الأربعاء، 6 يناير 2016

بداية نهاية “الشرق الأوسط الجديد”

 بداية نهاية “الشرق الأوسط الجديد”




بقلم : أنور عبد الله الرواحنة
باحث مختص في إدارة النزاعات ورسم السياسات

كان ظهور مشروع “الشرق الأوسط الجديد” (أو “الشرق الأوسط الكبير”)، بشكل ملفت، في عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الابن، بهدف تشجيع الإصلاحات السياسية والاقتصادية في العديد من دول الشرق الأوسط، الذي ما لبث أن تحول فيما بعد إلى مشروع يستهدف الدول العربية والإسلامية عموماً من أجل الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على تلك الدول، بطريقة أو بأخرى، خاصة في ظل صعود نجم سياسة “حركة المحافظين الجدد” القائمة في الأغلب على أسس نظرية “الفوضى الخلاقة”، الأمر الذي نجح نسبيًّا في عدد من الدول، خاصة في دولتي أفغانستان والعراق، بحجة “الحرب على الإرهاب”.

بعيداً عن فرضية فيما إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية فعلاً قد “أنهت” أو “أجلت” مشروع “الشرق الأوسط الجديد”،وبعيداً عن فرضية “وصول” أو “إيصال” باراك أوباما إلى البيت الأبيض (لغايات تحسين صورة الولايات المتحدة الأميركية في الخارج)، وبعيداً عن فرضية “تصادم الحضارات” التي أسس لها صامويل هنتنغتون، وبعيداً عن فرضية “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” التي أسس لها فرانسيس فوكوياما، في الحقيقة، كما يعلمنا التاريخ، لم يصادف أن قامت الإمبراطوريات القوية بالتنازل طوعاً عن مخططاتها في السيطرة والهيمنة والتوسع، الأمر الذي يؤكده في الزمن الحديث نسبياً طبيعة سياسات الإمبرطوريات الاستعمارية الأوروبية مع حركات التحرر والاستقلال العربية والإسلامية، والذي يؤكده أيضاً في الزمن المعاصر طبيعة سياسات الإمبراطورية الأميركية (وريثة الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية) مع ثورات الربيع العربي التحررية.
فعلى سبيل المثال، بعد وصول الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى البيت الأبيض، اعتقد العديد من الأطراف الإقليمية والدولية، خاصة العربية والإسلامية منها، أن الولايات المتحدة الأميركية ستغير من طبيعة سياسة الهيمنة التي كانت متبعة في السابق، خاصة في عهد إدارة جورج بوش الابن، وهو الأمر الذي لم يحدث، كما تشير طبيعة سياساتها أو تعاملها مع تطلعات شعوب دول الربيع العربي.

ولكن ظهور عدد من العوامل أو المتغيرات (المستقلة والتابعة) عقب التدخل العسكري الأميركي في أفغانستان والعراق، أدى إلى إرباك مخططات الولايات المتحدة الأميركية، تحديداً في تنفيذ مشروعي “الشرق الأوسط الجديد” و”الحرب على الإرهاب”.
في الحقيقة.. ظهور تلك العوامل كاد أن يشكل تهديداً نسبياً على مصالح أمن الولايات المتحدة القومي وهيمنتها، منها على سبيل المثال:

أولاً: ارتفاع وتيرة “حركات المقاومة المسلحة” ضد القوات الأميركية والمتحالفة معها في أفغانستان والعراق، بغض النظر عن خلفية تلك الحركات ودوافعها.

ثانياً: اندلاع شرارة ثورات الربيع العربي في مطلع عام 2011 وخسارة بعض الرؤساء العرب الفاعلين في مشروعي “الشرق الأوسط الجديد” و”الحرب على الإرهاب”، تحديداً الرؤساء التونسي زين العابدبن بن علي، والمصري حسني مبارك، والليبي معمر القذافي، واليمني علي عبد الله صالح.

ثالثاً: نسبياً، ازدياد شعبية تيارات “الإسلام السياسي المعتدل” في دول الربيع العربي، تحديداً بعد وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر وبوادر ولادة تحالف جديد بين مصر محمد مرسي مع تركيا أردوغان.

رابعاً: نسبياً، ازدياد تعاطف العديد من شعوب المنطقة والعالم، بما فيها شعوب أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، مع تطلعات شعوب دول الربيع العربي وتضحياتها في سبيل التحرر والحرية من الظلم والاستبداد.

كيف تم “أرهبة” ثورات الربيع العربي؟

مما لا شك فيه.. نجاح ثورات الربيع العربي يعني بكل تأكيد تراجع هيمنة الإمبراطورية الأميركية على أقل تقدير، بشكل مباشر وغير مباشر؛ لذلك سعت، وما زالت تسعى، الأطراف الإقليمية والدولية التي تضررت من “الموجة الأولى” من ثورات الربيع العربي، خاصة الولايات المتحدة الأميركية، وذلك بتوحيد مواقفها وإعادة تموضعها وتحالفاتها سياسياً وعسكرياَ لإسقاط مخرجات “الموجة الأولى” من ثورات الربيع العربي بواسطة ما يسمى بـ”الثورة أو الثورات المضادة”، وذلك بعد أن نجحت في تنفيذ مجموعة من السياسات المضادة الممنهجة والمتدرجة، منها على سبيل المثال:

أولاً: العودة إلى سياسة “صناعة الإرهاب وتوظيفه” ضمن صورة نمطية، من خلال إلصاقه بالمسلمين عامة والعرب خاصة، كما حدث أثناء عهد جورج بوش الابن بما يتعلق بحملة “الحرب على الإرهاب” عقب أحداث 11سبتمبر/أيلول 2001 (وما أشبه اليوم بالبارحة).
بمعنى أدق، لقد نجحت أطراف “الثورة المضادة” في الترويج سياسياً وإعلامياً لخطر “التهديدات الإرهابية” التي يمكن أن تشنها بعض الفصائل والجماعات (الدخيلة) المشاركة في ثورات الربيع العربي، مستغلة بذلك ظهور “تنظيم الدولة الإسلامية” (المعروف باسم “داعش”)، علماً أن هناك العديد من الأسئلة وإشارات الاستفهام التي طرحها العديد من المختصين والمحللين حول طبيعة ذلك التنظيم (بالإضافة لبعض التنظيمات الأخرى)، أكان من حيث ظهوره، أو تأسيسه، أو عضويته والانتساب إليه، أو سرعة انتشاره وتمدده، أو طبيعة العمليات غير الإنسانية التي تستهدف في الأغلب “أهل السنة” ومناطقهم ودولهم وتطلعات شعوبهم في التحرر والحرية، خاصة في سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا، أي دول الربيع العربي بشكل عام، ناهيكم عن توقيت عمليات التنظيم التي ضربت وهددت بعض الدول الأوروبية، خاصة في فرنسا وبلجيكا، التي طرحت أيضاً العديد من التساؤلات حولها.

ثانياً: “أرهبة حركات الإسلام السياسي المعتدلة”، بالأخص حركة “جماعة الإخوان المسلمين”، من خلال التأسيس لبناء صورة نمطية لدى العديد من شعوب المنطقة والعالم تفقدها القدرة على التمييز بين “تنظيم الدولة الإسلامية” و”حركات الإسلام السياسي المعتدلة”، خاصة في دول الربيع العربي، الأمر الذي مهد بعد ذلك إلى اعتقال قياداتها وملاحقتهم.. وغير ذلك من تشويه لصورتها بطريقة أو بأخرى (وتقرير الحكومة البريطانية موخراً حول جماعة الإخوان المسلمين أكبر دليل على ذلك). سياسة “أرهبة حركات الإسلام السياسي المعتدلة” جاءت على إثر الدور الفاعل الذي لعبته في التأثير على مخرجات “الموجة” الأولى من ثورات الربيع العربي، خاصة في مصر وتونس، بالإضافة إلى كونه سياسة أو إجراء وقائي ضد أي تحركات قد تقوم بها في المستقبل القريب لإسقاط “الثورة المضادة”.

ثالثاً: “أرهبة ثورات الربيع العربي” وذلك من خلال توظيف ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (المثير للجدل) وعملياته غير الإنسانية بحق العرب والمسلمين والأجانب المختطفين من قطع للرؤوس وحرق للبشر، الذي نجح نسبياً في توحيد المعنى الدلالي في أذهان العديد من شعوب المنطقة والعالم بين مصطلحَيْ أو مفهومَيْ “ثورات الربيع العربي” و “الإرهاب”.
كنتيجة لسياسات “صناعة الإرهاب وتوظيفه” و”أرهبة حركات الإسلام السياسي المعتدلة”، وبالتالي “أرهبة ثورات الربيع العربي”، نجحت الأطراف الإقليمية والدولية المتضررة من ثورات الربيع العربي في تحويل مشاعر نسبة ليست بالقليلة للعديد من أفراد شعوب المنطقة والعالم من “التعاطف” مع ثورات الربيع العربي إلى “سخط” عليها، بل وصل الأمر إلى عدم اكتراث أيضاً نسبة ليست بالقليلة من أفراد شعوب المنطقة والعالم لما يجري بحق شعوب دول الربيع العربي من انتهاكات لحقوق الإنسان وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، كما يحدث من صمت عن الانتهاكات والجرائم المرتكبة ضد شعوب سوريا، ومصر، وليبيا، واليمن والعراق.

رابعاً: “أرهبة الدول الداعمة لثورات الربيع العربي”، خاصة تركيا وقطر، وذلك من خلال مجموعة من السياسات الممنهجة، منها على سبيل المثال:
(1) قيام كل من إسرائيل ومصر والإمارات بشن حملات إعلامية ودبلوماسية وسياسية مكثفة ضد كل من تركيا وقطر متهمة إياهما بدعم “الإرهاب”، على المستويين الإقليمي والدولي، بطريقة مباشرة وغير مباشرة.
 (2) تصريح الرئيس الروسي، فلادمير بوتين، على هامش “قمة أنطاليا” التي عقدت في تركيا مدعياً بوجود بعض الدول المشاركة في القمة ممن يدعمون “الإرهاب” (الذي فسره بعض المحللين بأن المقصود به كان تشويه صورة تركيا والسعودية)، ناهيكم عن محاولته “أرهبة” القيادة التركية زاعماً أنها تقوم بـ”أسلمة تركيا” ودعم “التنظيمات الإرهابية” والتعامل معها، خاصة تنظيم الدولة الإسلامية، الأمر الذي تخالفه الحقائق على الأرض.

بطريقة أو بأخرى، لقد أثرت سياسات أطراف “الثورة المضادة”، ولو مرحلياً أو نسبياً، على مجريات ثورات الربيع العربي، أقلها نجاحها النسبي في العودة مجدداً إلى أجواء “الحرب على الإرهاب”، كتلك التي بدأت عقب أحداث سبتمبر/أيلول 2001، بطريقة أو بأخرى، ضمن سياسات مبرمجة، يؤكدها مؤخراً، على سبيل المثال:

أولاً: فرنسا توظف أحداث “تفجيرات باريس” لتبرير ثلاثة مواقف رئيسية هي:
 (1) تحالف فرنسا مع روسيا في سوريا (الذي من شأنه أن يمهد الطريق لاستهداف تطلعات الثورة السورية، بطريقة أو بأخرى).
 (2) دعوة فرنسا إلى إشراك النظام السوري في عمليات “مكافحة الإرهاب” (الذي من شأنه أن يمهد الطريق إلى إعادة تأهيل بشار الأسد وشرعنة حكمه في سوريا، أو ربما شرعنة حكمه لاحقاً في دولة علوية منفصلة).
(3) إيجاد تبرير أمام الرأي العام الأوروبي عامة والبريطاني خاصة لتشجيع البرلمان البريطاني على الموافقة على شن ضربات في سوريا بحجة “مكافحة الإرهاب”، تضامناً مع فرنسا “المجروحة”.

ثانياً: روسيا تزيف الحقائق وتوظف حادثة إسقاط الطائرة الحربية الروسية لتبرير تقديم الدعم السياسي والعسكري إلى بعض الحركات الكردية الانفصالية، خاصة حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، المعروف عن تعاونه مع حزب العمال الكردستاني، ناهيك عن استقبالها رئيس حزب الشعوب الديمقراطي المعارض، صلاح الدين دميرطاش، الذي قد يمهد لزعزعة استقرار تركيا كونها أكبر وأكثر الدول الفاعلة في دعم ثورات الربيع العربي عامة، والثورة السورية خاصة.

ثالثاً: بريطانيا توظف أحداث “تفجيرات باريس” وحالة الطوارئ التي أعلنتها بلجيكا (التي تزامنت مع “تفجيرات باريس”) لتعلن عن مشاركتها في حملة “مكافحة الإرهاب” في سوريا.

رابعاً: ألمانيا توظف سعيها في “مكافحة الإرهاب” في سوريا بالإعلان عن التنسيق استخبارياً مع نظام بشار الأسد.

خامساً: عدم اكتراث أميركي تجاه انتهاكات حقوق الإنسان، خاصة المتعلقة ضد شعوب دول الربيع العربي، بل وصل الأمر بعدم اكتراثها بجرائم بشار الأسد في سوريا وعبد الفتاح السيسي في مصر وخليفة حفتر في ليبيا، ناهيكم عن انتقادها “على استحياء” للهجمات الروسية ضد المدنيين السوريين وقصف قوات المعارضة السورية المعتدلة.

سادساً: الولايات المتحدة الأميركية تعلن عن تعاونها الاستخباري غير المباشر مع نظام بشار الأسد عبر أطراف أخرى بحجة “مكافحة الإرهاب”، الأمر الذي يطرح العديد من التساؤلات حول ذلك الموقف أو تلك السياسات من استمرار نظام بشار الأسد في المستقبل القريب.

ما المخططات المحتملة التي تنتظر المنطقة..؟
ألا وقد انقضت خمسة أعوام على انطلاقة ثورات الربيع العربي، على الأغلب، ستعمل الأطراف الإقليمية والدولية المتأثرة من نجاح ثورات الربيع العربي، خاصة الأطراف الغربية، على تكثيف التعاون فيما بينها وتوزيع الأدوار (إعادة تموضع سياسي وعسكري)، بشكل أو بآخر، من أجل إطالة أمد هيمنتها على المنطقة، من خلال تنفيذ بعض السياسات أو المخططات المحتملة في المديين القريب والمتوسط، منها على سبيل المثال:

أولاً: احتمالية استمرار حملة “مكافحة الإرهاب”، نوعاً ما وفقاً لنموذج “الحرب على الإرهاب” الذي ظهر عقب أحداث سبتمبر/أيلول 2001، الأمر الذي قد يمهد إلى تقسيم دول المنطقة والعالم مجدداً إلى معسكرين أو “فسطاطين” (مؤيد أو معارض)، أي إما مؤيد لثورات الربيع العربي أو معارض لها.

ثانياً: احتمالية العودة إلى أجواء “الحرب الباردة”، ولو نسبياً، تمهيداً لإسقاط أو احتواء روسيا وحلفائها في سوريا، بالإضافة إلى العمل على عزل تركيا عن ثورات الربيع العربي أو، في حالة الفشل، العمل على زعزعة استقرارها بشكل نسبي، بطريقة أو بأخرى، ليدفعها إلى عقد اتفاقيات وتسويات جانبية مع الأطراف الدولية الفاعلة، خاصة مع الأطراف الغربية، وهو الأمر الذي يفسره “الانفراج النسبي المفاجئ” في العلاقات التركية-الأميركية-الأوروبية في “قمة المناخ” العالمية التي عقدت في باريس، وذلك بعد تلقيها الوعود بالدعم والمساعدة (والذي من المرجح أنه جاء ضمن اتفاق ما غير معلن). على الأغلب، هذا الدعم “الانفراج النسبي المفاجئ” جاء وفق أسس برغماتية، نتيجة تقاطع المصالح التركية-الغربية، خاصة حول موضوعَيْ اللاجئين السوريين والتدخل العسكري الروسي في سوريا.

ثالثاً: تحصين العمق الإستراتيجي الأردني-الإسرائيلي المشترك تحسباً لأي ارتدادات سلبية ناجمة عن ثورات الربيع العربي، بالأخص في الجانب المتعلق في تحصين حدود الأردن من أي تأثير سلبي يؤدي إلى امتداد الثورة السورية إلى أراضيه، الأمر الذي من شأنه أن يزعزع استقرار الأردن، وبالتالي إلى زعزعة استقرار أطول خط مواجهة إستراتيجي مع إسرائيل.

رابعاً: في ظل سياسة “سعوديةِ الملكِ سلمان” المتوافقة مع سياستَيْ تركيا وقطر حول الثورة السورية، بالإضافة إلى سياسة الانفتاح النسبي للسعودية مع حركات “الإسلام السياسي المعتدل”، تحديداً مع الإخوان المسلمين وحركة حماس وحزب النهضة التونسي، ستعمل الأطراف المتضررة جزئياً أو كلياً من هذا التقارب على استنزاف السعودية في حربها الدائرة في اليمن، بطريقة أو بأخرى، إلى القدر الذي يعيقها عن التفاعل مع القضايا العربية بشكل عام والثورة السورية بشكل خاص، وبما لا يؤثر على تهديد إمدادات النفط إلى الغرب.

خامساً: استمرار دعم “الثورات المضادة” قدر الإمكان، بما يساعد على استنزاف الدول العربية بشكل عام ودول الربيع العربي بشكل خاص في نزاعات داخلية وقضايا ثانوية وهامشية، خاصة فيما يتعلق بإطالة أمد النزاعات في سوريا واليمن وليبيا وتونس والعراق، بنسب متفاوتة بما لا يؤثر على مصالح الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة والمعنية، خاصة إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.

سادساً: وضع خطط متوسطة وطويلة الأمد للتعامل مع النزاع السوري وما ترتب على موجات اللاجئين السوريين، الأمر الذي يشير إلى أن النزاع السوري من المرجح أن يستمر لسنوات قادمة.

سابعاً: وفقاً لنظرية الاعتمادية (Dependency Theory)، ستسعى الأطراف الدولية الفاعلة، خاصة الولايات المتحدة الأميركية والغرب (Center or Dominant States)، إلى السيطرة على عملية مخرجات ثورات الربيع العربي بما يتلاءم مع مصالح أمنها القومي وهيمنتها على المنطقة وثرواتها المادية والمعنوية إلى أبعد مدى ممكن بما يبقيها دولاً تابعة (Periphery or Dependent States).

هل سنشهد “نبوءة تصادم الحضارات” في المستقبل القريب..؟

تاريخياً، لقد كانت النزاعات أو “التصادم” بين الحضارات والأمم والدول والجماعات الحالة الطبيعية، بعكس السلام الذي كان الحالة الاستثنائية. وعليه، من المرجح أن يبقى النزاع العقائدي (أو الحضاري) بين العرب والمسلمين من جهة والغرب من جهة أخرى قائماً في المديين القريب والمتوسط على أقل تقدير مع أفضلية نسبية للمعسكر الغربي بشكل أو بأخرى.
وفقاً لما تشير إليه المعطيات السياسية والعسكرية الحالية، خاصة في تعامل الأطراف الدولية الفاعلة مع ثورات الربيع العربي، على الأرجح أن المنطقة تتجه إلى الت صادم لاعتبارات عديدة، منها على سبيل المثال:

أولاً: صعود اليمين المتطرف في الغرب عموماً وأوروبا خاصة واستهدافه للمسلمين، الذي سيشكل تهديداً على مسلمي الغرب عموماً في المستقبل القريب، بطريقة أو بأخرى، وبالتالي قد يمهد إلى التصادم بين مسلمي الغرب، خاصة مسلمي أوروبا، وبين المجتمعات والدول التي يعيشون فيها.

ثانياً: ازدياد المظالم الواقعة على شعوب المنطقة، أكان من قبل أنظمتها المدعومة من الغرب أو من قبل الغرب نفسه نتيجة تدخله في تقرير مصير تلك الشعوب والوصاية عليها، تحديداً من خلال تدخل الغرب في الثأثير على مخرجات ثورات الربيع العربي، كما هو الحال مع التعاون الروسي-الأميركي الذي يسعى إلى التأثير على مخرجات الثورة السورية وتقرير مصير الشعب السوري.

ثالثاً: ازدياد السياسات العدائية الروسية تجاه شعوب المنطقة، خاصة تجاه تركيا، التي قد تصل إلى مرحلة السعي إلى زعزعة استقرار تركيا، بالتعاون مع حلفائها في إيران والعراق والحركات والأحزاب الكردية الانفصالية في تركيا وسوريا، وهو الأمر الذي لن تقف تجاهه تركيا وحلفاؤها موقف المتفرج، آجلاً أم عاجلاً، بطريقة أو بأخرى.

رابعاً: على الأرجح، ستسعى روسيا وحلفاؤها، خاصة إيران، في القريب العاجل إلى توسيع نطاق تحالفتهم في المنطقة سياسياً وعسكرياً، بطريقة أو بأخرى، خاصة مع أكراد سوريا وتركيا وشيعة السعودية ودول الخليج وأنظمة الثورات المضادة في اليمن وليبيا وتونس، وذلك لتخفيف الضغط على الاحتلال الروسي لسوريا، وهو الأمر الذي لن يسمح به التحالف التركي-السعودي-القطري، بطريقة أو بأخرى. وعليه، من المرجح أن يسرع الاحتلال الروسي لسوريا باتجاه تمهيد الطريق إلى ظهور “النموذج التركي في سوريا” على غرار “النموذج الباكستاني في أفغانستان”، بالتعاون مع “التحالف الإسلامي” الذي تم تأسيسه، على الأرجح، لهذه الغاية.

خامساً: سيطرة روسيا الإستراتيجية، التي منها السيطرة الجيوسياسية، على سوريا والمنطقة سيهدد الأمن القومي الأميركي، وبالتالي تهديد هيمنة الإمبراطورية الأميركية على المنطقة لسنوات أو ربما لعقود قادمة، وهو ما لن تسمح به الإمبراطورية الأميركية، وريثة الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية، آجلاً أم عاجلاً.

سادساً: الحفاظ على أنظمة “الثورات المضادة”، خاصة في مصر وتونس وليبيا، له تبعات إستراتيجية مكلفة نسبياً في المستقبل المتوسط والبعيد، مالياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، الذي سيشكل في المحصلة عبئاً لا يستهان به على الأنظمة الإقليمية والدولية الداعمة للثورات المضادة.

الخلاصة، تاريخياً.. تعتبر منطقة الشرق الأوسط مسرح الحروب الضروس التي جرت على أراضيها ومن أجل الهيمنة عليها، الذي أدى إلى سقوط دول وأمم وإمبراطوريات وصعود أخرى، كسقوط إمبراطوريتَيْ فارس والروم وصعود الإمبراطورية الإسلامية قديماً، مروراً بـ”الحروب الصليبية” و”حروب المغول” التي أنهكت الإمبراطورية الإسلامية في العصور الوسطى، وصولاً في العصر الحديث إلى سقوط الإمبراطوريات الإسلامية العثمانية، والبريطانية، والفرنسية، والسوفيتية، في مقابل صعود الإمبراطوريات الأميركية، والصينية، والروسية، بعيداً عن التفاوت في “ميزان القوى” فيما بينها.
وعليه، السؤال هنا ليس إذا ما كنا سنشهد سقوط دول وصعود أخرى، أو إذا ما كنا سنشهد سقوط أو تقهقر إمبراطورية وصعود أخرى، لأننا بكل تأكيد سنشهد ذلك في المستقبل القريب، فنحن أمام مرحلة تاريخية مفصلية ستشهد ذلك بلا شك نتيجة لــ”الموجة الديمقراطية الرابعة” (أي نتيجة لثورات الربيع العربي).
ولكن السؤال هنا هو: “من هي الدول والإمبراطوريات التي ستتقهقر أو تسقط؟ ومن هي التي ستصعد؟ الأمر الذي قد يمهد الطريق إلى نهاية أو بداية نهاية “الشرق الأوسط الجديد”..؟
وهذا ما ستجيب عليه الأيام… والله أعلم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق