هل يقوى الأتراك على وقف أخطر تغيير جيوسياسي يهدد حدائقهم الخلفية؟
شريف عبدالعزيز
خطوط حمراء كثيرة أعلنتها تركيا منذ بداية التطور الميداني في المشهد السوري بعد دخول الدب الروسي ذي الأقدام الثقيلة في حلبة الصراع ، وفي كل مرة نجد تركيا تتنازل شيئا في شيء عن خطوطها الحمراء ، فتمحو الخط القديم ، وترسم خطا جديدا ، ما يلبث الخصوم التاريخيون في انتهاكه ، فتقوم تركيا بالتجاوز عن ذلك ، ورسم خطا جديدا ، كأن قدر الأتراك أن يشاهدوا أطرافهم تلتهم ، وأمنهم القومي يتهدد بمنتهى القوة ، في حين لا يملك الساسة الأتراك حلولا مبدعة لوقف وصول النيران إلى حدائقهم الخلفية .
ـ عبرت "قوات حماية الشعب الكردية" والتشكيلات المنضوية في "قوات سورية الديمقراطية" في مطلع الشهر الحالي نهر الفرات، الذي يفصل مناطق سيطرتها في عين العرب شرقاً، عن مناطق سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، في منبج وجرابلس والباب، في ريف حلب غرباً. وشكّل هذا التقدم الميداني، المتمثّل بالوصول إلى الضفة الغربية من نهر الفرات، خرقاً لـ"الخط الأحمر" الذي رسمته تركيا لها، عندما رفضت مراراً عبور هذه القوات في اتجاه غرب الفرات.
وتخشى تركيا من أن تنجح القوات الكردية بوصل مناطق سيطرتها في عين العرب وشمال شرق سورية عموماً، الأمر الذي يعني قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية.وجاء التقدم الجديد للقوات الكردية، عبر جسر قرقوزاق وسد تشرين على نهر الفرات، والذي حظي بدعم جوي من طيران التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، بعد عزوفها عن خوض معركة تحرير الرقة. هذه المعركة كانت تحظى بأولوية عالية بالنسبة للتحالف الدولي والولايات المتحدة، إلا أنها لا تحظى بنفس درجة الأهمية بالنسبة للقوات الكردية، التي تفضل، بلا شك، التقدم غرباً داخل مناطق سيطرة "داعش" في ريف حلب الشرقي، وتحديدا باتجاه منطقة عفرين التي تسعى القوات الكردية إلى الوصول إليها .
ـ والمثير في هذا العبور أنه جاء بتسهيل أمريكي فريد ، فقد تم عبور قوات سوريا الديمقراطية لنهر الفرات على جسور مائية أمريكية وأوصلتها للضفة الغربية لتنطلق بهجومها نحو قرى شرق منبج، وطعَم الأمريكيون القوات الكردية بمجاميع مسلحة عربية هامشية منحت الرئيس التركي أردوجان الفرصة لتعزية خطته الآمنة المتعثرة بتصريحات تؤكد أن أغلبية قوات سوريا الديمقراطية التي قطعت الخط الأحمر التركي للمرة الثالثة لتهاجم منبج بعد أن قطعت طريق حلب غازي عنتاب، هي قوات عربية لا كردية!
ـ ويطرح هذا التقدم الجديد للقوات الكردية وحلفائها تساؤلات جدية عن مصير الخط الأحمر التركي، الذي منع هذه القوات من التقدم إلى ريف حلب الشرقي منذ سيطرتها على تل أبيض في ريف الرقة الشمالي صيف العام الماضي، ونجاحها بالتالي في وصل مناطق سيطرتها في ريف الحسكة في منطقة عين العرب شمال شرق حلب، والتي تسيطر القوات الكردية عليها أيضاً.
ولا يعرف بالضبط، حتى الآن، ما هو مصير الاتصالات التي جرت في الأيام الأخيرة بين تركيا والتحالف الدولي ؟!
ـ والمأساة تبدأ منذ أوائل العام الماضي ، عندما اجتمعت قيادات عسكرية وأمنية واستراتيجية من طراز رفيع لصوغ السياسات الأمريكية المتعلقة بالأخطار والخصوم المتوقعين خلال العقد القادم ، وكان معظم التركيز في التقرير عن الشرق الأوسط والتنظيمات الجهادية .
وقد انتهى المجتمعون لوضع حجر الزاوية في هذه الاستراتيجية الجديدة والتي أعدها رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال، مارتن ديمبسي، بالاعتماد على الأكراد كلاعب إقليمي ذي ايديولوجية يسارية معادية للإسلام ، في مواجهة التنظيمات الجهادية السنية في الشام ، فقد قال "ديمبسي" : إن الولايات المتحدة وحلفاءها يجب أن يكونوا مستعدين لخوض حرب طويلة في أوقات غير محددة حول العالم ضد " الجهاد السني " .
ورأى بعض المراقبين والمتابعين في الاستراتيجية العسكرية الجديدة بمثابة إعلان حرب على "الجهاد السني" تحديدا دون غيره، في حين، وهذا ما يمكن استنتاجه، في مقابل الاعتماد على سياسة "الترويض" مع روسيا و"الاحتواء" مع الصين ولا ترى في إيران تهديدا مباشرا.
ـ وقد مثلت عين العرب كوباني باكورة التواؤم الكردي الأمريكي في الرؤية لشمال سوريا، فمنها انطلق التحالف مع القوى الكردية المسلحة ضد عدو مشترك، هو تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يمثل للأكراد في شمال سوريا صورة جديدة لتهديدين مزدوجين، عرقي عربي وأيديولوجي إسلامي مضاد لليسارية الكردية التي تغلف نزعات الأحزاب الكردية الانفصالية.فالقوى الكردية في الحسكة وكوباني وباقي مناطق الشمال الكردية اصطدمت منذ بداية الثورة بكل القوى المعارضة التي يغلب عليها العنصر العربي من الرقة ودير الزور، ودارت مواجهات مسلحة مع فصائل من الجيش الحر وأحرار الشام والنصرة الذين ينتمي مقاتلوهم إلى المناطق العشائرية العربية، وهم أيضا من يشكل السواد الأعظم من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في حلب والرقة وريفهما اليوم. وهكذا، فإن الأمريكيين لم يجدوا أفضل من القوى الكردية المسلحة حليفا ضد عدوها التنظيم الجهادي المعادي للغرب، وبالفعل أعلن المسؤولون الأمريكيون العسكريون في عدة جلسات استماع في الكونغرس الأمريكي، أن الحليف الأكثر فعالية في مواجهة تنظيم الدولة هو الأكراد وليس الجيش الحر المدعوم خليجيا وتركيا .
ـ وبعد أن أثبت الأكراد جدارتهم بالدعم الأمريكي ، دعمهم الأمريكيون بطائراتهم وعتادهم الحربي الثقيل من أجل السيطرة على مدينة تل أبيض الحدودية مع تركيا، ثم تقدموا جنوبا نحو عشرات القرى شمال الرقة، وغربا نحو نهر الفرات الذي بات حاجزا طبيعيا يفصل قرى ريف منبج الشرقية عنهم. غير أبهين بالاعتراض التركي والتهديد والوعيد بقصف المنطقة كلها على استمر التقدم التركي، وبدأ التململ التركي من دعم حليفتهم أمريكا للعدو الانفصالي والخطر الأول الذي يهدد الأمن القومي التركي، وهنا كانت صفقة التهدئة التي لم تدم طويلا، لطمأنة الأتراك. حيث جمد الأمريكيون دعمهم للأكراد مقابل تعهد تركي بدور أكبر في دعم قوات الجيش الحر من ريف حلب لمهاجمة تنظيم الدولة في منبج وجرابلس والشريط الحدودي شمالهما والذي يمتد لستين كيلومترا وصولا لحدود اعزاز.
ـ الرهان الأمريكي على الأكراد جاء بعد الفشل التركي الذريع في مواجهة تنظيم الدولة في شمال سوريا ، بسبب ضعف وهشاشة الفصائل المدعومة تركيا في مواجهة تنظيم الدولة وجبهة النصرة، وعدم امتلاكها لعقيدة قتالية مقنعة تبرر لحواضنها الشعبية تجميد القتال مع النظام والأكراد والدخول بصدام مسلح سني سني في خضم حرب أهلية طاحنة، وظهورهم محليا وإقليميا بمظهر المرتزقة الذي يعملون كبندقية مستأجرة ، لا كمعارضين أحرار لهم قضية عادلة يقاتلون من أجلها .
كل ذلك استمر طيلة عام كامل يراوح فيه القتال بين كتائب الجيش الحر وتنظيم الدولة بين أقدامه ، حتى أقدم الأكراد وبدعم أمريكي آخر، على احتلال أهم مراكز ريف حلب الشمالي كتل رفعت وفصلوا الكتائب المدعومة من تركيا والخليج عن الحدود التركية، ليضيف هذا التطور عوائق جديدة في طريق تبرير الولوج في حرب دموية مع أبناء قراهم في تنظيم الدولة وترك قوات النظام وحليفتها الكردية تسيطر على مراكز الريف الحلبي الشمالي .
هذا الفشل في إضعاف تنظيم الدولة غربا من الريف الحلبي، قرر الأمريكيون العودة للعمل برؤيتهم الاستراتيجية القاضية بالاعتماد على الأكراد وحدهم بدعم هجوم جديد لهم شرقا من حدود نهر الفرات نحو منبج، كما حدث منذ أيام.
ـ أمام هذه التطورات الكبيرة والخطيرة على الأمن القومي التركي ، تحول موقف الساسة الأتراك إلى أشبه ما يكون بلعبة شد الحبل وإرخائه .
ففيما يلعب أردوجان دور الشد بتصريحات عنترية عن الخيانة الأمريكية ، والكرامة التركية ، والخيارات المفتوحة ، وعبثية النظام الدولي وفشله ، يلعب وزير خارجيته " مولود جاويش " دور ارخاء الحبل بتليين الخطاب وفتح مجالات جديدة للتعاون مع الأمريكان في قتال " تنظيم الدولة " في سوريا .
وقال جاويش لمجموعة من الصحافيين "إذا جمعنا قواتنا، لدى الأميركيين قواتهم الخاصة ولدينا قواتنا الخاصة"، مضيفاً أن مثل هذا التحالف يمكنه "بسهولة" السيطرة على مدينة الرقة التي يتخذها التنظيم المتطرف عاصمة له " .
ويتمحور الاقتراح التركي الجديد حول دعم قوات المعارضة السورية المتواجدة في أعزاز ومارع، شمال حلب، بقوات خاصة من تركيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا. وقال جاويش: " ما نتحدث بشأنه مع الأميركيين هو إغلاق جيب منبج في أقرب وقت ممكن، وفتح جبهة ثانية"، في إشارة إلى المنطقة التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" في ريف حلب الشمالي شمال سورية. وتابع: "نحن نقول نعم يجب فتح جبهة جديدة ولكن ليس بمشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي".
والعجيب أن أمريكا لم ترد على هذا المقترح التركي حتى الآن على الرغم من مرور أكثر من أسبوعين على طرحه !! في إشارة واضحة أن الأمريكان يفضلون الأكراد على الأتراك .
ـ هذا التجاهل الأمريكي دفع الأتراك لتقديم مزيد من التنازلات من أجل وقف الدعم الأمريكي للأكراد فقد صرح المتحدث باسم الحكومة، نعمان كورتولموش للصحفيين "أنه بات من الضروري إجراء تغييرات في السياسة الخارجية لتركيا على أربعة محاور، من ضمنها وأهمها المحور السوري - العراقي، إضافةً إلى كل من الاتحاد الأوروبي، وإسرائيل وروسيا "ويتعلق الأمر بتغيير كبير في استراتيجية وأهداف الدبلوماسية التركية بقدر ما يتعلق بـ"ترشيق" لهذه الاستراتيجية، عبر اعتماد تكتيكات مرحلية يمكن وصفها بأنها أكثر "نعومة" وأقل "صدامية" في إشارة عن تنازلات مؤلمة من الجانب التركي .
ـ المشهد الإقليمي اليوم بات يحمل مؤشرات في غاية الخطورة بالنسبة للجانب التركي، والطحن الكردي يعمل على أشده في شمال سوريا ، مؤذنا بأكبر وأخطر تغيير جيوسياسي عرفته المنطقة منذ وضع خرائط سايكس ـ بيكو ، والأدهى من ذلك أن خيارات تركيا قد ضاقت وتقلصت بسبب تقاعسها وترددها في التدخل عسكريا في شمال سوريا من أجل وقف الطموحات الكردية التي أصبحت حقيقة واقعة تتحدى القيادة التركية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق