المعلومة ضالة الصحفي، وفي الجزء الرابع من مذكراته: "ابن القرية والكتاب، ملامح سيرة ومسيرة" يقدم الدكتور "يوسف القرضاوي" تفاصيل واقعتين، لم تتم الإحاطة بهما عند إثارتهما، بشكل يجعل المرء يقف على خلفيتهما لاستكمال الصورة.
الأولى: هي واقعة تطاول اللواء زكي بدر، وزير الداخلية، على الشيخ عند زيارة الوزير للدوحة.
والثانية: خاصة بمشهد لم نر سوى الظاهر منه على خشبة المسرح، عندما طل علينا الشيخ "الشعراوي" ومعه لفيف من العلماء من بينهم الشيخ "محمد الغزالي"، وكان عصبياً وهو يقول: من قال إن مصر كافرة؟.. ثم يقدم الأدلة على عدم كفرها!
الواقعة الأولى، كانت في شتاء سنة 1988، واهتمت جريدة "الوفد" بإثارتها ضمن حملتها على هذا الوزير، الذي عُرف بسلاطة اللسان، ولم يسلم من لسانه معارض أو مسؤول، حتى قيل إن وزير الثقافة فاروق حسني، لم يشعر بأنه وزير إلا بعد إقالة "زكي بدر"، إذ كان كلما رأى "حسني" ذكره بمشاركته في مظاهرات للشواذ في روما، وعندما يكون اللقاء في البرلمان، تصبح الفضيحة مكتملة، وذات مرة اشتكى "فاروق حسني" لوزير الإعلام "صفوت الشريف"، وجاء الأخير معاتباً "زكي بدر"، فأغلظ "بدر" له القول، وقام وزير الداخلية بتذكير وزير الإعلام بتاريخه الوظيفي المشرف عندما كان يعمل فيما عرف بقسم السيطرة بالمخابرات العامة، والذي كان دوره تصوير الفنانات في مشاهد مخلة، ليمكن بها السيطرة عليهن والدفع بهن للإيقاع بالقادة العرب!
ما قاله "زكي بدر" رداً على وساطة "صفوت الشريف" لصالح "فاروق حسني" لا يصلح لنقله كتابة، أو ترديده، وقد أسرها "الشريف" في نفسه، وعندما قام النائب الوفدي "طلعت رسلان" بصفع "زكي بدر" في جلسة عاصفة بمجلس الشعب، أذاع الشريف "لقطة" الاعتداء عبر التلفزيون، فأغضب هذا "زكي بدر" فما أن رأى "صفوت الشريف" في مجلس الشعب حتى ذهب إليه معنفاً، والذي رد عليه الإساءة بأكثر منها، وارتج على بدر، فقرر الرد بطريقة أخرى، بأن أرسل للصحف وللصحفيين تحقيقات النيابة مع "الرائد" صفوت الشريف، في القضية التي عُرفت بفساد المخابرات!
"الوفد"، (وكانت صحيفة المعارضة الأولى في مصر، إذ كان توزيع العدد الواحد يصل إلى المليون نسخة) نشرت سباب "زكي بدر" ضد الشيخ "يوسف القرضاوي"، في حملتها ضده، وباعتبار أن هذا السباب الموجه لعالم بحجم "القرضاوي"، يؤكد أن الوزير فاقد للثقة والاعتبار وللأهلية، مما يؤكد أن استمراره في منصبه خطيئة كبرى.
التطاول على الشيخ "القرضاوي"، كان في لقاء "زكي بدر" بالجالية المصرية في قطر، عندما ذكر ما دار بينهما بشكل معكوس تماماً، لينطبق عليه وصف الشيخ صلاح أبو إسماعيل "الكذاب الأشر"، عندما هتف ذات جلسة برلمانية: "أخرجوا هذا الوزير الكذاب من تحت قبة البرلمان"!
الشيخ "صلاح أبو إسماعيل" والد "حازم" وكان برلمانياً شجاعاً، و"زكي بدر" هو والد "أحمد" وزير التعليم العالي في عهد مبارك، ووزير التنمية المحلية في عهد السيسي!
"زكي بدر" كان قد زار الدوحة، واتصلت السفارة المصرية بالدكتور "يوسف القرضاوي" تدعوه لحضور حفل تقيمه على شرف الوزير، بدعوة رسمية، وبمكالمة هاتفية تم التأكيد خلالها أن الوزير يريد أن يلقاه!
يقول صاحب المذكرات أنه تردد في البداية ثم قبل الدعوة، وفي السفارة بالغ وزير الداخلية في إظهار الود، وأشار إلى زوجته وهو يقول للشيخ: انظر كيف أنها محجبة!، وفي كلمته ذكر آية وحديث، ليقول للشيخ بعد الانتهاء من إلقائها: "أنظر كيف أُدخل في كلامي القرآن والأحاديث". ثم سأله: هل من شيء تطلبه منا، أو تشكو من شيء في علاقتك بنا؟!
وشكره الشيخ، وذكر له كيف أنهم يحتجزون جواز سفره لفترة قد تطول وتقصر في مطار القاهرة، وإن كان الضباط يعاملونه في غاية الأدب والاحترام. وعلق "بدر": "على فكرة أنا الذي أمرتهم أن يوقفوك وأنا الذي أمرتهم أن يعاملوك في غاية الأدب"، ودعاه لزيارته في مكتبه لحل هذه المشكلة، ثم أشار إلى اللواء مصطفى عبد القادر، الذي صار وزيرا للحكم المحلي بعد ذلك، ويبدو أنه كان في هذه الفترة مديراً لجهاز مباحث أمن الدولة، الذي دعا الشيخ لزيارته في المكتب!
واضح أن دعوة قيادات وزارة الداخلية لزيارتهم في مكاتبهم رغبة، فقد تذكرت الآن هذا الإلحاح المفرط من قبل قيادات الوزارة في عهد الوزير حسن الألفي لزيارتهم في الوزارة، وقد دعيتُ لذلك من قبل الرجل القوي في الداخلية اللواء "رؤوف المناوي"، وذات يوم كتبت مقالاً حمل "واحد ليمون والثاني مجنون" بعد الحادث الإرهابي الذي تعرض له المتحف المصري، وقالت الوزارة إن الفاعل مجنون، وكانت "موضة" في هذه الفترة، هي الإعلان عقب كل حادث إرهابي أن مرتكب الحادث مجنون!
بعد إلحاح من "المناوي" قلتُ له سأنظر ظروفي واتصل بك وأعطاني مساعده على الهاتف ليسألني إن كنت جاداً في قبول دعوة "رؤوف بك" فقلت له: دعك منه، لأفاجأ بأنه لا يزال على الخط، ويسمع ردي!
وفي بداية عهد "حبيب العادلي" تكررت الدعوة من قيادات جديدة، واستجبتُ لها لأمر خاص بأحد الزملاء، كتبته في حينه، وكان "المناوي" على قيد الحياة، ولا داعي للتكرار، فأنا أعرض مذكرات الشيخ "القرضاوي" لا مذكراتي، ولكن لأن الشيء بالشيء يُذكر، ولا أرى في الزيارة مشكلة إنما لفت انتباهي الحرص عليها، في أمر يمكن أن ينتهي باتصال هاتفي من مكتب الوزير لشرطة المطار بالتوقف عن إيقاف الرجل، لكن كان واضحاً أن إيقافه هو ليحصل لهم الشرف بزيارة الشيخ لهم في المكتب، وباعتبار الزيارة غاية في حد ذاتها.
لقد فوجئ صاحب المذكرات بالوزير في اليوم التالي، يهاجمه في لقائه بالجالية المصرية، بعد كل هذا التودد، ويعلن أنه بعد الشكوى قال إنه سيعاقب الضباط الذين يعاملونه بأدب، ثم واصل هجومه عليه في مصر، وسافر إلى الإمارات وهاجمه هناك!
وهو أمر يمكن تفسيره على أنه "حالة نفسية" جعلته يخضع في المواجهة، ويطعن في الظهر.
الواقعة الثانية، التي بدت لنا حينها بلا مبرر، بعد أن شاهدنا الشيخ "الشعراوي" على الشاشة يظهر في عصبية بالغة وهو يقول من قال إن مصر كافرة؟ فلم يكن كفر مصر وإيمانها موضوع الساعة، ولم يكن مطروحاً على جدول الأعمال، وكل ما أذكره أن الشيخ "صلاح أبو إسماعيل" قال لنا: لقد كنت أنحني وأقبل يد الشيخ الغزالي، لكن بعد هذا الظهور على مسرح النظام، فاحترامه قائم لكن لن أقبل يده مرة أخرى!
قال أبو إسماعيل: إنه اتصل بعدها بالشيخ الغزالي وقال له: "الولاد كشفوك يا حلو". إذ لم يتخل وهو في هذه الحالة عن أسلوبه الفكاهي!
من يقصدهم الشيخ "صلاح أبو إسماعيل" بـ"الولاد" هم شباب الحركة الإسلامية، وكان معروفاً عن "الغزالي" أنه يضيق ذرعاً بالذين تشغلهم الشكليات، ولم يشأ الشيخ "صلاح" إلا أن يروي لنا هذا الجانب من المكالمة الهاتفية مع الشيخ "الغزالي"
الذي بادره بالقول: وكيف كشفوني؟!قال: يقلدونك؛
أحدهما يسأل صاحبه الذي يقوم بدورك: ما حكم وضع اليدين في الصلاة؟
لترد عليه: شلت يداك أو استخدمتها في الجهاد في سبيل الله؟!
لقد تبين أن الشيخ القرضاوي كان مدعواً ليكون في هذا اللقاء، فقد اتصل به وزير الأوقاف "محمد علي محجوب"، وألح عليه في الحضور للقاهرة، وسلط عليه الشيخ الغزالي، الذي طلب منه أن يأتي ليرى ماذا يريدون لاسيما وأن الدعوة موجهة لرهط من العلماء وللمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، ولما حضر تبين أن المطلوب منهم أن يصدروا بياناً يؤكدون فيه "أن مصر دولة إسلامية، وأن حكامها مسلمون، يطبقون شرع الله وأن من يتهمهم بالكفر أو الفسوق يستحق العقوبة إلى آخر ما هو من هذا القبيل".
لقد اعتذر الشيخ القرضاوي عن التوقيع على البيان، وعاد مسرعاً للدوحة ليفاجأ باسمه من بين الموقعين فأصدر بياناً يقول فيه إنه حضر النقاش ولم يوقع، وظهر "الشعراوي"، و"الغزالي"، و"الطيب النجار"، في الأزهر "وقال كل منهم ما عن له في وقته وإن تفاوت مستويات كلماتهم في القرب أو البعد مما أرادته الحكومة أو وزيرها"!
وقال صاحب المذكرات ما لم أنتبه له أنا في حينه من أن الشيخ "الغزالي" أصدر بياناً نشرته جريدة "الشعب": "يوضح فيه موقفه ويزيل ما في الموضوع من غبش وتدليس".
لقد كان هذا البيان للرد على شهادة الشيخ "صلاح أبو إسماعيل" في قضية "الناجون من النار"، وللرد على ما لا ينشر في هذه الشهادة، ولم يكن في مقدور أي صحيفة نشره.
قال الشيخ "صلاح أبو اسماعيل" إنه يعدل عما ورد في شهادته الأولى من تمييز بين الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله، فمن لم يحكم بما أنزل الله كافر، وكررها ثلاث مرات، لينبري ممثل النيابة المستشار ماهر الجندي "محافظ الجيزة فيما بعد" ليضعه في دائرة الإحراج أو هكذا ظن، فقال له: "أنت تريد أن تتهم القيادة السياسية في مصر بالكفر" ليأتيه الرد كالصاعقة: "سيادة المستشار أنا أقول لك إن حسني مبارك كافر"!
قد يرى البعض في مذكرات الشيخ القرضاوي أنها تؤرخ لسنوات في تاريخ الدعوة، لكني أرى بالإضافة إلى هذا أن فيها تأريخ للكثير من الأحداث التي شهدتها مصر، وهذا ما يعنيني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق