الاثنين، 26 يناير 2015

عن نصف كوب الثورة الفارغ

 عن نصف كوب الثورة الفارغ 





إذا كانت ثورة 25 يناير قد أبرزت بعض مكامن القوة في المجتمع المصري، فإن المرحلة التي تلتها كشفت عن مظاهر للضعف تستحق رصدا ودراسة. 
(1)
"في عالم الرياضة يقسمون الفرق درجات بمعيار التفوق والكفاءة. وقد خطر لي أن أقتبس الفكرة في التعليق على المباراة الجارية بالساحة السياسية المصرية، واضعا في الاعتبار أن المباراة لم تنته بعد وأنها لا تزال في شوطها الأول.
ومن هذه الزاوية، أزعم أننا بصدد فريق التحق حديثا بدوري السياسة، ولم يتحدد بعد موقعه وترتيبه بين الفرق الهابطة.
أما اللاعبون فهم بين هواة دخلوا إلى الملعب مصادفة أو وجدوا أنفسهم في قلبه فجأة. وبين لاعبين تجاوزوا بالكاد طور اللعب بالكرة الشراب، وقدموا من حارات السياسة ليبدؤوا رحلتهم مع الأندية.
أعني أننا بإزاء لاعبين من الفرز الثاني أو الثالث، بعضهم من متوسطي القدرة وبعضهم يستحقون العطف والرثاء، ومنهم من يُنصح بالبحث عن لعبة أخرى يؤديها. وجميعهم يحتاجون إلى مدربين ودروس خصوصية مكثفة. وما أدعيه ينطبق على القوى المدنية وعلى الإخوان والسلفيين. وجميعهم معذورون، لأنهم حديثو عهد بمثل هذه المباريات، التي حرموا منها طوال الستين سنة الماضية.
لذلك أزعم أنهم مظلومون وظالمون. هم مظلومون لأنهم لم يمكّنوا من النزول إلى الملعب في السابق، وظالمون لأنهم تسابقوا على حمل عبء لم يكونوا قادرين عليه. ولم يدركوا أن مصر أكبر منهم مجتمعين، ناهيك عن أنها أكبر من أي فصيل مهما كان حجمه. ولا بد أن نعترف بأن الجميع في مرحلة "الحضانة" السياسية ولا يزالون يتعلمون أبجديات اللعبة.
وقد قصدت التعميم حتى لا يدعي أحد أنه أفضل من الآخر. وإذا عنَّ لفصيل أن يدعي أنه أقدم من غيره. فإنني أذكِّره بأن بقاءه طويلا على الشاطئ ليس دليلا على أنه بات يجيد السباحة. وحتى إذا كان البعض في السنة الأولى من الحضانة ووجدنا أن البعض الآخر في السنة الثانية، فذلك لا ينفي أن الجميع لا يزالون في الحضانة ولم يتجاوزوها". 
(2)
النص أعلاه ورد في مقالة لي نشرت في 11 ديسمبر/كانون الأول 2012 كان عنوانها "في أنها مباراة بين الهواة في ملعب السياسة". وفيها عرضت تقييمي للأشهر الخمسة الأولى من حكم الرئيس الأسبق الدكتور محمد مرسي، ومما قلته فيها "إن الإخوان إذا كانوا قد نجحوا في قيادة وتنظيم الجماعة، فإنهم لم ينجحوا في قيادة سفينة الوطن".
"لقد أصبح الفراغ عنوانا رئيسيا للحالة السياسية. وهو ما أدركناه أثناء الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2012، وما نلمسه بصورة أوضح الآن في البلبلة والتجاذبات المخيمة على الإعداد للانتخابات التشريعية. ومن أهم العوامل المحركة لها إدراك الأحزاب السياسية أنها لا وجود حقيقيا لها في الشارع"
وما يهمني في المقالة أنها حاولت وقتذاك أن تسلط الضوء على أحد مواطن الضعف في الساحة السياسية المصرية، التي تكشفت بعد الثورة. وهي التي تمثلت في غياب القيادات والأحزاب السياسية، الأمر الذي كان مفهوما في ظل موت السياسة وحالة الجدب والتصحر التي خيمت على ذلك المجال طوال العقود الأربعة السابقة على الأقل.
وحين قلت إن جميع اللاعبين بمختلف اتجاهاتهم مجرد هواة "من الفرز الثاني أو الثالث" مشيرا ضمنا إلى أنه ليس بينهم سياسي من الطراز الأول، فإنني أزعم أننا ما زلنا نقف عند نفس النقطة في عام 2015. لست أقلل من قدر الأشخاص الذين أسجل لهم حقهم في الاحترام، لكنني أتحدث عن حظهم من الإجماع الشعبي ورصيدهم في الشارع المصري.
لقد أصبح الفراغ عنوانا رئيسيا للحالة السياسية. وهو ما أدركناه أثناء الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2012، وما نلمسه بصورة أوضح الآن في البلبلة والتجاذبات المخيمة على الإعداد للانتخابات التشريعية. ومن أهم العوامل المحركة لها إدراك الأحزاب السياسية أنها لا وجود حقيقيا لها في الشارع، وأنها لا تستطيع أن تغامر بخوض الانتخابات إلا في إطار تحالفات تحملها إلى البرلمان القادم.
غياب القيادات والقوى السياسية لا يعبر عن ضمور الأحزاب وهشاشتها فقط، ولكنه أيضا من أعراض ضعف المجتمع. ذلك أن الأحزاب السياسية تعد في مقدمة الأوعية التي تمثل اتجاهات الرأي العام. وهناك أوعية أخرى لها أهميتها مثل النقابات المهنية والعمالية والتعاونيات والمجالس المحلية، ومنظمات المجتمع المدني على اختلاف أنشطتها. هذه الكيانات ظل دورها غائبا خلال السنوات الأربع الماضية. فبعضها تم حله ووضعه تحت الحراسة، والبعض الآخر جرى تهميشه أو خضع للحصار والملاحقة.
وإذا أضفنا إلى القائمة مؤسسات أخرى جرى إلحاقها بالسياسة بصورة أخرى -وفي مقدمتها القضاء والجامعات والإعلام- فسوف نكتشف أن الأزمة أكبر من الأحزاب، وأن المجتمع ذاته أصبح مغيبا بدوره ومنزوع العافية، وكانت النتيجة أن السلطة بأذرعها البيروقراطية والأمنية أصبحت هي الطرف الأقوى الذي لا يبارى أو ينازع.
لست أتحدث في الوقت الراهن عن أوعية تعارض السلطة أو تتحداها، وهو ما تسمح به النظم الديمقراطية ما دام ذلك تم بالطرق السلمية؛ لكنني أتحدث عن كيانات أو مؤسسات تحفظ التوازن في مواجهة السلطة، فتقاوم تغولها وتسهم في كبح جماحها بما يحول دون تسلطها وانفرادها بالتحكم في مصير المجتمع. ولأن تلك المؤسسات لم تقم فإن المجتمع فقد أحد أهم حصاناته، ومن ثم احتلت تلك الثغرة رأس قائمة مظاهر الضعف فيه. 
(3)
"صحيح أن تيارات الإسلام السياسي تتحمل المسؤولية الكبرى عن إجهاض الثورة. إلا أن السكوت على الأدوار الانتهازية التي لعبتها الأطراف الأخرى -خصوصا أولئك المنعوتين زورا وبهتانا بالمدنيين والليبراليين- يقلل من عمق تحليل المشهد.
فتلك التيارات كانت ولا تزال سلطوية بامتياز، سلطوية ثقافة وحركة وتنظيما وسياسة. لا تستطيع أن تنفك عن السلطة ولا أن تلعب سوى مع القوى. ترفع شعارات المدنية وحقوق الإنسان كوسيلة للحصول على الوجاهة الاجتماعية والسلطوية، بينما هي في حقيقة الأمر قوى رجعية لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالتعددية ولا بقيم حقوق الإنسان، فقط قلة عبرت عن تلك القيم ودفعت كثيرا جراء مواقفها الثابتة، لكنها ما زالت تبحث ونبحث معها عن النضج".
"الصراع والاصطفاف السلبي الذي انحازت إليه القوى الليبرالية واليسارية لم يستهدف فقط الحصول على الوجاهة الاجتماعية والسلطوية؛ ولكنه أيضا كان يعمد إلى تصفية حسابات الخلاف الإيديولوجي من خلال عقد التحالفات التي يراد بها إقصاء الآخر من خلال قوة السلطة وأدواتها"
الفقرة السابقة ليست لي، ولكنها مقتبسة من مقالة نشرتها جريدة "الشروق" في 22 يناير/كانون الثاني 2015 لكاتب جاد هو الدكتور أحمد عبد ربه أستاذ العلوم السياسية، وأثار فيه بعض الملاحظات المهمة حول ما سماه "المسكوت عنه في أربعة أعوام"، من عمر ثورة يناير.
وقد أغنتني شهادته عن التفصيل في تحرير "أزمة النخبة"، التي اعتبرها ضمن مظاهر الضعف التي تكشفت خلال السنوات الأربع الماضية، والتي أسهمت في تشويه الإدراك العام وتشجيع الانقلاب على الديمقراطية، كما غذَّت الاستقطاب المروع الذي ضرب الإجماع الوطني، وأدى إلى معالجة الأخطاء بأخطاء أخرى مضاعفة.
لدي فقط ملاحظتان على شهادته. الأولى، أنه في إشارته إلى أطراف الأدوار الانتهازية تحدث عن المدنيين والليبراليين، ولم يشر إلى دور اليسار الذي ساهم بنفس القدر -وربما بحماس أكبر- في كل ما حدث من انتكاسات، باستثناء فئة قليلة بطبيعة الحال.
والملاحظة الثانية، أن الصراع والاصطفاف السلبي الذي انحازت إليه تلك القوى لم يستهدف فقط الحصول على الوجاهة الاجتماعية والسلطوية، كما ذكر الدكتور عبد ربه؛ ولكنه أيضا كان يعمد إلى تصفية حسابات الخلاف الإيديولوجي من خلال عقد التحالفات التي يراد بها إقصاء الآخر من خلال قوة السلطة وأدواتها، ومن ثم إلحاق الهزيمة به على الصعيدين السياسي والإيديولوجي.
الشاهد أنه خلال السنوات الأربع الماضية انحازت أغلبية عناصر النخبة إلى موقف السلطة بأكثر مما عبرت عن ضمير المجتمع وأشواقه. وحين تخلت عن قيمها فإنها اختارت أن تقوم بدور التابع أو المحلل وليس الطليعة. كما بنت مواقفها انطلاقا من حساباتها ومصالحها الخاصة، وليس اهتداءً بالمصالح الوطنية العليا. 
(4)
في كتاباته الأخيرة التي ندرت، ما برح المستشار طارق البشري يدق الأجراس منبها ومحذرا من بعض مظاهر الضعف التي أصبح يعاني منها الواقع المصري.
ففي مستهل أحدث كتبه "جهاز الدولة وإدارة الحكم في مصر"، تتبع إعلانات حالة الطوارئ منذ إقرار دستور عام 1923 وحتى الآن. وخلص من هذا الرصد إلى أنه "خلال ثلاثة أرباع القرن الأخير عشنا في مصر في حالة طوارئ ثابتة اعتاد عليها جهاز إدارة الدولة، وتشكلت في إطارها تجاربه ومهاراته وأساليب إدارته للشؤون العامة وللتعامل مع المواطنين، بمعنى أنه في ‘ثقافته‘ الإدارية -وبحكم تجاربه وخبراته- لم يستطع الحكم ولا ممارسة عمله في التعامل مع المواطنين إلا في ظل ما أنتجته ‘حالة الطوارئ‘ من سلطات وقدرات غير مقيدة"، أي في إطار سلطات طليقة من القيد.
وهذه الخلفية جعلت البشري يعبر عن شكوكه في أن إمكانية الحكم وإدارته في مصر لم تعد تنفصل عن خبرة الاستبداد ومعارفه وعادات تعامله، واعتبر أن ذلك إحدى المشاكل التي واجهتها ثورة 25 يناير وما تعرضت له من انتكاسات بعد ذلك.
"ليس المطلوب كشف العورات ولا جلد الذات، لأن الأهم هو أن تصوب الرؤى ويعاد ترتيب الأولويات بما يعالج الثغرات، لعلنا نتوصل إلى وفاق وطني يجدد الالتزام بالحرية والديمقراطية، ويدرك حجم الخسارة الفادحة التي تتحملها مصر وتدفع ثمنها من عافيتها ودورها، جرّاء استمرار العبث بالديمقراطية"
في دراسة أخرى عنوانها "مصر بين الأمس واليوم" نشرتها صحيفة السفير البيروتية على ثلاث حلقات ابتداء من 8 يناير/كانون الأول الحالي، أثار المستشار البشري قضية أخرى في تفسير ظاهرة الوهن الذي أصاب المجتمع المصري وجرده من عافيته، بحيث أصبح عاجزا عن النهوض وتقديم نموذجه الحضاري.
وهو يُرجع ذلك إلى ظاهرة تآكل وانهيار الطبقة الوسطى، مستعيرا في ذلك عنوان الكتاب الذي أصدره الدكتور رمزي زكي بالصيغة ذاتها. وقصد بالطبقة الوسطى مختلف الشرائح الاجتماعية.
واستشهد في عرض رؤيته بما فعله السلطان العثماني سليم الأول بعد فتح مصر عام 1517، حين ألحقها بدولته، وقضى -في الوقت ذاته- على التشكل الحضاري الذي كانت تمثله في العلوم والفنون والصنائع. فنقل إلى الأستانة أجمل ما أبدعته مصر، واستجلب إلى عاصمة ملكه عناصر النخب الثقافية والفنية والحرفية من المصريين، وهؤلاء هم الذين مثلوا الطبقة الوسطى في ذلك الزمان وكانوا أعمدة نهوض البلد.
وبسبب تفريغ مصر من طاقاتها الإبداعية وعمالتها الماهرة؛ فإنها شهدت انهيارا حضاريا أفقدها إشعاعها ومكانتها. وهو ما لم تستطع مصر أن تعوضه إلا في عصر محمد علي باشا، أي بعد نحو 300 سنة من الفتح العثماني.
ورأى المستشار البشري أن الهجرة الواسعة النطاق إلى دول الخليج منذ السبعينيات فرغت بدورها مصر من طاقاتها الإبداعية وعمالتها الماهرة، الأمر الذي أوصلها إلى حالة شبيهة بما كانت عليه بعد غارة السلطان سليم الأول. وهو ما أسهم في النتيجة التي تكشفت معالمها بعد الثورة. إذ أصابت الجميع حيرة جعلتهم عاجزين عن طرح مشروع حضاري متكامل الأركان وطنيا واجتماعيا واقتصاديا. الأمر الذي يكشف عن وجه آخر من أوجه الضعف الذي عانت منه مصر بعد الثورة، وباتت بحاجة إلى جهد خاص للتعافي منه. 
(5)
غني عن البيان أن ما سبق ليس حصرا لعوامل الضعف التي تكشفت خلال السنوات الأربع التي أعقبت الثورة، بقدر ما هو دعوة إلى فتح الملف وإدارة الحوار حول موضوعه بجدية ومسؤولية.
علما بأنني لست أشك في أن هناك عوامل أخرى كشفت عنها خبرة تلك السنوات تحتاج إلى مناقشة (منها مثلا القيود والالتزامات التي تكبل حركة مصر في المجال الخارجي، خصوصا ما تعلق منها بالعلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل).
وفي كل الأحوال؛ ليس المطلوب كشف العورات ولا جلد الذات، لأن الأهم هو أن تُصوّب الرؤى ويعاد ترتيب الأولويات بما يعالج الثغرات، لعلنا نتوصل إلى وفاق وطني يجدد الالتزام بالحرية والديمقراطية، ويدرك حجم الخسارة الفادحة التي تتحملها مصر وتدفع ثمنها من عافيتها ودورها، جرّاء استمرار العبث بالديمقراطية والتهليل والنفخ في الذات لتضليل الناس وتسويق أوهام العافية لهم.
المصدر : الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق