سجين سياسي في رمضان.. الحكاية الأولى
ساري عرابي
كان المعتقلون يتكومون في غرفة التحقيق الجماعية، ينتظرون الإفراج عنهم، فالعادة مع مثلهم بعد الخلاص من التحقيق أن ينتظروا الخلاص من الاعتقال غير المفهوم، والذي لا يستند إلى قرار قضائي أو إلى لائحة اتهام، ولكنهم على أي حال كانوا ينتظرون الإفراج، الشيء الوحيد المنتظر، المخبوء في الغيب، والذي لا يفصلهم عنه إلا شيء يسير من الثواني إلى الشهور القليلة، دون معرفة أي منهم بأي موعد لهذا الفرج المخبوء، ولكنه وحده كان المختلف عن الجميع، بسؤاله الذي لم يجد عليه إجابة عند المعتقلين الذين سبقوه إلى الغرفة، أو عند ضباط الجهاز الأمني الذي احتجزه وأخضعه للتحقيق، أو عند السجانين.. الشعور بالاختلاف كثيرا ما يكون مدعاة لجرح لا يبرأ أبدا.
بعد أسابيع من الشبح، والتعليق في السقف، أو في باب الزنزانة، أو في شباك الممر، وصب الماء البارد عليه، وضربه بالعصا الغليظة على فخذيه وباطن قدميه، وضربه المستمر على رأسه، واحتجازه في زنزانة ضيقة لا تتسع لفرشة المنام، بل إن الفرشة كانت أكبر من الزنزانة فعلا..
بعد ذلك كله أنزلوه إلى غرفة المعتقلين الجماعية، ومع أنه كان يرجو أن يُدرك رمضان في جو مختلف، فإن مشاعره كانت متضاربة ما بين الخلاص من ذلك العذاب الجسدي، وبين الدخول في تجربة الاختلاف الأليمة، كان شيء ما يهمس في صدره بأن القادم أسوأ، وبأن اللقاء بالآخرين سيكون مرّا على الأغلب، وقد اعتاد على هذا الحدس الذي لا يخيب.
قبل ذلك قدّموه إلى محاكمة عسكرية حولته إلى سجن عسكري رفض استقباله بسبب الاكتظاظ، فأرجعوه إلى سجن الجهاز الذي أخضعه للتحقيق، وقد عَرَف من ذلك أن شيئا ما مختلفا سيحصل له، لأن إجراء من هذا النوع لم يسبق وأن سمع بتعرض معتقلين سياسيين سابقين له..
رجع إلى الزنزانة الضيقة، والتي وللمفارقة لم يبدد من ضيقها شيء سوى أنها ذكّرته بالقبر تماما، ذلك المآل الذي يجعل ضيق الحياة سعة، وسعتها ضيقا.. وهو المآل الذي لا يبقي للألم واللذة معنى على السواء..
يَذْكُر في أول اعتقال طويل له لدى الاحتلال، أنه وحينما وضع قدميه خارج السجن، قد بكى وهو يمشي ليلا في طريق طويلة لا يعرف منها شيئا.
في ذلك الاعتقال الطويل لدى الاحتلال، أفرج عنه ليلا، في منطقة بعيدة جدّا عن سكنه، وكان المعتقلون قد تدبروا له سيارة تقلّه يلتقيها في منطقة في طريق العودة الليلي الطويل، ولكنه لساعات ضلت عنه السيارة وضل عنها، والحق أنه لم يبك السيارة الضالة، إذ كان غافلا عنها تماما، وإنما بكى أجره الضائع، والألم الزائل، فما أن فارق السجن، حتى بدا له كل شيء حلما بعيدا، وصار الألم أثرا من الماضي القريب وكأنه من الماضي البعيد، وظهرت له الحياة كلها كهذا السجن، زوالا متحققا بكل ما فيه، وحلما مختلطا من الانشراح والفزع، وتجربة غامضة من اللذة والألم.. لكن كل شيء في النهاية يزول.
ذلك هو أول اعتقال له، وأول اعتقال يكون في رمضان، فمع انقضاء الثلث الأول من رمضان رجع من مسجد المدينة الكبير إلى قريته، والثلج يغطي الطرقات المظلمة، وحدسه العجيب يعصر أحشاءه، حتى طرق الاحتلال باب بيته، ليقيم شهره على كرسي الشبح، وتسترجع ذاكرته رمضانه الأول الذي قضاه بعيدا عن أهله في العمرة، حينما خرج قاصدا الحرمين وهو طالب في المدرسة الثانوية، مستعجلا العودة للحاق بالاعتكاف الذي يقيمه الإخوة في العشر الأواخر في واحد من مساجد المدينة..
حينما رجع عانقه شيخه في المُعتكف، وقال له "اعتمرت يا حبيبي.. الحمد لله، فلعلك تُمنع من السفر قريبا".. في العام الذي يليه كان اعتقاله الرمضاني، ومُنع من السفر فعلا، إلى اليوم.. يا إلهي!
وبعد سنوات استُشهد شيخه واتسع له الوجود.
دخل متثاقلا الغرفة الجماعية الكئيبة.. تتسع الغرفة لأحد عشر شخصا ولكنها تكدست باثنين وعشرين، ووصلت إلى ما يزيد على الثلاثين، وكان فيها إلى جانب المعتقلين السياسيين، متهمون بالعمالة، وسجناء من اتجاه الجهاز الأمني نفسه، وهو أمر كفيل بخلق اغتراب ثقيل، أثقل من الزنزانة الضيقة.
انسجم مع أشباهه، وكاد له المعتقلون القريبون من الجهاز، وحده دون غيره من المعتقلين الذي يشبهونه، وهو إن تعجب لهذه المخلوقات التي تستمتع بفقد الكرامة، وتمحض ولاءها لسجانها ومستعبدها، وتحتفظ بدناءتها حتى وهي في موقف ينبغي أن يوقظ فيها كل إحساس نبيل مدفون، فإنه ورغم ذلك، وبعد تجربة طويلة مع هذا الصنف من الناس، أدرك أن تقصّدهم إياه بالعداء مما يوجب الفرح، لا الحزن والأسى.
دخل رمضان وهو في الغرفة الجماعية، وسؤاله الثقيل لا إجابة له من أحد، ولا خبرة سابقة لأحد به: "ماذا يعني محكمة عسكرية؟ ماذا سيجري معي؟ هل مرّ بكم أحد وقد عُرض على محكمة عسكرية؟"..
كلهم ينتظرون الإفراج إلا هو، وقد أحيا أكثر ليله بالقيام والدعاء، دون فتور، وصدره مطبق بالضيق، وحدسه يقول له: "الفرج بعيد.. والإجابة مؤجّلة"، وهو يعلم من تجربته متى يجاب دعاؤه، ومتى يرجأ إرجاء طويلا.
بدأ الإفراج عن المعتقلين واحدا واحدا في رمضان، حتى خلت الغرفة إلا منه ومن واحد من أشباهه.. وكلما اقترب عيد الفطر، وخرج سجين من الغرفة، قلّت صلاته ركعة، وفقد دعاؤه جملة، حتى ظل لعيد الفطر أيام، فصارحه رفيقه مصارحة مفزعة، وقال له: "إنني دعوت في سجودي ألا تخرج من السجن قبلي".. ماذا يفعل السجن والقهر بنفوس الرجال.. يا إلهي!
"هل كان يدعو لنفسه أم يدعو علي"، هكذا أسرّها في نفسه، وهو يخشى الدعاء، وأشد ما يكون رجاء فيه، وأشد ما يكون فزعا منه، وإن كابد في هذه التجربة محنة الجفاء، والسؤال عن "القريب المجيب"، حتى بات يخشى أن يُفتن في دينه إذا دعا، فكفّ فترة الشكّ والحيرة عن الدعاء.. ما أدقّ مداخل الشيطان، وما أقل صبر الإنسان!
استجيب لصاحب الدعاء، وخرج يوم عيد الفطر، وخلا مركز التحقيق، من كل البشر.. خلت المكاتب، وغرف التحقيق، والزنازين، والغرفة الجماعية، وصار العالم خواء، بلا أوكسجين، واسعا وخانقا، وقد تحقق فيه الاختلاف، خرج الجميع وظل وحده، إلا من رفيق واحد جاء إليه وتركه أيضا.. كم كانت الزنزانة واسعة حينما ذكّرته بالقبر.. والغرفة الفسيحة ضيقة حينما ذكّرته بالدنيا التي خرج إليها رفاقه..
بعد ذلك قضى رمضانين آخرين في السجن العسكري، وكان لكل منهما حكاية..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق