ما زالت عقولهم غارقة في التخلف السياسي، ولا يهمهم من النظام السياسي سوى المأكل والمشرب والمأمن، وهي مطالب مشروعة وجوهرية لا جدال في ذلك، ولكنها أغلبية خاملة، لا قيمة لها ولا أثر في مصائر الأمم والشعوب، فحياة دون حرية لا تختلف كثيرًا عن حياة الدواب والأنعام، وهذا ما أدركه جيدًا الأحرار، لذلك لن يكتفوا أبدًا عن المطالبة بالحرية حتى يحكم الله عز وجل بين عباده، وهو خير الحاكمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق