الخميس، 1 يناير 2015

2015 بين الرومانسيّة والواقعيّة

2015 بين الرومانسيّة والواقعيّة
خليل العناني*


"كن واقعياً، فالعالم يتحرك وأنت واقف مكانك"، قالها أحد الأصدقاء لصديق آخر في نهاية محادثة هاتفية، تبادلا فيها تهنئة مقتضبة بالعام الجديد، وانتهت بتوجيه النصح من الأول للثاني الذي لا يزال متمسكاً بما تبقى من مبادئ في عالم رديء، لا يخلو من انتهازية وجفاء.
كان الصديق الأول من أنصار "حزب الكنبة"، لم يكن مؤيداً لنظام مبارك، لكنه لم يكن، أيضاً، مقتنعاً بالثورة ولا بمَن شارك فيها. كان يخشى ما هو قادم، ويحاول الحفاظ على ما يملك من متاع قليل، ووظيفة تكفيه الحاجة وتغنيه عن السؤال.
كان يرى أن بلداً كبيراً وقديماً كمصر، لا تصلح معه ديمقراطية، ولا تنفعه الحرية، وأن شعبها لا ينفع معه سوى "عصا" الدولة.
 أما الصديق الثاني، فقد كان رومانسياً حالماً، دائم النقد للوضع القائم، كان ينتظر الثورة كما لو كان ينتظر مولوداً عزيزاً.
لذا، فقد شارك فيها منذ يومها الأول، ومكث فى ميدان التحرير، طوال أيام الثورة الثمانية عشر. كان يرى أن بلاده تستحق الأفضل، وأن إصلاح الرعية من صلاح الحاكم.
صديقي الأول
لم يتحمل الثورة، أقلقه التغيير، فقرر السفر إلى إحدى الدول الخليجية. وقد فرح بالانقلاب المشؤوم عندما وقع، ورأى أنه أعاد الأمور إلى نصابها. فحسب رؤيته، لا يصلح لمصر سوى رجل "قوي"، ويا حبذا لو كان عسكرياً، حتى وإن لم يخض حرباً أو يطلق رصاصة واحدة في حياته.
 أما صديقي الثاني، فلم يغادر الوطن، ولم ير بديلاً سوى الكفاح من أجل التغيير، لكنه بدأ يتعامل مع الواقع بسخرية، ويعاند كل من ينتقد الثورة، ولكن، بحس فكاهي لا يتوقف عن قراءة مفارقات الواقع وما أكثرها.
عاد صديقي الأول إلى مصر بعد الانقلاب
، ورجع إلى وظيفته التي كان قد غادرها بعد الثورة مباشرة. وخلال أقل من عامين، ترقّى وأصبح ذا شأن في عمله، فقد أصبح "واقعياً"، ولا يخفي رغبته في أن يصبح من رجال النظام الجديد، حتى وإن كانوا أسوأ من رجال مبارك.
 أما صديقي الثاني، فقد ترك وظيفته، حفظاً على ماء وجهه أمام زملائه الآخرين، أعضاء "حزب الكنبة"، وتحوّل إلى العمل التطوعي في إحدى الجمعيات الأهلية، ولا يزال يحتفظ بصوره في أثناء الثورة في كل أرجاء منزله، ويقصّ على أولاده حكايات "ميدان التحرير" كل يوم قبل النوم.
يرى صديقي الأول
أن الوضع قد استقر، وأن الزمن لن يعود إلى الوراء، وأن الثورة انتهت ودُفنت مع مجيء الجنرال.
 أما صديقي الثاني فلا يزال يرى أن الثورة "مستمرة"، وأنه خسر جولة، لكنه لم يخسر المعركة.
لا يكترث كثيراً بوعود الجنرال ووعيده، بل يراه أضعف كثيراً من مبارك الذي يعتبره آخر الفراعين.
 يدرك جيداً أن زيادة القمع هي انعكاس للشعور بالضعف، وأن الخوف من الثورة هو السبب في عسكرة الحياة السياسية، وأن الخوف من الحساب هو السرّ خلف محاولات السيطرة وإسكات المخالفين.
صديقي "الواقعي"، كما يحب أن يسمّي نفسه دائماً، تراوده هواجس زوال حكم الجنرال قبل أن يصل إلى مبتغاه، ويخشى أن يسقط الرجل قبل أن يحقق طموحاته. فالثورة بالنسبة له "كابوس" لا يجب أن يتكرر، ومجرد "فتنة" أصابت البلاد والعباد.
أما صديقي "الرومانسي" فيرى الثورة حلماً جميلاً، ويعاملها كامرأة فاتنة ليس لعشقها شفاء.
يستقبل صديقي "الواقعي" العام الجديد متوتراً ومتكالباً ومتعجلاً. أما صديقي الرومانسي فيستقبله هادئاً ومطمئناً، متيقناً بأن الفرج قريب، وأن النصر آتٍ لا محالة.
 الخيار لك، عزيزي القارئ، بين الرومانسية والواقعية، وكل عام وأنت بخير.

*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق