عبد الستار قاسم
ثقافة التسول
تسول الدول
الاتجار بالضعف
يشكل الضعف أداة هامة في استدرار عطف الآخرين واستجلاب مساعدتهم، ليس لدى الأفراد فحسب وإنما لدى الدول أيضا. هناك من لا يملك إرادة العمل وكسب لقمة العيش بعرق الجبين، وهناك من يعاني من إعاقات تحول بينه وبين الإنتاج، وهناك من يمتهن الكذب والدجل والنصب على الآخرين فيصور نفسه ضعيفا على الدوام.
وقد لاحظ علماء النفس أن الناس إجمالا يتحلون بتدفق العواطف، ولديهم إحساس بهموم الآخرين، ومنهم من لديه الاستعداد للتعاطف بهذه الطريقة أو تلك ويساعد العاجزين والضعفاء والمعوقين والمتخلفين. ربما يكون رد الفعل التعاطفي من طبيعة الإنسان التي لا نعرفها بالتحديد.. نحن على دراية بطبيعة البشر، لكننا ما زلنا نتوه في البحث عن طبيعة الإنسان.
ثقافة التسول
يلاحظ في أغلب دول العالم أن العديد من المتسولين يحاولون تقمص صورة العاجز من أجل استعطاف الناس، فيمن عليهم بعضهم ببعض المال أو الطعام. يلجأ المتسول الذي لا يعاني إعاقة إلى ربط يده أو رجله والتظاهر بأنه لا يقوى على العمل أو السير على الأقدام، أو ربما يتظاهر بالعمى أو الاختلال العقلي، تقديرا منه أن التظاهر بالضعف والعجز سيجلب له الإحسان والصدقات.
وهناك من يبكي ويذرف الدموع لإعطاء انطباع بأنه يعيش مأساة لا يخلصه منها إلا صدقات الآخرين؛ أي أن الأساليب والوسائل تتنوع، ومنهم من يبدع في خداع الآخرين فيتمكن من استدرار عطف كبير.
المتسول لا كرامة له، وهو محط حيرة لدى الناس حتى لو استدر عطفهم، ويتميز بالنذالة ذلك الذي يتسول وهو قادر على العمل والإنتاج.. النذل لا يتمتع بتاتا باحترام الذات، وكرامته تهون عليه، وعرضه عليه يهون أيضا. وهو جاهز ليتحمل الإهانات والتوبيخ والكلام البذيء، وجاهز لفتح باب بيته لبغاة الأرض.
وإذا قارنا بينه وبين اللص، فإن اللص يتمتع بشجاعة كبيرة مقارنة بالمتسول لأن لديه الاستعداد للتضحية بحياته وبحريته من أجل الحصول على المال، وهو ليس بالضرورة مفرط بكرامته وأعراضه ووطنه. اللص يخطط ويكد ويتعب ويحاول أن يأكل بعرق جبينه بطريقة غير شرعية وغير مشروعة، أما المتسول فكاذب ودجال ونصاب، ولا يحاول استفزاز عرق جبينه.
تسول الدول
هناك دول عديدة تتسول على المستوى العالمي باسم شعوبها الجوعانة. عدد لا بأس به من الدول ومنها العربية فاسدة وتبذر أموال الشعوب، وحكامها لا إرادة لهم للدفع باتجاه التقدم، وينشغلون بالشهوات وملاحقة المواطنين والتضييق عليهم.
ونظرا لفسادهم وتقاعسهم وتغلب الشهوانية في حكمهم تتدنى إنتاجية المواطنين، وتنخفض دخولهم ودخل الدولة فيحصل نقص شديد في المواد الغذائية والخدمات الهامة. هنا تلجأ أنظمة حكم هذه الدول إلى البكاء والعويل على الساحة الدولية وطلب العون الاقتصادي والمالي. قد يتعرض مواطنو بعض هذه الدول للفاقة والجوع مما يسبب ضجة إعلامية عالمية ضاغطة على الدول التي تنشط نحو التقدم. هذه دول تستعمل فقر الشعب وجوعه للتسول والاستعطاء. هي دول شبيهة بالشخص الذي يتسبب بعاهة لابنه من أجل تسهيل الطريق نحو التسول.
بعض الدول الثرية تشجع التسول بطريقة أو بأخرى من أجل تحقيق مصالح قومية مثل الهيمنة الاقتصادية أو سلب الإرادة السياسية، وبعض الدول تشجع الفساد أو تغض الطرف عنه من أجل أن تبقى الدولة ذات الحاكم الفاسد تمد يدها للاستعطاء فتسقط إرادتها السياسية مثلما حصل ويحصل في مصر.
لقد شلت الدول الغربية مصر بمساعداتها المالية، وأرخت العنان للحكام الفاسدين من أجل الهيمنة على القرار المصري والمحافظة على أمن الكيان الصهيوني. وأيضا شلت الدول الغربية الفلسطينيين عندما صمتت عن فساد السلطة الفلسطينية وتركت الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة تحت وطأة المساعدات المالية. اكتسب الشعب الفلسطيني ثقافة التسول لأنه يحصل على المال بدون عناء وتعب مقابل التخلي عن إرادته السياسية وحقوقه الوطنية الثابتة. وتدحرجت الأمور مع الشعب في الضفة الغربية خاصة إلى حد تعايش العديد من الناس مع الاحتلال الصهيوني.
وقد كان السؤال لدى الكيان الصهيوني والدول الغربية الممولة كالتالي: أيهما أجدى ماليا واقتصاديا ترك الشعب الفلسطيني وشأنه في تدبير لقمة خبزه، أم السيطرة عليه ماليا وإفراغ إرادته السياسية؟ ترك الشعب الفلسطيني يتدبر أمره أعلى كلفة لأنه سيسبب المتاعب الأمنية للكيان الصهيوني ويرفع من المتاعب الأمنية للدول الغربية، وهذه أمور مكلفة جدا، ويبقى من الأجدى تقديم الفتات من المال لكي يبقى هادئا ومستعدا لدعم الأمن الصهيوني.
الاتجار بالضعف
من الملاحظ أن الدول العربية تحاول بقدر الإمكان لعب دور حمامة السلام والتعاون على الساحة الدولية وذلك لتثبت للعالم أنها دول مسالمة ولا تجنح نحو توتير الأجواء أو تسخينها بغض النظر عن حجم الاعتداءات التي تتعرض لها.
فمثلا تتقبل هذه الدول الهيمنة الأميركية على القرار العربي والثروات العربية إرضاء للدول الغربية، لكن لديها الاستعداد أن تشن حربا على إيران إرضاء للدول الغربية أيضا. دأب الجيش التركي على مدى سنوات على انتهاك سيادة العراق وذلك بانتهاك الشمال العراقي عسكريا، ولم تكن البلدان العربية تحرك ساكنا، والآن تنتهك القوات التركية الأراضي السورية دون أن تستفز العرب. أما الكيان الصهيوني فلا يترك فرصة لإهانة العرب وتحدي قراراتهم وجنوحهم نحو الاستسلام إلا وانتهزها.
الكيان الصهيوني ينتهك المقدسات الإسلامية والمسيحية، ويصنع وقائع على الأرض في الضفة الغربية للتأكيد على حرمان الفلسطينيين من حقوقهم، بينما يستمر العرب بحمل غصن الزيتون والاتجار برسومات حمامة السلام. والدول العربية لم تستعمل سلاحها حتى ضد أريتيريا التي احتلت يوما جزر حنيش اليمنية على مشارف باب المندب، وتركت الأمر للمحاكم الدولية لكي تدافع عن اليمن.. الخ.
من العرب من يعمل على شراء الأسلحة بمليارات الدولارات سنويا، لكن لمن وضد من؟ تتوفر لدى بلدان عربية قوة عسكرية هائلة، ويبدو أنها لم تخرج من مرابضها ومخازنها إلا للحرب على اليمن؛ الأسلحة العربية لا تتحرك ضد الكيان الصهيوني أو ضد الهيمنة الغربية على القرار السياسي العربي، والجامعة العربية لا تستفزها كل الاعتداءات على الوطن العربي.
لم يتمكن العرب من الانتصار في الحروب، وغالبا كانوا يُهزمون، ولهذا لم يتمكنوا من صناعة السلام. وهم إجمالا يستمرون في تصوير الآخرين بخاصة الكيان الصهيوني بالأخطبوط القادر على الإحاطة بالأعداء وذلك لتأكيد ضعفهم وعدم قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم، كما يستمرون في الطلب من الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة ممارسة الضغط على الكيان الصهيوني عساه يقبل بطروحات الاستسلام العربية، ويستمر حكام العرب بالحجيج إلى واشنطن وإلى العواصم الغربية عموما للشكوى حول تعنت الصهاينة وممارساتهم التقليدية على الأرض الفلسطينية.
الأنظمة العربية عموما تحاول التأكيد باستمرار على تمسكها بالشرعية الدولية والقانون الدولي الذي تنتهكه مختلف الدول، والتأكيد على احترامها لقرارات الأمم المتحدة في حين أن الآخرين يستعملون الأمم المتحدة كمطية وأداة لتمرير سياساتهم.
الاحتلال الصهيوني ينتهك القانون الدولي والشرعية الدولية، لكن العرب يبحثون عمن ينتقم من هذا الكيان بالنيابة عنهم. تستمر الأنظمة العربية بالبكاء والعويل على الساحة الدولية بسبب غطرسة الصهاينة، وهي دائما تعمل على تأكيد حبها العميق للسلام، وحرصها على السلام العالمي، وتحرص على إبراز ضعفها أمام العالم، والعالم في ذات الوقت يستعمل العرب كشعوب للتندر والاستهزاء، ويتساءل عن هذا "المارد" العربي الذي لا يتوقف عويله من إجراءات دويلة صغيرة قليلة السكان وذات مساحة جغرافية ضيقة.
يحاول العرب استدرار عطف الآخرين وشفقتهم، لكن الآخرين باتوا يدركون أن العرب ليسوا صناع دول، وإنما هم مجرد حكام يستعملون سلطانهم لتحقيق المنافع الذاتية. ولا يختلف الفلسطينيون أصحاب سلطة الحكم الذاتي عن هذا النهج العربي العام.
التزم الفلسطينيون الذين توصلوا إلى اتفاق مع الصهاينة بمقاومة المقاومة، وبالتنسيق الأمني مع الصهاينة دفاعا عن أمن الكيان الصهيوني وليثبتوا للعالم أنهم مسالمون إلى درجة النذالة والخنوع. ولا يترك رئيسهم فرصة إلا اغتنمها لتأكيد انصياعه للمصالح الصهيونية على حساب المصالح الوطنية الفلسطينية؛ فهو دائما يتودد للصهاينة في إطلالاته التلفازية، ويؤكد أنه لا يريد العودة إلى صفد مسقط رأسه، ويؤكد على قدسية التنسيق الأمني، وعلى حرصه على أمن الصهاينة.
وبالرغم من كل تودده واستعطافه واستدرار الشفقة، لا يعيره الصهاينة أي اهتمام ويستمرون في سياساتهم التقليدية ضد الفلسطينيين.. الصهاينة على قناعة بأن من لا يستطيع صناعة الحرب لا يستطيع صناعة السلام، وأن الذي يستعرض ضعفه إنما يدعو الطامعين إلى امتطائه بالمزيد.
يجادل بعض الفلسطينيين أن الحركة الصهيونية استخدمت الاستعطاف واستدرار الشفقة لجلب التأييد العالمي ونجحت في ذلك وأقامت الكيان بدعم العديد من الدول الغربية. هذا صحيح، لكن الحركة الصهيونية لم تعتمد على الاستعطاف فقط وإنما طورت أساليب ووسائل متعددة من أجل إثبات قوتها التي تجبر الآخرين على الاستماع لها.
طورت الحركة الصهيونية تنظيما قويا على المستوى العالمي، وجعلت لنفسها حضورا إعلاميا واسعا، وتغلغلت في زعماء العالم من خلال المال والنساء، ودفعت بالمنظمة الماسونية إلى الأمام، وطورت برامج لتوريط القادة والمفكرين وكبار الرأسماليين، فكان لها نفوذ إعلامي ومالي وثقافي واسع على مستوى الدول الغربية؛ أي أن الحركة الصهيونية لم تستسلم لضعفها، ولم تتاجر به، وعملت على الدوام على اكتساب القوة.
أما السلطة الفلسطينية فتعمل باستمرار على تدمير عناصر قوة الشعب لتثبت للعالم أن الفلسطينيين ضعفاء جدا ويستحقون المساعدة، وأكبر دليل على ذلك ملاحقة السلطة الفلسطينية للمقاومين والمنتفضين، وعملها الدؤوب على إضعاف المنتجين الفلسطينيين وتدمير الاقتصاد الفلسطيني وإرهاق المواطنين بالضرائب والرسوم، والحرب على حرية الرأي والتعبير والمشاركة في اتخاذ القرار.
جربت الأنظمة العربية تجارة الضعف، وكذلك فعل الفلسطينيون، وكانوا دائما الخاسرين.. المتاجر بضعفه يفضح نفسه ويؤكد للآخرين بأنه لا يملك طاقة للدفاع عن نفسه. وربما نستحضر هنا عبارة رئيس الأرجنتين عندما تحدى بريطانيا بأنه ليس عربيا وهو مستعد للقتال.
الضعف يولد طمع الآخرين، ولا غرابة أن أمما وتنظيمات تتكالب على العرب وتذيقهم مختلف صنوف الإذلال والابتزاز.. الضعف ليس تجارة رابحة ولن ينجي الضعيف ضعفه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق