صحافة مسيلمة وفضائيات سجاح
بقلم د محمد عباس
www.mohamadabbas.net
mohamadab47@yahoo.com
صرخ صاحبي وقد جاوز مرحلة الانهيار:
- غير معقول هذا.. من نصدق ومن نكذب.. يعلنون الخبر.. ثم يصدر تكذيبه بعد نصف ساعة.. ثم يصدر تكذيب التكذيب.. ثم نفي تكذيب التكذيب.. ثم إثبات التكذيب الأول.. ثم نفي التكذيب الثاني .. والمواقع الإخبارية المختلفة تنقل الخبر ثم التكذيب ثم تكذيب التكذيب وهكذا دواليك.. أدور مع الخبر فيصيبني الدوار.. إن الأمر أشبه بغرفة المرايا المسحورة في الملاهي حيث تتوالد ملايين الصور في المرايا المتواجهة بحيث يصبح مستحيلا أن تعرف الأصل من الظل ولا الحقيقة من الخيال وأن تميز اتجاه الحركة..
كنت حزينا جدا.. ورحت أروي عله ما حدث في محاضرة لصحافي كبير كان يلقيها على صغار الصحافيين إذ راح الكبير يقول لهم أنهم لو اكتفوا بنقل الخبر فلن يحققوا سبقا صحافيا أبدا لأن الآخرين سينقلون نفس الخبر في نفس الوقت.. لذلك فإن عليهم ممارسة إبداعهم الذاتي بتعلية الخبر.. وسأل الحاضرون الصحافي الكبير عما يعنيه بتعلية الخبر.. فأجابهم أن هذا عمل إبداعي يتلخص في أن يذكر الصحافي ما يتوقعه أو ما يتمناه أو ما يثير أكبر قدر من لفت الأنظار ليضيفه إلى جسم الخبر الأصلي كجزء منه.. وهنا سأله أحد الشباب الصحافيين مذهولا:
- لكن هذا كذب..
ورد الصحافي الكبير في تعال واستهجان لغباء السائل:
- تلك هي الصحافة يا بني..
وهمهم الكثيرون من الحاضرين احتجاجا.. ثم بدأت الأصوات تتعالى في غضب مؤكدين أنهم أتوا ليتعلموا الصحافة لا الكذب.. فأجابهم الرجل الكبير أنه لا صحافة بلا كذب.. وأن من يريد صحافة بلا كذب عليه أن يترك القاعة على الفور فليس مكانه فيها.. وهنا انفجر غضب الشباب وأصروا على طرد الصحافي الكبير الذي انصرف مذهولا من ضحالة خبرة الشباب الذين يريدون صحافة بلا كذب..
- صحافة بلا كذب؟ ..كيف؟.. كيف؟؟..
***
قلت لصاحبي في أسى أن وضع الصحافة ليس هو الأسوأ ذلك أن حال الفضائيات أشد سوءا..وأن من يزعمون أنهم ليبراليون أو علمانيون أو حداثيون أو ما بعد حداثيين في الغرب هم كذلك حقا.. أما الأمر عندنا فهو مختلف..فنحن نواجه عبيد التمويل الأجنبي.. ونواجه-إلا من رحم الله خونة وعملاء ومتآمرين لا نشطاء وحزبيين ومفكرين..
***
عن مثل هؤلاء يتحدث على عزت بيجوفيتش في كتابه الهام: الإعلان الإسلامي فيقول :
"أما أولئك الذين يدعون بالتقدميين أو العصريين أو المستغربين إلى غير ذلك مما يسمون به أنفسهم فإنهم يمثلون في الحقيقة سوء حظ هذه الأمة المسلمة، إنهم كثرة كثيرة(اختلف الوضع الآن ليصبحوا قلة لا تكاد تذكر لكن بنفس المستوى من الضجيج) ذات نفوذ وتأثير، إنهم يهيمنون بشكل ملحوظ على الحكومات وعلى التعليم والحياة العامة، وهم يرون في فئة المحافظين تشخيصا للإسلام ويدعون الآخرين إلى أن ينظروا نفس النظرة، وهكذا استطاع دعاة الحداثة أن ينشئوا جبهة ضد كل ما تمثله الفكرة الإسلامية. ونستطيع التعرف على هؤلاء الذين أقاموا اليوم من أنفسهم مصلحين في البلاد المسلمة من خلال فخرهم بما أن يجب أن يخجلوا منه، وخجلهم مما كان يجب أن يفخروا به . إنهم "أبناء آبائهم" فقد تعلموا في أوربا ثم عادوا من هناك بشعور عميق بالدونية تجاه العالم الغربي المتقدم الغنى، وشعور الاستعلاء على مجتمعاتهم التي جاءوا منها وقد أحاط بها الفقر والتخلف. لقد حرموا من التربية الإسلامية الصحيحة وفقدوا كل صلة روحية أو أخلاقية بشعوبهم ومن ثم فقدوا معاييرهم الأولى وأصبحوا يتخيلون أنهم بتخريب الأفكار المحلية والتقاليد والمعتقدات وبتقديم أفكار غريبة سيقيمون أمريكا- التي يكنون لها إعجابا مبالغا فيه - على أرض بلادهم في يوم وليلة. إنهم بدلا من العمل على تطوير إمكانات بلادهم الخاصة ذهبوا ينفخون في شهوات الناس ويضخمون رغباتهم المادية، فأفسحوا بذلك الطريق أمام الفساد والفوضى الأخلاقية، إنهم لم يستطيعوا أن يفهموا أن قوة العالم الغربي لا تكمن في طريقته في الحياة. وإنما في طريقته في العمل وأن قوته ليست في الموضة و الإلحاد وأوكار الليل وتمرد الشباب على التقاليد، وإنما تكمن في الكدح الذي لا مثيل له، وفى المثابرة و العلم والشعور بالمسئولية التي تتميز بها شعوبهم. المشكلة إذن ليست في أن مستغربينا قد استخدموا أساليب أجنبية، وإنما في أنهم لم يعرفوا كيف يستخدمونها أو يضعونها في موضعها الصحيح وأنهم لم يفلحوا في تطوير حس قوى يكفى للتمييز بين ما هو صحيح وما هو غير صحيح، ومن ثم أخفقوا في اختيار المنتج الحضاري المفيد واستعاروا لمجتمعاتهم بدلا منه عرضا مرضيا من أعراض هذه الحضارة فكان منتجا ضارا بل قاتلا"..
كان على عزت بيجوفيتش يتحدث عن الكنز الذي فقدناه والوباء الذي أخذناه..
كان يتحدث عن بلطجية التحرير وعن بلاطجة الفضائيات ..
كان يتحدث عن أدعياء الليبرالية والعلمانية والحداثة.
***
إنني أنبهك أيها القارئ أن هؤلاء الذين انفصلوا عن الأمة وانفطموا من التاريخ هم الذين يصوغون وعيك فيستنزفوه..
وهؤلاء هم أعداء الثورة الذين يزعمون زورا وبهتانا أنهم أبناؤها.. وهم الذين يسيطرون على مؤسسات بلادنا. وهؤلاء هم الذين نقرأ على أيديهم تاريخا مزورا يوردنا موارد الهلاك.وهؤلاء هم الذين اختزلوا التاريخ - لا الشرف - ليصبح تاريخ الإسلام والمسلمين مكونا من حقبتين فقط هما الفتنة الكبرى في صدر الإسلام وحقبة الانهيار والانحطاط في الدولة العثمانية. من هاتين الحقبتين فقط تأتى كل الأمثلة وتخرج كل الاستشهادات وتنبع كل الانتقادات والإدانات أما عن حقب استمرت ألف عام كنا فيها أعظم و أعدل وأشرف حضارة في التاريخ فلا يتطرق إليها من الكلاب كلب ..إنهم يعرفون عن نابليون بونابرت أكثر مما يعرفون عن خالد بن الوليد الذي لم يهزم في معركة قط..
***
ليس لدينا مفكرون إذن بل عملاء.. أما الأدباء في بلادنا فقد أصبحوا أدباء الشلل وعصابات النشر والمصالح المتبادلة مع الأجنبي الذي يكيل للأديب الجوائز كلما خان أو تعهر أو كفر – وراجعوا الأسماء المطروحة في الساحة أرجوكم- فجلهم من النوع الذي وصفه أحمد مطر:
اتحاد الأدباء
أُعلن الإضرابُ في دُورِ البِغاءْ !.
البغايا قُلْنَ :
لَمْ يبقَ لنا منْ شرفِ المِهنةِ
إلاَّ الإدِّعاءْ !
إننا مهْما اتّسَعْنا
ضاقَ بابُ الرِّزقِ
منْ زَحمةِ فِسْقِ الشُّركاءْ .
أبغايا نحنُ ؟!
كلاَّ .. أصبحتْ مِهنتُنا أَكْلَ هَواءْ .
رَحِمَ اللهُ زماناً
كانَ فيهِ الخيرُ مَوفوراً
وكانَ العِهْرُ مَقصوراً
على جِنْسِ النِساءْ .
ما الذي نَصنَعُهُ ؟
ما عادَ في الدنيا حَياءْ !
كلما جِئنا لِمَبْغى
فتحَ الأوغادُ في جانبهِ مَبْغى
وَسَمَّوهُ : اتّحادَ الأُدَباءْ !
***
أصارحكم يا قراء بأن هدفي من هذا المقال أن أزلزل يقينكم بمعظم ما تقرأون وتشاهدون..؟!.. أن أكشف غشاوة وأهدم – بعون الله- باطلا يرتدى ثوب الحق..
نعم يا قراء.. يا ضحايا لأجهزة إعلام كذوب.. استغلت فيكم ما يقارب التقديس للكلمة.. فقررت أن تخدعكم بالكلمات.. تحولكم إلى الموقف السلبي تماما.. وتحدد منذ البداية الموقع الذي يناسبها أن تكونوا فيه.. فتحجب عنكم من الحقائق ما تشاء وتلون بالأكاذيب ما تشاء وتزين الباطل لتصب في وعيكم ما يدفعكم إلى الموقع الذي يناسبها أن تكونوا فيه.. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قبل الساعة سنون خداعة يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن الخائن، وينطق بها الرويبضة)
نعم يا قراء..
هذا هو الزمان الذي أخبر عنه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم :أخرجه أحمد عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا يدركني زمان ولا تدركون زمانا لا يتبع فيه العليم ولا يستحيا من الحليم قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب".
نعم..
صدقت يا سيدي ويا حبيبي ويا مولاي رسول الله صلى الله عليك وسلم وإنك والله لتصف الليبراليين كأنك تراهم: قلوبهم قلوب أعاجم و ألسنتهم ألسنة عرب..
أشهد أنك رسول الله: لا يتبعون العليم ولا يستحيون من الحليم..
***
لطالما دمدم التساؤل داخل قلبي مشعلا فيه الضريم:
- منذ متى حدث لنا هذا.. ؟..
كان السلطان مع القرآن فافترقا فظلت معظم الأمة مع القرآن لتنشئ أعظم حضارة في التاريخ.. فمتى انفصلت الأمة هي الأخرى عن القرآن تحت تأثير ثلة مجرمة من أبنائها رضعت حراما فبلغت فطاما فارتضت الحرام مقاما..؟..
إجابة هذا السؤال تضع أيدينا على الداء.. لكنها أكبر بكثير من أن يتسع لها هذا المقال كي يتعقب جذورها في بيروت ودمشق وسالونيك و إسلامبول والقاهرة..
فمن الصعب أن نعطى تاريخا محددا أو مكانا هو البداية الوحيدة.. ما نستطيعه أن نقدم وصف حالة وليس تحديد تاريخ لها..
ومن هنا يمكن القول أن التغير الرئيسي قد حدث في النخبة المثقفة في الأمة.. وعلى القارئ أن يلاحظ أن مصطلح " النخبة المثقفة" مصطلح جديد لا يجاوز عمر استعماله نيفا ومائة عام.. لكن مفهوم المصطلح حين نطبقه بأثر رجعى يمثل فئة العلماء.. تماما كما لو أننا نحينا المصطلح المستورد لكانت هذه "النخبة المثقفة " بعينها هي فئة العلماء..
ولقد بدأ الانهيار منذ قرون بالسلاطين الذين افترقوا عن القرآن لكنه تكرس بهزيمة طائفة العلماء ( أو النخبة المثقفة).. وتحولت الهزيمة من هزيمة لم تتجاوز القشرة السطحية من الأمة وهى فئة الحكام إلى هزيمة كاملة ألمت بالأمة كلها.. حتى أتت الثورة المباركة المذهلة في 25 يناير فهبت الأمة من غيبوبتها فإذا بهذه النخبة تجرها وتحاول إعادتها للغيبوبة.
كيف انهزم العلماء، وكيف تم في غيبة من الأمة عملية إحلال شامل مع الاحتلال الكامل فحل المثقفون المستغربون المنقلبون على الأمة بديلا عن العلماء وليس استمرارا لهم..
ما هي الصفقات التي عقدت في الخفاء بين السلطان – الأجنبي والمحلى – وبين المثقف؟
ما هي الآليات التي استعملت لإقصاء دين الأمة وقلبها وعقلها عن أن تكون العنصر الحاكم.
كيف استطاع طواغيت الشرك أن يخدعوا الأمة ليسموا الافتراق عن القرآن و إهمال شرع الله بأسماء مختلفة. فكلما اكتشفت الأمة اسما منها غاب هذا الاسم ليعود لنا نفس الفكر باسم جديد..
نعم يا قراء.. فالحرب الصليبية هي الاستعمار هي الصهيونية هي العلمانية هي الماركسية هي النظام العالمي الجديد هي العولمة هي الليبرالية هي - حتى – الحداثة وما بعد الحداثة وما يطلق عليه تحرير المرأة !!..
إثبات ذلك لا يقتضى إلمامنا بديننا وتاريخنا وفقهنا فقط بل يستلزم أيضا أن نعود إلى عصر النهضة في أوروبا وكيف نبتت الأفكار التي استوردها المستغربون في بلادنا لوضع مختلف.. يقتضى منا أن ندرس الفلاسفة العقلانيين والتجريبيين والواقعيين والرومانسيين والوجوديين مثل توما الإكوينى وفرنسيس بيكون وديكارت وسبينوزا ولوك وهيوم وبيركلى وكانط وروسو وشيلينج وهيردر وبيرجلاند ونوفاليس وهيجل وكيركجورد ودارون وفرويد ونيتشة وسارتر وكامى وسيمون دى بوفوار..
ويقتضى منا أيضا أن نعود إلى عشرات المستشرقين لكي نفهم كيف تمت غواية نخبة علمائنا (أو مثقفينا) ليقفوا ذلك الموقف الشائه المدنس الذي يقفونه الآن من حضارتنا الإسلامية..
إلا أنه علينا أن ندرك مدى فداحة جهل نخبتنا.. تلك التي لم تذق عنب الشام ولا بلح اليمن. فلا هي درست من الثقافة الأجنبية سوى القشور والغطاء الخارجي كشخص قذر يرتدى ملابس لامعة تخفي تحتها أسمالا ممزقة عطنة وجسدا نتنا.. ولا هي من الناحية الأخرى عرفت شيئا عن الإسلام. لكنها.. مأجورة بالتمويل ممهورة بالفسق والخيانة ناصبت الإسلام العداء.. وكانت ككلاب حراسة وضعت مكانها كي يعلو نباحها كلما اقترب الإسلام أو لاحت بشائره.
يقتضى الأمر منا أيضا أن ندرك كيف اتفقت مصلحة طواغيت الداخل مع طواغيت الخارج في تسليط الضوء كل الضوء على الفئة القليلة التي انحرفت من علمائنا - مثقفينا – وفرض التعتيم الكامل على الأغلبية التي لم تنحرف.. لتبدو أمام الأمة الصورة المغلوطة وكأن الفئة المنحرفة من العلماء – المثقفين – هي كل العلماء- المثقفين-.
ومر بنا الزمن فإذا بمصطلح المثقفين لا يطلق إلا على هذه القلة المنحرفة منهم بعد أن تم إقصاء الأغلبية تماما من الساحة.
يحاول على عزت بيجوفيتش أن يقدم تصوره كيف قادت هذه النخبة المثقفة المستغربة أمتها للهزيمة فيقرر أنه من بين السلع المشكوك في قيمها- مما يجلبه مستغربونا معهم إلى أوطانهم - أفكار "ثورية" مختلفة وبرامج إصلاح ، و"مذاهب إنقاذ" موصوفة لعلاج جميع المشكلات . فإذا تأملناها مليا نجد- لدهشتنا- نماذج لا يصدقها عقل في قصر نظرها وارتجالها. ثم يضرب المثل بمصطفى كمال أتاتورك" الذي كان قائدا عسكريا أكثر منه مصلحا ثقافيا ، والذي ينبغي وضع خدماته لتركيا في حجمها الصحيح ؛ ففي أحد برامجه الإصلاحية منع لبس الطربوش . . وطبعا ظهر على الفور أن تغيير غطاء الرءوس لا يعنى تغيير ما في هذه الرءوس ولا تغيير عادات أصحابها . فجوهر كل حضارة أو تقدم إنساني يكمن في الاستمرارية وليس في التخريب والتنكر للماضي ولا في تلغيم الوطن بالأزمات وإشعاله بالفتن ولا بالمولوتوف والأحجار والحرائق . إن طريقة الأمة في الكتابة هي الطريقة التي تتذكر بها الأمة وتستمر في وجودها التاريخي . وعندما ألغت تركيا الحروف العربية فقدت كل ثراء الماضي الذي حفظته الكلمة المكتوبة . وبهذا الإجراء وحده وضعت الأمة على حافة البربرية . ومع سلسلة أخرى من الإصلاحات المماثلة وجدت الأجيال التركية نفسها بلا دعامة روحية تقوم حياتها . . وجدت نفسها في فراغ روحي بعد أن فقدت ذاكرتها الماضية . . فراغ روحي كاد أن يقضي عليها حين انفصلت عن الشرق ولم تلحق بالغرب.. حين فقدت إيمانها ولما يكتمل كفرها.. ولم ينقذها إلا توبة وأوبة ومقاومة ومواجهة للطغمة النجسة الفاسدة: الليبراليين والعلمانيين.. وحتى على المستوى المادي لم تتقدم تركيا إلا بعد أن عادت لدينها. .
إن دعاة الحداثة في العالم المسلم حينذاك لم يكونوا من الحكماء الذين انبثقوا من صميم شعوبهم . . يعرفون كيف يطبقون بطريقة جديدة الأفكار والقيم القديمة على الظروف المتغيرة ، إنما ناصبوا هذه القيم العداء . . فعلوا ذلك بسخرية باردة ، وبقصر نظر رهيب، وسحقوا بأقدامهم كل ما هو مقدس عند الناس الذين كرهوهم واحتقروهم وأسقطوهم في الانتخابات ، تجاهلوا أحلام أمتهم ومقدساتها فدمروا الحياة، واستزرعوا بدلا منها حياة مصطنعة غير حقيقية . ونتيجة لهذه البربرية التي سادت في تركيا كما سادت في كل مكان ظهرت دول مزيفة أصابها الاضطراب الروحي وفقدت ملامحها العريقة كما فقدت حاسة الاتجاه الصحيح . كل شيء فيها أصبح سطحيا زائفا ، وفقد الإنسان فيها القوة والحماسة . وهكذا أصبحت الأمة مسخا مشوها يشبه مدنها الحديثة ذات البريق المصطنع الذي يخفى وراءه باطنا خربا .. نفس الوضع الذي تكرر بعد ذلك حذو القذة بالقذة في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي. فهل تستطيع دولة لا تعرف هويتها ولا تعرف أين تمتد جذورها أن تكون لنفسها صورة واضحة عن الموقع الذي تنتمي إليه ، والأهداف التي يجب أن تسعى لتحقيقها؟ .
***
ولقد تمخض هذا كله عن أن تتحول فئة المثقفين الذين تصطفيهم طواغيت الداخل والخارج لتمثل التعبير عن كل ما هو كئيب ومتصلب في هذا العالم . فلقد برهنت هذه الفئة على عجزها عن اتخاذ أي نوع من الخطوات الإيجابية لتدعيم العالم المسلم في مجابهة الخطوب الفادحة التي تنزل به في كل يوم. وبرهنت فوق ذلك كله على قصر نظرها وغبائها وممارستها الكذب باستمرار. إن نظرة واحدة إلى ميدان التحرير في يناير وفبراير 2011 ومقارنتها بوضعه الآن تلخص الحقيقة كلها.. حين تحول من أطهر بقعة في مصر تفوح بمسك الشهداء إلى أنجس بقعة في مصر تفوح بعطن الليبراليين وإفرازاتهم ومخدراتهم وفضلاتهم.
تمخض دخول الليبراليين والعلمانيين إلى الساحة زاعمين زورا أنهم أبناء الثورة عن مزورين لا محررين.. عن بلاطجة لا فلاسفة.. وعن مخربين لا مجاهدين..لم يكن لهم وجود في الشارع على الإطلاق.. كان وجودهم كله في حانات الفضائيات وأوكار الصحف المشبوهة..وكان المواطن في أربعة أركان الوطن هم ضحيتهم.. ضحية كل رويبضة منهم.. ضحية غسيل المخ والإصرار على الكذب. ضحية من يقبض أكثر من مليون جنيه من المال الحرام ويزعم أنه يدافع عن مواطن لا يصل دخله إلى مائتي جنيه شهريا.. ضحية مجرم تأتيه الملايين من الخارج كي يستقطب ضحايا الأمة من المشردين وأطفال الشوارع والعاطلين فيعطيهم مائة أو مائتي جنيه يوميا كي يحرقوا الوطن ويقطعوا الطريق على الإسلاميين.
ضحية من مكنتهم أموال مبارك من إنشاء صحف جديدة وفضائيات جديدة راحت توزع الرشا بالملايين لا تهمها الخسارة لأنها ترنو لما هو أبعد. صحف مسيلمة وفضائيات سجاح.
ووقع المواطن المسكين ضحية صحافة مسيلمة وفضائيات سجاح.
***
بعد وفاة الرسول الكريم ((ص )) ارتدت القبائل العربية عن الإسلام وظهر ( مسيلمة الكذاب ) في بني حنيفة وأعلن انه نبي جديد وظهرت امرأة اسمها سجاح وادعت هي الأخرى أنها تتلقى الوحي من السماء .
وقال مسيلمة لسجاح أن السماء تأمرني بالزواج منك، وتزوجها وكان صداقه لها ولقومها إسقاط فريضة الفجر والعشاء !(ليبراليونا أكرم.. فقد أسقطوا الصلوات جميعها) وزحفت جيوش مسيلمة وسجاح نحو اكبر البقاع وهي اليمامة للانطلاق منها لغزو المدينة المنورة وكانت آيات مسيلمة التي يتلوها على جيشه (عليكم باليمامة * دقوا إليها دفيف الحمامة * فأنتم جيش النصر إلى يوم القيامة * وسوف ترجعوا بالغنيمة والسلامة ). نفس ركاكة أحاديث الليبراليين ومحمد ساويرس وأبي خرطوشة . وخسر النبي الكذاب المعركة – كما سيخسرها الليبراليون- وقتل في حديقة الموت بمعركة اليمامة أيام خلافة أبي بكر ، وقيل: إن الذي قتله وحشي بن حرب قاتل حمزة بن عبد المطلب يوم معركة أحد.
عندما ادَّعى "مسيلمة الكذاب" النبوة قال له أتباعه: "إن محمدًا صلى الله عليه وسلم يقرأ قرآنًا يأتيه من السماء فاقرأ علينا شيئًا مما يأتيك من السماء"، فقال لهم "يا ضفدع يا ضفدعين .. نُقِّي ما تَنُقِّين .. نصفُكِ في الماء ونصفك في الطين"، فتقزز أتباعه مما سمعوا وعلموا أنه ليس وحي سماء بل هذيان معتوه، وانبرى له من بينهم أحد الأعراب قائلاً "والله إني لأعلم أنك كذَّاب، وأعلم أن محمدًا صادقٌ، ولكن كذابُ ربيعة أحبُ إليَّ من صادق مضر"..
***
أكاد أرى الليبراليين والعلمانيين يقولون مثل ذلك لبعضهم البعض ..
"والله إني لأعلم أنك كذَّاب، وأعلم أن الإسلاميين صادقٌون، ولكن كذابُ الليبراليين والعلمانيين أحبُ إليَّ من صادق المسلمين"..
أكاد أراهم يحملون رايات الشيطان يواجهون بها رايات لا إله إلا الله
***
لقد غضب البعض من تشبيه نخبتنا الفاسدة بأنها كسحرة فرعون..
لكن سحرة فرعون آمنوا..
ليتهم يعودون إلى جادة الصواب كما عاد سحرة فرعون وكما عادت سجاح.. فقد جاء في الأثر أن (سجاح) بدأت تسترد وعيها وتدرك فداحة الوهم الذي كان يسيطر عليها ، فانصرفت راجعة إلى أخوالها في الموصل حيث أسلمت، ورحلت إلى البصرة حيث استقرت باقي عمرها حتى توفيت فيها. وصلى عليها (سمرة بن جندب) والي البصرة التابع لمعاوية.
***
سجاح هذه أشرف ألف مرة من ليبراليينا ..
سجاح توقفت عن الكذب أما ليبراليينا فلم يتوقفوا أبدا..
إنهم يرفضون الديمقراطية والأغلبية ويرفضون الإسلام كله ويكررون الكذب فلا يخجلوا أبدا..
إنهم بمنتهى الصفاقة يحتجون على اللجنة التأسيسية للدستور زاعمين أن ما يحدث عندنا لم يحدث في العالم كله.. يكذبون.. وهم يعلمون أنهم يكذبون.. ويصارحهم واحد منهم بالحقيقية فلا يأبهون.. ويواصلون الكذب بصفاقة بلا نظير. صفاقة من أمن العقاب فأساء الأدب.
لقد أوضح الدكتور معتز بالله عبد الفتاح بأنه قد قام فريق بحثي بقيادة أستاذة أمريكية متميزة بجامعة برينستون بدراسة الـ200 دستور، التي ظهرت في دول العالم المختلفة في الفترة من 1975 وحتى 2003، وقد وجدت أن هناك تسع طرق لكتابة الدساتير عرفتها دول العالم المختلفة. وقد كان الأكثر استخداما فيها هو أن تعهد هذه الدول إلى البرلمان المنتخب كي يقوم بذاته بصياغة الدستور (42 بالمائة من الحالات)، أو عبر هيئة تأسيسية معينة من قبل البرلمان (9 بالمائة من الحالات). أي أن أغلب دول العالم أخذت بما أخذنا به. والدراسة موجودة على موقع Princeton الأمريكية... قل لهم ذلك ألف مرة.. لكن ستواصل صحافة مسيلمة وفضائيات سجاح العزف على مزامير الشيطان دون أن تعترف بالحقيقة أبدا.. ويأتي من يسمونهم بفقهائم الدستوريين ليمارسوا الكذب والجهل بصفاقة منقطعة النظير.. تصفعهم بالحقائق وبالتاريخ لكنهم لا يأبهون بالحق أبدا.. من الصعب أن نفهم هؤلاء الليبراليون دون أن نربطهم ببروتوكولات حكما صهيون.. لأن هؤلاء الليبراليين جزء لا يتجزأ من هذه البروتوكولات التي عكفت على دراسة الخطط التي تؤدي إلى تأسيس مملكة صهيون العالمية، وفي في تدبير الوسائل للقبض على زمام السياسة العالمية عن طريق إثارة الفوضى والفتن، وتتعدد وسائل الفتنة التي تمهد لقلب النظام العالمي وتهدده في كيانه بإشاعة الفوضى والإباحة بين شعوبه وتسليط المذاهب الفاسدة والدعوات المنكرة على عقول أبنائه، وتقويض كل دعامة من دعائم الدين أو الوطنية أو الخلق القويم. وهذا بالضبط ما يفعله ليبراليونا. هستريا الهجوم والضوضاء والكذب.
هستيريا الفوضى..
هستيريا انعدام المنطق وتقديس السفهاء ورجم العظماء..
هستيريا يجيدونها من أول "يسقط حكم العسكر" إلى "يسقط حكم المرشد" إلى "يسقط الرئيس القادم".
هستيريا مباراة مصر الجزائر.. هستيريا الدستور أولا.. هستيريا السفهاء الذين يجعلون منهم فقهاء دستوريين..هستيريا محمد محمود ومجلس الوزراء والمجمع العلمي والطرق والكباري والضرائب العقارية.. هستيريا ماسبيرو..
هستيريا لا تجد تنظيرا لها إلا في بروتوكولات حكماء صهيون وهو ما أنوي التطرق إليه في مقالات قادمة إن شاء الله..
يمارسون –عليهم اللعنة- ذلك النوع من الضجيج والهستيريا الذي يصيب من يتسلط عليه بالانهيار العصبي..
هستيريا تذكرني بما كان يحدث قبل ستين عاما في تلك الليالي المرعبة في جوف الليل البهيم في القرية التي لم تكن الكهرباء قد دخلتها بعد.. وفي جوف الليل ينطلق نباح كلب فتتجاوب معه كلاب القرية كلها في معزوفة نباح تثير الرعب والانهيار.. فمن نباح مصحوب بصافرة إلى نباح مصحوب بزنجرة إلى نباح سريع وبصوت قوي جدا إلى نباح مصحوب بزنجرة قوية ونباح لا يتوقف إلى نباح مع صوت عويل قوي إلى نباح متقطع وغير حاد .. ويتجاوب نباح الكلاب فيتردد صداه في القرية كلها.. وتخفت كل الأصوات عدا صوت الكلاب ويخيم الإحساس بالخوف والرعب ونذر الشؤم..
نفس الأحاسيس التي تنتابني الآن.. بعد ستين عاما..إذ أقرأ صحافة مسيلمة ..أو أشاهد فضائيات سجاح.. فلا يبقى داخلي منها إلا صوت نباح..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق