عادل القاضي – التقرير
قبل ثورة 25 يناير حرص الرئيس الأسبق حسني مبارك، ورغم أنه عسكري سابق على إضعاف دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، كما أضعفها أيضا حينما أنعش الاقتصاد الحر ودور رجال الأعمال، فأصبحت شركاتهم تنافس شركات المؤسسة العسكرية التي ظلت منتعشة منذ عهد الرئيس السابق جمال عبد الناصر؛ وذلك رغبة منه في تصعيد نجله (المدني غير العسكري)، لوراثة الحكم بعده لأول مرة منذ 1952 على حساب العسكريين.
لهذا؛ تراجع نفوذ الجيش في مصر بصورة كبيرة، وأصبح ضباط الجيش يعانون مثلهم مثل بقية الشعب من بطش أجهزة الشرطة القوية التي أعطاها مبارك مزايا على حساب الجيش، ونشرت الصحف وقائع عديدة لاعتداء ضباط شرطة على ضباط جيش واعتقالهم لأسباب تتعلق بخلافات ثنائية أو قضايا مرورية أو غيرها.
ولذلك؛ جاءت ثورة 25 يناير 2011 وانكسار الشرطة المصرية لتعطي المؤسسة العسكرية الفرصة لاستعادة نفوذها القديم، حتى إن الاعتداء على مقار جهاز أمن الدولة تم تحت إشراف مدرعات الجيش التي تركت المتظاهرين يخرقونها وينهبون ما بها من مستندات، طالبتهم لاحقًا بتسليمها للمخابرات الحربية.
ولأن الجيش هو الذي حمى الشرطة ولا يزال يساندها ويحمي -بالدبابات- مديريات الأمن والسجون حتى هذه اللحظة، وهو الذي أعاد لها الثقة؛ فقد توقع أن يدرك ضباط الشرطة “حجمهم” مقارنة بحجم ونفوذ الجيش، ولكن عودة الشرطة إلى سابق عنفها وبطشها لم تسلم منه المؤسسة العسكرية مرة أخرى، وعادت الصحف لتنشر اشتباكات بين أفراد من الجيش والشرطة.
ولكن، هذه المرة كان رد فعل الجيش عنيفًا ومتعمدًا وضع الشرطة في حجمها ونقل رسائل مباشرة لقادتها أن الجيش هو صاحب الكلمة العليا، وأنه لولاه ما عادت الشرطة لتمارس نفوذها وتنال احترامها في الشارع مرة أخرى، فجاء رد الجيش على وقائع تحرش ضباط شرطة بضباط جيش، في صورة هجمات بالمدرعات على مقار للشرطة وحصارها والقبض على ضباط شرطة و”تكديرهم”، أي عقابهم بالوقوف في الشمس فترات طويلة مثلما يجري مع الجنود الصغار.
ومنذ انقلاب 3 يوليو 2013، وقعت قرابة خمسة أحداث اشتباك ومصادمات بين أفراد من الشرطة والجيش، استنفر فيها الجيش قواته وحصار مقار الشرطة وخرج منها منتصرًا؛ ما أغضب الشرطة، ولأول مرة تشهد مصر هتافات بين الطرفين مثل: (يسقط يسقط حكم العسكر) و(الداخلية بلطجية)!
ففي مساء الثلاثاء 14 أبريل الماضي وقعت مشادات بين ضابط طيار في الجيش وأفراد من قوات شرطة المرور بمحافظة المنوفية شمال مصر، على خلفية مطالبة شرطة المرور لضابط الجيش بإبراز رخصة سيارته، ورفضه بحجة أنه “طيار بالجيش”، تبادل على إثرها الطرفان الشتائم وتم القبض على ضابط الجيش ونقله لقسم الشرطة، وعلى الفور حضرت قوة من الشرطة العسكرية حاصرت قسمي شرطة بالمحافظة بالقوة، وأغلقت مبنى مجمع المحاكم في مدينة شبين الكوم واشتبكت مع قوات الشرطة ومنعتهم من الخروج لحين تسليم ضابط الشرطة الذي أهان ضابط الجيش للتحقيق معه بمعرفة النيابة العسكرية بدعوى اعتدائه على ضابط جيش.
وعندما رفض وكيل النيابة التحقيق في الواقعة، وقال إنها تابعة للنيابة العسكرية وطلبت الشرطة العسكرية أخذ ضابط الشرطة معها للتحقيق معه، قام عدد كبير من الشرطة بالتصدي لهم ومنعهم وإغلاق المبنى والتجمهر أمامه.
وفي واقعه غريبة هتف أفراد الشرطة في قسم ومركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية، بعد حصار الشرطة العسكرية لهم للقبض على ضابط الشرطة: “يسقط يسقط حكم العسكر.. وحسبنا الله ونعم الوكيل“، وردت عليهم قوات الشرطة العسكرية التابعة للقوات المسلحة بهتاف الثوار الشهير في ميدان التحرير: “الداخلية بلطجية“.
واستدعى تفاقم الأزمة توجه قائد المنطقة المركزية العسكرية، عضو المجلس العسكري، إلى المحافظة بعد قيام عناصر من الجيش بمحاصرة قسم بندر شبين الكوم بالمدرعات والأسلحة الثقيلة، وعقب تصاعد الأزمة وتدخل مسؤولين “رفيعي المستوي”، قال محافظ المنوفية إنه تم الاتفاق على إنهاء أزمة المشاجرة بين الطرفين باستكمال التحقيقات وسير الإجراءات القانونية دون اعتقال الجيش لضابط الشرطة، بدعوى أن مصر في حالة حرب مع الإرهاب.
سبق وتكرر هذا المشهد في مارس 2014، حينما وقعت مشاجرة كبيرة بين قوات الشرطة في قسم إمبابة وقوات الجيش المتمركزة أمام القسم لحمايته، وتبادل الطرفان إطلاق الرصاص،
وقالت مصادر أمنية: “إن السبب كان اعتداء أمين شرطة على مجند بالجيش“، واشتعلت الأحداث لتطلق قوات الجيش قنابل الغاز على قوات الشرطة التي تحصن أفرادها داخل القسم، لنرى واحدًا من أكثر المشاهد طرافة، حين هتف العشرات من رجال الشرطة أيضًا: “يسقط يسقط حكم العسكر“.
اشتباكات في الإسكندرية
وتكررت الواقعة في محيط قسم محرم بك بمحافظة الإسكندرية، مساء الثلاثاء 11 نوفمبر الماضي أيضًا، حيث وقعت اشتباكات بين قوات الجيش والشرطة، على خلفية معركة كلامية بين نائب مأمور قسم الشرطة وأحد ضابط البحرية؛ قام على إثرها نائب المأمور باحتجاز ضابط البحرية في القسم، ليتفاجأ بعدها بدقائق بحضور مجموعة كبيرة من ضباط البحرية وأفراد من الشرطة العسكرية وحاصروا القسم من جميع الاتجاهات.
وقامت القوات البحرية بإغلاق الشارع أمام القسم، ووقعت اشتباكات بينهم وبين أفراد الشرطة أسفرت عن إصابة أمين شرطة؛ إلا أن عددًا من المسؤولين، تدخلوا على الفور وأنهوا الشجار الذي كاد أن يتطور، وتم إخلاء سبيل ضابط البحرية، وعاد جميع أفراد القسم مباشرة إلى عملهم.
الجيش يُكِّدر الشرطة في بورسعيد
أيضًا، في 13 أكتوبر الماضي وقعت مشاجرة في كمين أمام بوابة تحصيل الرسوم بالكيلو 40 طريق «بورسعيد-الإسماعيلية»، بين ضابط جيش وضابط الشرطة المسؤول عن الكمين، بعد تعدي ضابط الشرطة لفظيًا على ضابط الجيش وزوجته، فأبلغ ضابط الجيش الشرطة العسكرية التي تحركت إلى الموقع واقتادت أفراد قوة الكمين من الشرطة إلى أحد معسكرات الجيش لتكديرهم (عقابهم بلغة التدريبات العسكرية).
وأظهرت الصور التي نشرتها مواقع تواصل ضابط مباحث و4 أفراد شرطة وهم يقفون في “طابور تكدير”، بعدما أهانتهم قوات الشرطة العسكرية، وأجبرتهم على الوقوف في طابور دون حراك لفترة طويلة داخل معسكر للقوات المسلحة.
وفي القاهرة أيضًا، حدثت وقائع مماثلة في أوقات مختلفة، من بينها قيام ضابط شرطة بمعاملة ضابط جيش بطريقة اعتبرها الأخير غير لائقة، أثناء استيقافه في كمين أمني، لتقوم بعدها قوات من الجيش محاصرة شرطة ثاني القاهرة الجديدة، وحطم ضباط من الجيش بعض سيارات الشرطة، وتدخلت قيادات في الجيش في الأزمة وتم تداركها.
كما شهدت مدينة بورسعيد أيضًا اشتباكات مماثلة في شهر مارس 2013، في أعقاب وفاة مجند جيش؛ بسبب إطلاق قوات من الشرطة الرصاص عليه بطريق الخطأ، أثناء فض تظاهرة شعبية، وتبادلت قوات الجيش والشرطة إطلاق الرصاص.
صراع نفوذ مستمر
وبحسب مراقبين، فإن تزايد حالات الاشتباك والشجار بين قوات الشرطة والجيش التي تزايدت عقب انقلاب 3 يوليو 2013، يكشف حجم توتر العلاقات بين المؤسسة العسكرية ووزارة الداخلية وصراع الطرفين لإعلاء كلمة وسلطة كل طرف على الآخر، وانهيار شعار “الجيش والشرطة إيد واحدة”، حيث سعت الشرطة قبل ثورة 25 يناير لإعلاء كلمتها على الجيش، وكانت الثورة فرصة للجيش لإعادة نفوذه على الشرطة مرة أخرى.
وكشف تكرار تلك الحوادث من حين لآخر، وتحديدًا منذ قيام ثورة 25 يناير، عن صراع نفوذ حقيقي بين جهازي الأمن في مصر “الجيش والشرطة”، لكنه يظل حتى الآن صراعًا مكتومًا يتم تحويله فيما يظهر منه لمشاجرات فردية، ومحاولة لتداركه.
ويرى مراقبون أن السر في ذلك هو انكسار شوكة ضباط الشرطة ووزارة الداخلية بشكل عام عقب ثورة يناير، وقيام ضباط الجيش بتأمين ضباط الشرطة داخل أقسامهم، بعد أن كانت الداخلية وجهاز أمن الدولة من لهم الكلمة الأولى والأخيرة في عصر الرئيس الأسبق مبارك، وكان ضباط الشرطة يعتقدون دائمًا أنهم أعلى من القوات المسلحة؛ إلا أن الثورة أسقطت تلك الأسطورة، واستغل الجيش الثورة ليفرض نفوذه على الداخلية عقب ثورة يناير.
وبعد انقلاب 3 يوليو 2013 وعزل المؤسسة العسكرية بقيادة السيسي للرئيس السابق الدكتور محمد مرسي، وسيطرة القوات المسلحة على مقاليد الأمور، وشعور ضباط الجيش بتعاظم نفوذهم على كل الأجهزة في مصر خاصة مع تملكهم للضبطية القضائية، وتزايد ردع الجيش للشرطة، وأخذت حوادث الاشتباكات بين قوات الشرطة والجيش تتزايد، وهو ما يفسره البعض بانتقام قوات الجيش مما كان يفعله بهم ضباط الشرطة في عهد مبارك.
وازدادت حدة الصراع بين الطرفين بعد تولي المشير السيسي رئاسة الجمهورية، حيث أصدر قرارًا يقضي بالتعامل مع كافة المؤسسات الدولة على اعتبار أنها مؤسسات عسكرية ممنوع الاقتراب أو المساس بها؛ ما أعطى الجيش صلاحيات أوسع داخل البلاد، كما أعطى الجيش الضبطية القضائية التي تعطيهم حق اعتقال المدنيين والشرطة مثلهم مثل الشرطة.
ويرى المراقبون أنه بالرغم من محاولات السلطات إظهار الوحدة دائمًا بين قوات الجيش والشرطة، خاصة في قمع المعارضين وتيارات الإسلام السياسي؛ إلا أن تلك الأحداث وغيرها تؤكد أن تغييرًا كبيرًا سيطرأ على المشهد السياسي والأمني في مصر إذا ما استمرت حدة التوترات بين الجيش والشرطة في مصر بهذه الطريقة.
جمهوريات الموز
وأثارت الواقعة الأخيرة وغيرها من المشادات الحادثة بين ضباط الجيش والشرطة، تعليقات غاضبة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث قال محمد أبو هريرة المتحدث باسم التنسيقية المصرية للحقوق والحريات: “حينما تحكم الدولة عصابة فهذه هي النتيجة الطبيعية.. خناقة بين الشرطة والجيش وحصار وغلق للأقسام، هذا لا يحدث إلا في جمهوريات الموز“.
وأصدر تحالف القوى الثورية بالمنوفية بيانًا حول الأزمة أدان فيه تجاوزات المسؤولين الذين من المفترض أن يلتزموا بالقانون، وليس استغلال نفوذهم بهذا الشكل المتدني، وأشار إلى أن الشرطة العسكرية حاصرت مديرية أمن المنوفية وتعمدت إذلال مدير الأمن واحتجزته مع كبار الضباط داخل مكاتبهم؛ ما تسبب تمردًا في صفوف الجنود وأمناء الشرطة الغاضبين من عجز قياداتهم عن حمايتهم.
ولم يخل الأمر من تعليقات طريفة -كعادة المصريين-؛ فقال حسام حبشي: “يا جماعة عيب كده، ده انتو واكلين سارقين قاتلين مع بعض، ولا بيتمر فيهم اللقمة الحرام يا جدع“.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق