الأربعاء، 7 يناير 2015

الأزهر والسلطة

الأزهر والسلطة
إحسان الفقيه


قالها (دي لاجونكيير) أحد ضباط الحملة الفرنسية على مصر، عن ثورة القاهرة الأولى:

(كانت الدعوة إلى الثورة تختلط جهارًا بأذان المؤذّنين، يدعون إليها خمس مرات في اليوم مع كل صلاة).

وقال المؤرخ الإنجليزي كريستوفر فرهيرولد:

( كان الأزهريون هم قادة الوطنية والفداء، وتزعّم الثورة يوم نشوبها عالم أزهري شاب هو الشيخ بدر القُدسي، فقد نزل إلى الشارع وخطب في جمع غفير من الناس داعيًا كل مؤمنٍ بالله أن يذهب إلى الجامع الأزهر).

وقُل للزمن ارجع يا زمن!
رغم أن الأزهر الشريف أنشئ لنشر التشيع باعتباره مؤسسة فاطمية أقامها بنو عبيدة، إلا أنه تحول إلى مؤسسة لنشر السُنة والحفاظ عليها، بعد أن تمكن صلاح الدين الأيوبي من طرد الفاطميين وإسقاط دولتهم بمصر.

ومنذ ذلك الوقت، صار الأزهر مؤسسة علمية جامعة، وامتدّ دوره لأبعد من ذلك بكثير، حيث مضى يترجم المنهج الإسلامي الشامل الذي لا يفرق بين إصلاح القلوب والأخلاق والقيم وبين إصلاح الحياة السياسية ومحاربة الظلم والاستبداد والفساد.

فمن الأزهر
 كانت تنطلق الاحتجاجات ضد ظلم الولاة، وقد بلغ تأثير علماء الأزهر في الحياة السياسية حدّ استجابة السلطان العثماني لمطالبهم بعزل الولاة الجائرين في مصر.

ومن الأزهر
كانت تنطلق الثورات ضد المُحتلّ المستعمر، والثورة الأولى التي أشعلتها القيادات الأزهرية ضد حملة بونابرت على مصر كانت خير شاهد، ولم يُثنهم عنها مسالك التودد التي اتخذها القائد الفرنسي.

وسيظل إقدام الشاب سليمان الحلبي الذي تلقى تعليمه في الأزهر على قتل القائد الثاني للحملة (كليبر) دليلًا على امتداد تأثير الأزهر إلى البلدان الإسلامية، حيث جعل منها لحمة واحدة لا تفصلهم حدود ولا أرض، حيث التعامل بشعور الأمة الواحدة.

ومن الأزهر وحناجر عُلمائه كانت تنطلق كلمة الحق في وجه الحُكّام، فالذي أفتى بعدم صلاحية الخديوي توفيق لأنه باع مصر للغزاة كان شيخ الأزهر الإنبابي، وهو الذي أيد ثورة عرابي في نهايات القرن الـ19.

والذي آثر العزل من وظيفته على أن يمنح الملك فاروق فتوى بتحريم الزواج من الملكة بعد طلاقها كان شيخ الأزهر المراغي.

لقد بدأ انحياز الأزهر للسلطة وسقوطه في أحضانها مع ثورة العسكر في يوليو 1952، تمثل في مهاجمة خصوم عبد الناصر، إلا أنه طوال هذه الحقبة التي امتدت من زمن تلك الثورة إلى نهايات عصر السادات وبدايات حكم مبارك، كانت أصوات كثير من علماء الأزهر ما زالت قوية
 ،فشيخ الأزهر (جاد الحق) قد عارض التطبيع مع الكيان الصهيوني بعد تولي مشيخة الأزهر، ودعم بفتاواه المقاومة الفلسطينية والعمليات الاستشهادية، ومنع زيارة القدس قبل تحريرها، وأصدر الفتاوى بمنع فوائد البنوك واعتبارها من الربا.

ولكن، تميزت هذه الحقبة بصفة عامة بتسييس النظام الحاكم لتلك المؤسسة الدينية في مواجهة التيار الإسلامي، الذي كان يمثل المنافس التقليدي غير الرسمي للأزهر بما اكتسبه من شعبية جارفة في مختلف الأوساط، حتى صارت رموز ذلك التيار مرجعية لكثير من المصريين.

وكانت نقطة التحول الجذرية في اتجاه الأزهر نحو التماهي مع السلطة، والتي صار على إثرها أداة تنفذ سياسات النظام بوضوح تام لم يخف على العامة، هي بروز شخصية (الشيخ سيد طنطاوي) كمُفتٍ للبلاد في عهد شيخ الأزهر (جاد الحق).

كانت العلاقة بين (جاد الحق) والسلطة باردة، فجاء (طنطاوي) لمنصب الإفتاء ليقدم تسهيلات إفتائية تخدم أهداف النظام وسياساته، ووفر غطاء شرعيًا للنظام في ممارساته القمعية ضد الجماعات الإسلامية.

ثم واصل (طنطاوي) تماهيه مع النظام بعد تولي مشيخة الأزهر عام 1996..

فسمح لحاخامات اليهود بدخول الأزهر، واستجلب المعرة لمؤسسته العريقة عندما صافح شيمون بريز، وأفتى بجواز بناء الجدار العازل، وأصدر الفتاوى المفصلة على مصلحة النظام.

ولكن، لم يشهد الأزهر عهدًا كارثيًا مثلما شهده في فترة ولاية الشيخ (أحمد الطيب) هذا الرجل المتصوف الذي كان عضوًا في الحزب الوطني الديمقراطي وهو الحزب الحاكم، فكان أكثر مشايخ الأزهر تطويعًا للدين في خدمة السلطة.

لقد وصل الأزهر في عهد الطيب إلى أقصى حالات التماهي المتسلِّط، الذي قال عنه الدكتور مصطفى حجازي في كتابه “سيكولوجية الإنسان المقهور”:

(وأقصى حالات التماهي المتسلِّط تأخذ شكل الاستلاب العقائدي؛ ونقصد بذلك تَمَثُّل واعتناق قيم النظام، والانضباط والامتثال، وطاعة الرؤساء الكبار، وهي قيم تخدم -بما لا شك فيه- مصلحة ذلك المتسلِّط؛ لأنها تعزز مواقعه وتصون مكتسباته).

وقف الأزهر ممثلًا في شيخه ضد ثورة 25 يناير، جرّم التظاهر ضد النظام واعتبره خروجًا على الحاكم الشرعي، وبعد نجاح الثورة تعاطى مع الواقع الجديد وأوجد لنفسه دورًا في الحياة السياسية عن طريق تأسيس (بيت العائلة)، المُشكل من ممثلين عن الأزهر والكنيسة، وعقد جلسات للحوار مع القوى الوطنية لجمع الأطياف تحت وثيقة الأزهر.

ورغم أن الأزهر في عهد الرئيس المنتخب (محمد مرسي) قد بدأت ملامحه تتغير، وسطعت فيه النجوم التي أخفتها سطوة النظام السابق، إلا أن العلاقة بين (الشيخ أحمد الطيب) والسلطة المنبثقة من التيار الإسلامي كانت تتسم بالفتور؛ نظرًا لأن الرجل كان يمثل النظام القديم باعتباره من الوجوه البارزة في الحزب الحاكم.

ثم جاءت اللحظة التاريخية التي جلبت العار للمؤسسة العريقة: عندما شارك شيخ الأزهر (أحمد الطيب) في إذاعة البيان الانقلابي على الشرعية، بعد اجتماع هزلي مسبق مع القوى السياسية برئاسة (السيسي)، فكانت تلك المشاركة هي الغطاء الشرعي لهذا الانقلاب.

وبعد الانقلاب صارت الرموز الأزهرية وفتواهم وتصريحاتهم هي العصا التي يبطش بها النظام بمعارضي الانقلاب، فهي التي تبرر القمع تحت ستار محاربة الإرهاب خلال فترة مجازر رابعة والنهضة وما بعدها.

ومنذ انقلاب الثالث من يوليو 2013 وحتى هذه اللحظة، تعيش مصر في ظل حرب واضحة المعالم على الهوية الإسلامية، فصار الطعن في ثوابت الدين أمرًا معتادًا في وسائل الإعلام، وترك الحبل على الغارب لكلّ من يريد نقد قطعيات الدين والتشكيك في السنة، وصارت دعوات فجّة لعلمنة مصر، كل ذلك وأكثر يحدث في ظل صمت المؤسسة الأزهرية المنوط بها الدفاع عن شرائع وشعائر الإسلام.

وكان آخر حلقات الصمت الأزهري عن التطاول على الدين، في احتفالية المولد النبوي التي نال فيها زعيم الانقلاب من الإسلام، واعتبر أن النصوص الشرعية إطار ينبغي الخروج عليه وإعادة النظر فيه، وهو ذات ما يدعو إليه ليبراليو العرب الذين يئسوا من إقصاء القرآن فنادوا بإعادة قراءة النص، بمعنى إخضاعه للأسس العقلانية في النقد الغربي.

لقد فقد الأزهر دوره الأول منذ حقبة عبد الناصر والذي استلب هذه المؤسسة استقلالها المالي، فأنشطة الأزهر الواسعة كان تعتمد على الأوقاف التي يوقفها أهل البر من أراض ونحوها، بمعزل عن ميزانية الحكومة، وهو ما كان يضمن عدم المساس بالفتوى الدينية أو تطويع هذه المؤسسة العريقة لخدمة سياسات النظام وأهدافه، فقام عبد الناصر بسحب معظم أوقاف الأزهر من الأراضي الزراعية وأصدر قانون 1961، وبموجبه تم سحب أوقاف الأزهر مقابل إدراجه في الميزانية المعتمدة من الحكومة، حيث صار مؤسسة تابعة للدولة.

فتحول العمل بالأزهر من رسالة إلى مهنة ووظيفة، يتلقى فيها العالم أو الخطيب أو الداعية راتبه من حكومته والذي بالطبع لا يكفيه، فكان الارتماء في أحضان النظام وسيلة لبعض الأزاهرة لتحسين أوضاعهم المعيشية عن طريق التوافق مع سياسات الحكومة.

وفقد الأزهر دوره الأول في هذه الحقبة بأن صار تعيين شيخ الأزهر بقرار جمهوري، ومن ثم أجهضت حقوق الكفاءات في الترشح لهذا المنصب الشامخ.

فمنصب شيخ الأزهر منذ نشأته رسميًا (عام 1101هـ-1690م) كان يتم الترشح إليه عن طريق اتفاق علمائه، ثم يتم إخطار الوالي العثماني بذلك، ثم تغير نظام تعيينه في أوائل القرن العشرين حيث صارت هيئة كبار العلماء هي الجهة التي تُعيّن شيخ الأزهر.

إن هذا التلاعب في استقلالية الأزهر عن طريق سلبه أوقافه وخصوصيته في اختيار الكفاءات، جعله محلًا للتنافس في التزلّف للنظام الحاكم، وتصدَّر لقيادته من باع الدين بعرض من الدنيا قليل؛ ولذا، لا تسلْ عن مناهج التعليم التي يتم مسخها من آن لآخر، ولا عن فتاوى التضليل التي تصدر من رموز الأزهر من آن لآخر.

وثمة نقطة هامة تدعم قابلية الأزهر بشكله الحالي للتسييس، وهي وجود توجهات عديدة داخل الأزهر، فإطار المؤسسة فضفاض يتسع لأطياف واتجاهات مختلفة، أبرزها التصوف والذي يناصب التيار الإسلامي العداء نظرًا للخلاف العميق بينهما في عدة جوانب، فيخدم هذا الاتّجاه طواعية سياسات النظام القمعية ضد الإسلاميين.

كما أنه لم يعد يخفى وجود تيار شيعي داخل الأزهر يدعو بل ويمارس التقارب مع المرجعيات الشيعية، وأصحاب هذا الاتجاه -شأنهم شأن سائر أذناب عمائم قم- مدفوعون بمفردات خطة إيرانية خمسينية لإقامة مشروعها الصفوي، يساندون في بعض مراحلها النظام الحاكم ضد الشعوب ومكوناتها المُعارِضة.

بل إن الأزهر يضم اتجاهات تغريبية وأخرى متأثرة بما أطلق عليه الإسلام الليبرالي؛ لذا، لن نبالغ في القول بأن هذا التنوع يسهل للسلطة تطويع هذه المؤسسة لسياستها مهما تعددت ومهما تلونت، عن طريق إبراز الشخصيات المناسبة لاتجاه السلطة، فإذا اتجهت السلطة على سبيل المثال للتقارب مع إيران وفتح الأبواب أمام المد الشيعي ستجد الدعم المناسب.

وإننا إذ نتناول قضية تسيس الأزهر، فلا يمكننا إغفال حقيقة هامة، وهي أن الأزهر كان ولا يزال زاخرًا بالعلماء العاملين المخلصين الغيورين على دينهم ووطنهم، ويمثلون اتّجاهًا معارضًا داخل المؤسسة الدينية، ومواقفهم مُشرّفة، إلا أن هؤلاء مُكبّلون بسيطرة القيادات المسيسة المرتبطة بالنظام الحاكم.

ومهما تعددت الأطروحات لاستعادة الأزهر لمكانته الأولى، سيجبرنا استقراء التاريخ المعاصر، وقراءة الواقع السياسي على القول بأن إصلاح الحياة السياسية أولًا هو السبيل لعودة الأزهر.

وفي النهاية أقول:

إن مصر بل والعالم الإسلامي، لن ينهض من سُباته حتى ترجع هذه المؤسسة العريقة إلى سابق عهدها كمنارة للإسلام، فتلك حقيقة يعرفها القاصي والداني، وهو ما حدا بـ”ريتشارد سكوتي” أحد مستشاري الخارجية الأمريكية السابقين إلى أن يقول: (هذه المؤسسة تعادل وضع الفاتيكان في أوروبا).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق