الأربعاء، 6 يناير 2016

مصر.. الثورة موعدنا

مصر.. الثورة موعدنا

نبيل الفولي
الثورة -كما يثبت من استقراء التاريخ- ضربة مفاجئة، أو تطور غير متوقع لعمل جماهيري يُفقد الاستبداد توازنه على الأقل، وقد تكون بين الثورة والاستبداد صولات وجولات قبل الانتصار والإجهاز عليه تماما.

منذ وقت مبكر صعّد الناشطون المصريون حملتهم على مواقع التواصل الاجتماعي لأجل الحشد الجماهيري في الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير، وفي غمرة الخلاف في صفوف جماعة الإخوان المسلمين علت أصوات كثيرة من خارج الجماعة وداخلها أن دعونا من خلافاتكم واتركونا مع موعد الثورة القادم، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة!
"الثورات ليست عملا بسيطا ولا هينا، ومن الصعب أن تشعلها مواعيد هكذا معلنة على الدنيا، خاصة في ظروف مصر التي تتيقظ فيها أجهزة الأمن والجيش"
التواعد على تجديد العهد مع الثورة كلما جاءت ذكراها هو عادة مصرية أقدم من عُمر الانقلاب العسكري الذي شهدته البلاد في يوليو/تموز 2013، إلا أنه صار بعد هذا التاريخ تواعدا أكثر أهمية وتحديدا للهدف؛ لما يشعر به قطاع كبير ممن شاركوا في صناعة الثورة من أنها أُجهضت كلها، وتنكب قادة الجيش طريقها بأكمله، بل عاقبوا من استطاعوا ممن تجرأ على قول "لا" في وقتها؛ حتى لا يعود إلى ذلك السلوك الخطر مرة أخرى.
والحقيقة أن الثورات ليست بالعمل البسيط ولا الهين، ومن الصعب أن تشعلها مواعيد هكذا معلنة على الدنيا، خاصة في ظروف مصر التي تتيقظ فيها أجهزة الأمن والجيش تيقظا تاما بما اكتسبته من خبرة قريبة العهد، فعنصر المفاجأة معها مفقود، وهي في الوقت نفسه لا تتورع أبدا عن استعمال أي وسيلة لردع الجماهير الساعية إلى انتزاع حقوقها من فم الاستبداد والطغيان، كيف وقد اعتاد الجنود المدججون بالسلاح في شوارع مصر على القتل وسفك الدم في أحداث كثيرة لا تبعد عنا إلا قليلا، ولم نسمع أنهم تابوا عن هذه السياسة؟
فهل الثورة دائما عمل مفاجئ، أو تلقائي يسحق الطغيان بضربة قاضية ولا يعطيه الفرصة حتى يفيق؟
يبدو أن هذا هو الغالب، فالثورة -كما يثبت من استقراء التاريخ- ضربة مفاجئة، أو تطور غير متوقع لعمل جماهيري يُفقد الاستبداد توازنه على الأقل، وقد تكون بين الثورة والاستبداد صولات وجولات قبل الانتصار والإجهاز عليه تماما، إلا أن الضربة الأولى المفاجئة -عند الاستفادة منها بصورة ملائمة- يكون لها تأثيرها الكبير في التمكين للثورة وإضعاف الاستبداد ثم الخلاص منه.
25 يناير معنى وليس تاريخا
ومع هذا فإن الحراك المتوقع في الذكرى القادمة للثورة الشعبية المصرية ليس بلا جدوى، بل هو ضروري جدا في هذه المرحلة بالذات لاستعادة الثقة، ولملمة الصف، والقضاء على الخلافات الناشبة في صفوف الثوار، على أن يكون الخروج في هذه الذكرى جزءا من مشروع الثورة الكبير الذي يبقى ويتصاعد ويتسع تأييده الشعبي اعتراضا على الدولة الفاشلة التي أنشأها الانقلاب، وعلى إجراءات القمع والقتل والتخريب التي يمارسها منذ حط رحاله في السلطة.
إن الاستمرار هو الأصل في النجاح المرتقب، وليس الحشد الكبير لزمن قصير مهما بلغ، على أن يعتمد الاستمرار على إستراتيجية واضحة لها وسائلها في إنهاك السلطة وإرباكها وتوسيع دوائر المعارضة لها، حتى تحين ساعة الحسم التي لا يمكن لأحد أن يحدد صورتها ولا وقتها إلا الله، وإن كان قانون التدافع الإلهي يفيد بأن الثوار ما داموا يدفعون في الاتجاه الذي يخدم أهدافهم المشروعة فإن ساعة الحسم هذه سيأتي موعدها عاجلا أو آجلا.
ومع أن انتفاضة 25 يناير وأهدافها تبدو نقطة ثابتة ومهمة للمسار الحالي، ومثلها عودة الرئيس محمد مرسي ودستور الثورة، إلا أن هذه كلها ينبغي استخدامها بوصفها دوافع لا موانع أو عقبات في الطريق؛ أي أن ثبات هذه النقاط والتمسك بها لا يعني ثبات الوسائل، ولا وقوف الأهداف نفسها عند حد، بل كل ذلك قابل للتطوير.
"استدعى الانقلابيون حلفاءهم الإقليميين والدوليين، ووظفوا كل قوى الدولة المصرية ومن فيها من الحلفاء الداخليين ضد أي ثورة قادمة، وصارت المعركة في منتهى الصراحة والوضوح"
ثمة فرق بين الثبات والتحجر، فالأول أمر مبدئي لا يتعدى إلى الوسائل والآليات، وأما التحجر فعجز عن مجاراة التطورات، وتكلس في الأفكار، وفقد وهدر للطاقات دون إنجاز واحد يتحقق، ومن هنا ينبغي اتخاذ 25 يناير نقطة ثابتة لا بوصفها تاريخا أو يوما محددا، ولكن بالنظر إلى أنها كانت بداية الانفراجة أو الانفجار المطالب بالحقوق المشروعة للمواطن، أو هي التي حولت المواجهة الوطنية ذات النكهة الإسلامية الظاهرة مع الاستبداد إلى مواجهة صريحة تماما يستدعي كل طرف فيها كل قواه.
وقد استدعى الانقلابيون في هذه المواجهة حلفاءهم الإقليميين والدوليين، ووظفوا كل قوى الدولة المصرية ومن فيها من الحلفاء الداخليين ضد أي ثورة قادمة، وصارت المعركة في منتهى الصراحة والوضوح: الانقلاب وما ومن معه في مواجهة قوى الشعب الواعية، ولا يصلح لهؤلاء الأخيرين -وقد اختاروا الاستمرار في السعي وراء الحرية- إلا أن يكونوا من الوعي والمرونة والتطور بحيث يكسبون كل يوم أرضا وصوتا وحقا، ويثبتون قدرتهم على البقاء والاستمرار، يداوون جراحهم بيد، ويتناولون رغيفهم الجاف بيد، يرفعون صوتهم في ساحة، ويكشفون زيف خصمهم في جهة، ويكشفون كارثية أحوال مصر في ناحية أخرى.
خلوا الثورة من خلافاتكم
إن الثورة ما دامت متكلسة في مواضعها، ولا تظهر إلا في صورة طفرات، والشباب المتحرق إلى التضحية والمواجهة لا يجد مجالا يفرغ فيه طاقته، فستنشأ الخلافات في صفوف شبابها وشيوخها، وهو أكبر ما يهدد الثورة برمتها.
لقد بقيت الثورة في الميدان برغم القتل والإصابات الجسدية التي طالت الآلاف، وبرغم الاعتقال والتشريد الذي طال عشرات الآلاف طوال عامين ونصف العام هي عمر الانقلاب إلى الآن، فإننا لا ينبغي أن نحلم ببقائها على هذه الحال إن لم تُحَل قضية الأجيال ذات النظرات المتباينة إلى المسار الذي ينبغي أن تدار فيه الأمور، وأمامنا لأجل ذلك حلول، أو خطوات تمثل حلا واحدا، منها:
- الاشتغال على المسارين السياسي (التفاوضي) والثوري (الميداني) معا تحت قيادتين منفصلتين ولكن متفاهمتين، على أن تتعاونا في كسب نقاط مشتركة تخدم الهدف العام والقضايا الآنية في الوقت نفسه؛ مثل تخفيف الضغط عن المعتقلين وتحسين أوضاعهم والإفراج عن النساء والمرضى منهم مقابل تنازلات جزئية.
- الاشتغال على المسار التفاوضي يحتاج مجموعة محترفة ومعلنة من المفاوضين تمثل الثورة حتى على المستوى الدولي، ويمكن أن تلتقي مع الأطراف المختلفة وفق أجندة عمل واضحة تنسق مع العمل الميداني الداخلي، وتصب في خدمة الهدف العام الذي قامت الأمور كلها لأجله.
- إعداد أوراق بحثية في القضايا الخلافية -مثل ما يطلق عليه "العمليات النوعية"- وعرضها بصورة أو أخرى على أولي الرأي والعلم والخبرة في دول مختلفة من العالم، وحتى على خبراء أجانب موثوق بهم، والعمل بما يتفق عليه من كلمة الخبراء في هذا الشأن.
"لا بد من منح الإبداع الشبابي فرصة واسعة للتجديد الثوري مقابل الانضباط بالإطار العام المتفق أن تسير الثورة فيه، خاصة بعد الوصول إلى حلول واضحة في القضايا الخلافية"
- منح الإبداع الشبابي فرصة واسعة للتجديد الثوري مقابل الانضباط بالإطار العام المتفق أن تسير الثورة فيه، خاصة بعد الوصول إلى حلول واضحة في القضايا الخلافية. وعلى الشباب أن يعمل ويتعلم الصبر، وأن التهور والاندفاع لا يخدم قضية الثورة، وقد يورط البلاد في وضع لا يخدم إلا الانقلاب.
- تنشيط المجالس الثورية والشخصيات العامة المصرية العاملة في الخارج -التي أصابتها هي الأخرى نوبات من الفتور- لتقوم بدورها ومهماتها المكملة لمهمة الداخل، ومنها تقديم شكاوى ضد الدول والأنظمة التي تدعم الانقلاب في المجالس الدولية، سعيا إلى إحراج هذه الدول على الأقل، وهو أمر له مردوده الإعلامي المهم.
وفي رأيي -بهذه المناسبة- أن مشكلة التقرير البريطاني الأخير "المجامل" لبعض الأطراف حول الإخوان المسلمين، هو أنه شغل مكتب الجماعة في لندن وكوادرها في أوروبا بالدفاع الهادئ عن مواقفها، وكان ينبغي أن تتبع التقرير حملة إخوانية شرسة تتهمه بالانحياز وبيع الموقف السياسي البريطاني العتيد لأجل حفنة من الدولارات مهما تكن، مع إرفاق وثائق بألوان الدعم الذي تقدمه حكومة ديفد كاميرون للانقلاب حتى يبقى ويستمر جاثما على صدور الشعب يقتل وينهب كيف شاء، وأرض الله بعد ذلك واسعة.

المصدر : الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق