الخميس، 16 يونيو 2016

الهندسة الأمريكية للحرب على الفلوجة

الهندسة الأمريكية للحرب على الفلوجة


طلعت رميح

غالباً
ما يجري التفتيش والتقليب وتقديم التحليلات تحديد المواقف بناء على ما هو معلن من تصريحات أو تحركات الأطراف الداخلة او المشتبكة على أرض الصراع، وعندها يتحول التحليل السياسي إلى عملية تفكيك وإعادة بناء لما تقدمه أجهزة الإعلام على الناس، وهو في الأغلب فعل مقصود لإدارة العقول وتوجيهها.

غير أن الفهم الأدق والأعمق - وربما الأصح أيضا - هو استخدام أدوات البحث والفهم الاستراتيجي، لإدراك أو الإمساك بالطرف أو الأطراف التي حدد المستويات الاستراتيجية للصراع أو للحرب، وحددت طبيعتها، وربما هي من حددت - أو صنعت - أطرافها وأحاطت بهم، وقيدتهم بحدود ومحددات لا يستطيعون التملص منها أو الخروج عليها، عبر سلسلة طويلة من التحضيرات والإعدادات التي يلعب الدور الرئيسي فيها ما يمتلكه هذا الطرف او تلك الاطراف من وسائل هيمنة تمكنهم من صياغة وتحديد اطار أو سياج استراتيجي، يحيط بمواقف الجميع ويجعلهم يتحركون داخل هذا السياق الاستراتيجي.

وفى ذلك يجب إدراك مدى مهارة وصول مثل هذا الطرف - أو الأطراف - إلى تلك القدرة، كما يجب فهم أن أحد أدوات مهارته التي اهّلته لإحكام مثل هذا السياق، تتمثل في الاستجابة لأهداف أو مطامع الأطراف المختلفة مع تقويتها وتعزيزها وفتح الطريق أمامها، وفي اعتماد تكتيكات وآليات متنوعة وفي إقامة حواجز بينها وخطوط دماء، لجعل كل الأطراف تدور في داخل الدورة الجهنمية التي يرسمها هو بإتقان، بما يمتلكه من عوامل قوة وهيمنة ووسائل سيطرة وبما يملكه من حشد من الخبراء والمختصين القادرين على الإمساك بمواقف مختلف الأطراف المستهدفة وإقامة علاقات تحتية معها وفى داخلها أيضا .

ووفقاً لهذا الفهم وارتباطا به، تبدو معركة الفلوجة وكأنها معركة بين طرفين جرى تحديدهما وهندسة المعركة بينهما، بل جرى صناعة وجودهما - عبر مشوار سياسي وحربي واستراتيجي طويل - لتغيير طبيعة المعركة الأصلية.

ومن يتابع يجد المعركة وكأنها معركة وحرب جارية على أرض دون هوية ولا انحياز لسكانها لهذا الطرف او ذاك من طرفي الحرب، أو كأن السكان في حالة أشبه بحالة الطائرة المخطوفة التي جاءت قوات - لا يهم من هي - لإنقاذ ركابها.

كما يجد الحرب تقدم وكأنها حرب لا يعرف الطرف المقابل فيها إذ يختصر في حروف كلمة الإرهاب، وتلك هندسة للحرب والعدوان لم تأت هكذا، إذ المقلب جيدا يجدها معركة خارج كل السياقات الطبيعية في أطرافها، كما يجدها حرب مهندسة نتيجة خبرات لحروب واعتداءات سابقة على الفلوجة أيضا .

هي معركة حربية يجري تقديمها في الإعلام، وكأنها حرب لإخلاء الموجودين في المكان جميعهم، بعضهم باعتبارهم إرهابيين فاعلين لا حل سوى قتلهم ولو أدى ذلك لقتل أي أحد آخر، وبعضهم باعتبارهم سكان مأسورين عند الإرهابيين لفترة طويلة، ويحق للمهاجمين قتلهم ومن ينجوا منهم يحق فرزهم والتثبت منهم إذ كل السكان عند المهاجمين هم إرهابيون أو عوائل وأسر للإرهابيين، وتحت هذا العنوان يجري ارتكاب الفظائع، إذ القاعدة المطبقة في القتال هي أن كل من بها إرهابيون حتى لو ثبتت براءتهم، وفي ذلك بات مفهوما أن من يقوم بهذا الدور هو صاحب موقف ثأري من كل الموجودين باعتبارهم سنة.

والمهاجمون وكلهم ذئاب، يقدمون أنفسهم باعتبارهم أتوا لإنقاذ المدنيين، فيما الإعلام الحربي يقدم الموجودين في الفلوجة جميعهم، على الطرف الآخر من الحرب، باعتبارهم إرهابيين كلهم، وهكذا يجري اختصار المعركة في تنظيم الدولة، وكأن الفلوجة أرض وجد عليها مختطفون تسعى قوات الحشد وفى أعلى رؤوسها الطائرات الأمريكية في وضع المنقذ لهم من خلال القتل، المستباح للجميع.

وتلك هي الهندسة الأمريكية للحرب على الفلوجة، وهذا هو المضمون الذى حملته فكرة الاستعداد للحرب على الفلوجة، وذاك هو النموذج العام المعتمد الآن في الحرب على المدن السنية من حلب إلى تعز مرورا بكل مدن العراق .

ولذا وإذا شئنا الدقة، فالفعل الإيراني الإجرامي - عبر الميلشيات والحكومة - لا يجري فعليا إلا وفق الهندسة الأمريكية للحرب على المدن السنية ، وفي تلك الهندسة يجرى إدارة عملية المعركة والصراع، وعملية تحديد عناصره، وفق معادلات مهندسة تفقد الفلوجة أهم ما تمتعت به خلال الحربين الأمريكيتين عليها.

فالفلوجة التي كانت رمزا للمقاومة الوطنية العراقية ضد الاحتلال الأمريكي، والتي تحولت إلى رمزية تفوق الصمود وتصل حد امتلاك القوة والقدرة على هزيمة المحتل الأمريكي، وتمريغ عوامل قوته وقدراته التكنولوجية، نجحت حين كان هذا هو نموذج المعركة، إذ من في داخل الفلوجة ومن في خارجها في عموم العراق وفي العالم العربي والإسلامي كانوا جميعا جزء من المعركة وكانوا مشاركين في صناعة النصر الذي تحول بدوره ليصبح عنوانا للقدرة على هزيمة القوات الأمريكية .

لكن تغيير طرفي الصراع واستبعاد الفعل الشعبي وإفقاد الفلوجة التعاطف الشعبي عبر تغيير نمط الصراع، كان هو الهندسة المقصودة للصراع .

ولذا، نكرر الترحم على الشيخ المجاهد حارث الضاري الذي كان يكرر دوما أن أصل الداء هو الاحتلال الأمريكي وأن إزالة هذا الاحتلال وهزيمة مشروعه يفتح الطريق لإنهاء كل التدخلات والأطماع الأخرى.

مقال خاص لموقع الهيئة نت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق