عن الجنرال والذين معه
خليل العناني*
كل يوم، يُثبت الجنرال عبد الفتاح السيسي أنه أقل بكثير من أن يحكم بلداً كبيراً وقديماً ومعقداً بحجم مصر.
والمسألة، هنا، لا تتعلق فقط بتواضع المهارات السياسية والقدرات الذهنية والفكرية للرجل، والتي انكشفت، بشكل واضح، في حواراته وأحاديثه التي أجراها إبان حملته الانتخابية، وتأكدت في الشهور الماضية، منذ توليه السلطة فى يونيو/حزيران الماضي، وإنما أيضاً بقدرته على إدارة دولاب العمل اليومي (أو الإدارة البيروقراطية) في مصر، بما يضمن حل المشكلات الحياتية للمواطنين، مثل توفير الحد الأدنى من المعيشة والخدمات الضرورية، كالخبز والكهرباء والمياه النظيفة والصرف الصحي.
فالرجل لا يمتلك سوى قدرة "كلامية" تعكس شخصية "فهلوية"، تلعب على أوتار السذاجة والاستخفاف بالعقول، أكثر من كونها شخصية "رجل دولة" حقيقي، حتى بمعايير رجال حسني مبارك.
بيد أن ما يدعو للأسى والغثيان هو تلك الحال التي لا يزال يغطّ فيها نفر من النخبة والمثقفين ورجال الإعلام والشيوخ والرهبان الذين يدورون في فلك الرجل، ويحاولون أن يصنعوا منه أسطورة "تاريخية"، فيشبهه بعضهم تارة بمحمد علي، وتارة أخرى بالزعيم الفرنسي شارل ديغول، هذا فضلاً عن "شطحات" بعضهم، وتشبيههم له بالرسل والأنبياء.
في حين أن الرجل لا يمتلك الحد الأدنى الذي قد يؤهله لكي يصبح أياً من هؤلاء، أو حتى قريباً لهم ولدورهم التاريخي.
هؤلاء يبحثون عن "زعيم"، لا يوجد إلا فى مخيلتهم فقط، ويلحتفون بغطاء نظام عسكري، يفتقد لأدنى مقومات الشرعية.
مشكلة هؤلاء ليست فقط أنهم مُصابون بما سماه الدكتور عزمي بشارة "سيكولوجية العبودية"، وهي حالة موجودة ومتأصلة لدى قطاع من النخب والشعوب العربية، وإنما، أيضاً، أن لديهم تصوراً "أسطورياً" عن طبيعة السلطة ومن يشغلها في مصر. فالسلطة بالنسبة إليهم ليست "وظيفة" عامة، تفرض على من يشغلها حزمة محددة من الواجبات والمسؤوليات، كما هي الحال في بقية دول العالم "الطبيعية"، وإنما هي بالأساس "حق" قائم بذاته لمن يشغله، خصوصاً إذا جاء من خلفية عسكرية. فهم يعشقون "الزي الميري" وإن كان خاوياً، ويقدّسون "الدولة"، وإن كانت ضعيفة وفاشلة.
ولا تخجل هذه النخب من أن يتحول "الحاكم"، بفعل سلوكها معه واستسلامها له، إلى "نصف إله"، يصبح الاقتراب منه خطيئةً لا تُغتفر، ويتحول انتقاده كما لو كان مساّ وهدماً "للدولة" ذاتها. يخلقون، بجهلهم وسطحيتهم، حالة من التماهي "الأعمى" بين الدولة والنظام والرئيس، فيصبح الثلاثة، على الرغم من الفروق الكبيرة بينهم، وكأنهم شيء واحد.
لذا، لا غرابة أن يجلس هؤلاء أمام "الحاكم" مطأطئي الرؤوس، يحاضرهم، وهو جاهل، ويوبخّهم، وهو أقل منهم جميعاً علماً وشأناً. تماما مثلما الحال مع الديكتاتور كيم جونغ أون، حاكم كوريا الشمالية. فالديكتاتور الشاب لا يفقه شيئاً سوى ألعاب "الفيديو جيم"، لكنه يتصرف أمام مرؤوسيه كما لو كان "قائداً" محنكاً وجنرالاً ذا خبرة واسعة.
وفي حين أن كثيرين من هؤلاء يدركون أن الجنرال لا يمتلك قدرات حقيقية، وربما يتندرون عليه فى مجالسهم الخاصة، إلا أنهم لا يجرؤون على انتقاده علناً أو التقليل من شأنه أمام العامة، خوفاً من العقاب أو رغبة في الحفاظ على مناصبهم ومكاسبهم. في حين أصاب بعضهم الصلف والغرور إلى درجة لا يعترفون فيها بخطأ دعمهم الرجل.
أذكر أنني تحدثت مع أحد الرموز الفكرية والسياسية المعروفة في مصر، عقب انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، ووجدته متيماً مأسوراً بالجنرال السيسي، معتبراً إياه امتداداً لمحمد علي، وأنه سوف يسير على نهجه، ويعيد بناء مصر من جديد.
ولكن قبل أسابيع، سمعت من أصدقاء أنه ليس راضياً عن الوضع القائم، بل ويرى أن الجنرال يأخذ البلاد نحو كارثة أسوأ من حكم مبارك. وعلى الرغم من ذلك، لم يعترف بخطئه، أو يندم على دعمه له، في تناقض عجيب.
حتى بعض الذين دعموا السيسي وكانوا "بوقاً" لا يتوقف عن ترويجه قبل الرئاسة، بدأوا في التململ والضجر من سلوكه وأفعاله.
وقبل شهور قليلة، اشتكى بعضهم سراً من تجاهل الجنرال لهم، واعتماده الكبير على أهله وعشيرته من الجنرالات.
يعتبر هؤلاء المحسوبون على النخبة جزءاً أصيلاً من أزمة السياسة في مصر.
وهم يمثلون إرث دولة "الباشا" محمد علي، الذي لم يتبق منه سوى المفهوم القهري للدولة المتغلبة، والسلطة الغاشمة التي تعامل مواطنيها باعتبارهم مجرد رعايا، أو "موضوعة" لهيمنتها وقوتها، وليسوا مواطنين ذوي حقوق ومصدراً لشرعية الدولة ومقراً لإرادتهم العامة. وهم، أيضاً، امتداد لنخبة "الجنرال" عبد الناصر التي استمرأت مداهنة السلطة، وصمتت على قمعها وعنفها، رغباً أو رهباً.
وهي النخبة نفسها التي كانت تُدار، ولا تزال، بتلفون من ضابط صغير في جهاز "أمن الدولة" طوال عهد مبارك، فلما قامت الثورة "ركبوها"، وتقمصوا شخصية الثوار، إلى أن جاء الانقلاب، فأحنوا ظهورهم للسلطة، لكي تفعل بهم ما تشاء.
لا عجب، إذن، أن يصمت هؤلاء على جرائم الدولة وعنفها، فهي، بالنسبة إليهم، ليست دولة مسؤولة، يجب أن تُحاسب، وإنما "بقرة مقدسة"، يجب أن يُقدّم لها المجتمع كقربان، لكي تحيا وتتوحش.
* أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية.
عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية،
وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.
والمسألة، هنا، لا تتعلق فقط بتواضع المهارات السياسية والقدرات الذهنية والفكرية للرجل، والتي انكشفت، بشكل واضح، في حواراته وأحاديثه التي أجراها إبان حملته الانتخابية، وتأكدت في الشهور الماضية، منذ توليه السلطة فى يونيو/حزيران الماضي، وإنما أيضاً بقدرته على إدارة دولاب العمل اليومي (أو الإدارة البيروقراطية) في مصر، بما يضمن حل المشكلات الحياتية للمواطنين، مثل توفير الحد الأدنى من المعيشة والخدمات الضرورية، كالخبز والكهرباء والمياه النظيفة والصرف الصحي.
فالرجل لا يمتلك سوى قدرة "كلامية" تعكس شخصية "فهلوية"، تلعب على أوتار السذاجة والاستخفاف بالعقول، أكثر من كونها شخصية "رجل دولة" حقيقي، حتى بمعايير رجال حسني مبارك.
بيد أن ما يدعو للأسى والغثيان هو تلك الحال التي لا يزال يغطّ فيها نفر من النخبة والمثقفين ورجال الإعلام والشيوخ والرهبان الذين يدورون في فلك الرجل، ويحاولون أن يصنعوا منه أسطورة "تاريخية"، فيشبهه بعضهم تارة بمحمد علي، وتارة أخرى بالزعيم الفرنسي شارل ديغول، هذا فضلاً عن "شطحات" بعضهم، وتشبيههم له بالرسل والأنبياء.
في حين أن الرجل لا يمتلك الحد الأدنى الذي قد يؤهله لكي يصبح أياً من هؤلاء، أو حتى قريباً لهم ولدورهم التاريخي.
هؤلاء يبحثون عن "زعيم"، لا يوجد إلا فى مخيلتهم فقط، ويلحتفون بغطاء نظام عسكري، يفتقد لأدنى مقومات الشرعية.
مشكلة هؤلاء ليست فقط أنهم مُصابون بما سماه الدكتور عزمي بشارة "سيكولوجية العبودية"، وهي حالة موجودة ومتأصلة لدى قطاع من النخب والشعوب العربية، وإنما، أيضاً، أن لديهم تصوراً "أسطورياً" عن طبيعة السلطة ومن يشغلها في مصر. فالسلطة بالنسبة إليهم ليست "وظيفة" عامة، تفرض على من يشغلها حزمة محددة من الواجبات والمسؤوليات، كما هي الحال في بقية دول العالم "الطبيعية"، وإنما هي بالأساس "حق" قائم بذاته لمن يشغله، خصوصاً إذا جاء من خلفية عسكرية. فهم يعشقون "الزي الميري" وإن كان خاوياً، ويقدّسون "الدولة"، وإن كانت ضعيفة وفاشلة.
ولا تخجل هذه النخب من أن يتحول "الحاكم"، بفعل سلوكها معه واستسلامها له، إلى "نصف إله"، يصبح الاقتراب منه خطيئةً لا تُغتفر، ويتحول انتقاده كما لو كان مساّ وهدماً "للدولة" ذاتها. يخلقون، بجهلهم وسطحيتهم، حالة من التماهي "الأعمى" بين الدولة والنظام والرئيس، فيصبح الثلاثة، على الرغم من الفروق الكبيرة بينهم، وكأنهم شيء واحد.
لذا، لا غرابة أن يجلس هؤلاء أمام "الحاكم" مطأطئي الرؤوس، يحاضرهم، وهو جاهل، ويوبخّهم، وهو أقل منهم جميعاً علماً وشأناً. تماما مثلما الحال مع الديكتاتور كيم جونغ أون، حاكم كوريا الشمالية. فالديكتاتور الشاب لا يفقه شيئاً سوى ألعاب "الفيديو جيم"، لكنه يتصرف أمام مرؤوسيه كما لو كان "قائداً" محنكاً وجنرالاً ذا خبرة واسعة.
وفي حين أن كثيرين من هؤلاء يدركون أن الجنرال لا يمتلك قدرات حقيقية، وربما يتندرون عليه فى مجالسهم الخاصة، إلا أنهم لا يجرؤون على انتقاده علناً أو التقليل من شأنه أمام العامة، خوفاً من العقاب أو رغبة في الحفاظ على مناصبهم ومكاسبهم. في حين أصاب بعضهم الصلف والغرور إلى درجة لا يعترفون فيها بخطأ دعمهم الرجل.
أذكر أنني تحدثت مع أحد الرموز الفكرية والسياسية المعروفة في مصر، عقب انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، ووجدته متيماً مأسوراً بالجنرال السيسي، معتبراً إياه امتداداً لمحمد علي، وأنه سوف يسير على نهجه، ويعيد بناء مصر من جديد.
ولكن قبل أسابيع، سمعت من أصدقاء أنه ليس راضياً عن الوضع القائم، بل ويرى أن الجنرال يأخذ البلاد نحو كارثة أسوأ من حكم مبارك. وعلى الرغم من ذلك، لم يعترف بخطئه، أو يندم على دعمه له، في تناقض عجيب.
حتى بعض الذين دعموا السيسي وكانوا "بوقاً" لا يتوقف عن ترويجه قبل الرئاسة، بدأوا في التململ والضجر من سلوكه وأفعاله.
وقبل شهور قليلة، اشتكى بعضهم سراً من تجاهل الجنرال لهم، واعتماده الكبير على أهله وعشيرته من الجنرالات.
يعتبر هؤلاء المحسوبون على النخبة جزءاً أصيلاً من أزمة السياسة في مصر.
وهم يمثلون إرث دولة "الباشا" محمد علي، الذي لم يتبق منه سوى المفهوم القهري للدولة المتغلبة، والسلطة الغاشمة التي تعامل مواطنيها باعتبارهم مجرد رعايا، أو "موضوعة" لهيمنتها وقوتها، وليسوا مواطنين ذوي حقوق ومصدراً لشرعية الدولة ومقراً لإرادتهم العامة. وهم، أيضاً، امتداد لنخبة "الجنرال" عبد الناصر التي استمرأت مداهنة السلطة، وصمتت على قمعها وعنفها، رغباً أو رهباً.
وهي النخبة نفسها التي كانت تُدار، ولا تزال، بتلفون من ضابط صغير في جهاز "أمن الدولة" طوال عهد مبارك، فلما قامت الثورة "ركبوها"، وتقمصوا شخصية الثوار، إلى أن جاء الانقلاب، فأحنوا ظهورهم للسلطة، لكي تفعل بهم ما تشاء.
لا عجب، إذن، أن يصمت هؤلاء على جرائم الدولة وعنفها، فهي، بالنسبة إليهم، ليست دولة مسؤولة، يجب أن تُحاسب، وإنما "بقرة مقدسة"، يجب أن يُقدّم لها المجتمع كقربان، لكي تحيا وتتوحش.
* أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية.
عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية،
وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق