35 عاما على الاستشراق
عرفتُ إدوارد سعيد عندما كنت طالبا في الولايات المتحدة في أواخر الثمانينيات، وكنت أشاهده ضيفا على برامج تلفزيونية عدة. شدتني لغة الأستاذ الأميركي من أصل فلسطيني، وقدرته على المحاجة بتهذيب واقتدار في آن.
في إحدى حلقات برنامج "نايت لاين" الذي يستضيفه الصحافي تِد كابِل، ظهر إدوارد سعيد ووزير "الدفاع" الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين. تحدث سعيد عن معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، ورفض التحاور مع رابين قائلا لكابل إنه مسؤول عن طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، وإنه يعد سياساته "غير إنسانية وغير عقلانية" (inhumane and senseless).
من أعماله التي ألهمتني الكثير "تناول الإسلام"، و "لوم الضحايا" (الذي اشترك في تحريره مع كريستوفر هيتشنز)، وصدر له في ما بعد كتاب "الثقافة والإمبريالية" (1993)، ولكن الكتاب الأشهر على الإطلاق كان "الاستشراق" الذي يوافق هذا العام ذكرى مرور 35 عاما على ظهوره لأول مرة عام 1978.
تُرجم الكتاب إلى عشرات اللغات، وحظي باهتمام منقطع النظير، وانتشرت قراءاته ومراجعاته في الدوريات العلمية وفي الصحافة، وما تزال أطروحاته تسهم في شرح العلاقة بين الشرق والغرب مضيفة الكثير إلى حقول الدراسات الثقافية والإعلامية، ومؤسسة لدراسات ما بعد الكولونيالية، وما بعد الحداثة، وملهمة البحث الاستقصائي في مجالات الثقافة الإمبريالية، وإنتاج المعرفة.
أمد عمل سعيد الباحثين والأكاديميين الغربيين بآلية تمكنهم من تحدي الأطروحات النمطية والتبسيطية للثقافات الأخرى، بما في ذلك مفهوم "صدام الحضارات"، بل إن "الاستشراق" بوصفه عملا تأسيسيا في مجاله، غيّر إلى حد كبير مقاربة الجامعات الغربية لدراسات الثقافات الأخرى غير الغربية.
لم تكن المعرفة الغربية بالشرق مبنية على حقائق، بل على أمثولات متخيلة مسبقا تنظر إلى المجتمعات الشرقية بوصفها شديدة الشبه ببعضها، وشديدة الاختلاف عن المجتمعات الغربية.
هذا الخطاب، الذي يؤسس لشرق متناقض مع الغرب، تجلى في نصوص أدبية ومدونات تاريخية، وفّرت غالبا فهما محدودا لحقائق الحياة في الشرق.
تمحورت أطروحة سعيد حول تقسيم "الاستشراق" للكون إلى قسمين: الشرق والغرب، أو القسم المتحضر، وغير المتحضر، تقسيم مصطنع تماما، أُسس بنيانه على مفهوم: نحن، وهم، ويعمل بوصفه عازلا جمعيا يشل التفكير الذاتي.
استخدم الأوروبيون الاستشراق ليعرّفوا أنفسهم، ويكتسبوا فرادة أو اختلافا. عرّفوا أنفسهم بوصفهم عنصراً متفوقا على الشرقيين، وأرسوا "كولنياليتهم" على هذا المفهوم. قالوا إن واجبهم يحتم عليهم "تمدين" العالم الباهت المفتقر إلى إكسير الحياة، ناسبين صفات محددة إلى الشرقيين، نقيضها تماما هو نمط الحياة عند الغربيين.
إذا كان العرب والمسلمون مثلا كسالى وقساة وأوغادا، فإن الغربيين تلقائياً يصبحون العكس. لا يمكن أن يحتل الأوروبي مكانا عاليا إلا إذا هبط الشرقي إلى الحضيض. يتشكل التفكير بالمشرق من خلال استدعاء الرؤية الكونية الغربية، فيوصف الإسلام مثلا بـ"المحمدية"، نسبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، تماما كما يُنسب الدين المسيحي إلى المسيح.
المحمدية مصطلح أوروبي قديم لا علاقة له بالإسلام، ولا يوجد مسلم يصف نفسه بأنه "محمدي"، وبهذا فإن الغرب صنع صورا مصطنعة لا حقيقية عن الشرق (artificially created)، معبرا من خلالها عن تجربته وموروثه، أو هو قام بـ"شرقنة" الشرق الذي بدا كيانا أخرس غير قادر على تمثيل نفسه، فجاء المستشرق ليمثله بحسب رؤيته.
مفهوم "الأصولية" الشائع اليوم، وإسقاطه على الظاهرة الإسلامية من دون اعتبار للسياقات التاريخية والثقافية، يبدو أيضا من تجليات الاستشراق.
الأصولية في الأدبيات المسيحية هي حركة لاهوتية بروتستانتية ظهرت في الولايات المتحدة أواخر القرن التاسع عشر، وكانت تشدد على التمسك بحرفية الإنجيل، وعلى رفض أي تأويل لنصوصه.
ثم تطور استخدام المصطلح ليتناول الجماعات الإسلامية. وصارت "الميديا" الغربية السائدة تروجه مستصحبة الصورة النمطية للأصوليين البروتستانت المتسمة بالتعصب والانغلاق. وهكذا تعيد "الميديا" إنتاج "الكليشيهات" الاستشراقية القديمة. والخلاصة، كما يقول سعيد، أن الغرب أراد توثيق الشرق، فانتهى إلى توثيق نفسه.
لعل أبرز ما جادل به سعيد هو أن الاستشراق بوصفه حركة علمية وسياسية لم ينطلق من منطلقات السعي الموضوعي لفهم الشرق، بل كانت أهدافه محددة مسبقا، وهي في مجملها أيديولوجية وعنصرية وإمبريالية.
منذ نهاية القرن الثامن عشر، عمل الاستشراق على اختزال الحضارة العربية الإسلامية في قوالب سهلة وثابتة (stereotypes) الأمر الذي خدم أهداف القوى الإمبريالية في السيطرة على الشرق.
أنتج الرحالة والكُتّاب سلسلة من الصور تدور في مجملها حول انهماك الشرق في الفسوق، نزوعه إلى الاستبداد، عقليته الشاذة، سذاجته، تخلفه.
كانت صورة العالم العربي في اللوحات الفنية الفرنسية، والروايات الإنجليزية، وحتى في بعض الأعمال الأكاديمية خلال القرن التاسع عشر؛ صورة حافلة بالغرابة والخيال واللامنطق.
كان هناك أيضا تصوير للشرق بوصفه مكانا شهوانيا يوفر -كما يقول سعيد- "تجربة جنسية يتعذر الحصول عليها في أوروبا".
لاحظ سعيد في هذا السياق أن الأوروبيين نظروا إلى الشرق بوصفه ساحة للمتعة الجنسية ورموزها: الحريم، الحجاب، العبيد، الأميرات، والراقصات.
ولا يوجد كاتب أوروبي كتب عن الشرق، أو سافر إليه في الفترة بعد عام 1800 إلا بحث عن هذه التجربة: فولبير، ونرفال، وبيرتن، ولين، هم فقط أبرز الأسماء.
ظهر الشرق بوصفه عالما مليئا بالرغبة، لكنه مكبّل بالصمت، وعاجز عن التعبير، وبدا الجنس الذي يعد به هذا العالم، في نظر هؤلاء الرحالة والكُتّاب، مشوباً بالعنف والغموض.
النساء ثمرة "للخيال الجامح لدى الذكور، إنهن يبدين شهوانية مطلقة، وهن تقريبا حمقاوات، وقبل كل شيء جاهزات" (Orientalism, p.207, 197).
هذه الصورة ليست بعيدة عن أهواء الإمبريالي: نساء عربيات/مسلمات يختفين وراء النقاب، ويعانين من الاضطهاد والكبت، ولذا يتطلعن بشغف إلى ذلك الأوروبي الأبيض القادم من وراء البحار ليمنحهن الدفء والأمان (مقارنة هذه الصورة الكلاسيكية بأساطير الصحافة الغربية السائدة اليوم عن المرأة المسلمة في أفغانستان أو السعودية، قد تُظهر أوجه شبه).
اللوحات الفنية أسهمت أيضا في تدعيم ثنائية الشرق/الجنس، فالمرأة المسلمة المتوارية عن الأنظار تظهر عارية في هذه اللوحات، تحيط بها الوسائد والأرائك والعطور، وربما اشتملت على سيوف وخناجر ونصال قديمة مزخرفة بآيات قرآنية، وحلي نسائية، ودماء، تُستخدم في ربط الشرق بالجنس، وربط الجنس بعنف الرجل وتوحشه واستبداده.
حاول الاستشراق في مرحلة من المراحل أن يصور الشرق بوصفه مكانا رومانسيا ذا طبيعة بكر، وبحار نقية، وشواطئ فضية، وشمس ساطعة، ولذا فهو واعد بالطمأنينة وراحة البال.
العقيدة الاستشراقية القديمة ما تزال تحرك الخطط والإستراتيجيات الغربية من مدرسة الخبراء المحترفين الذين جندتهم هولندا إبان سيطرتها على ماليزيا وإندونيسيا، وجندتهم بريطانيا إبان استعمارها الهند ومصر وغرب أفريقيا، إلى المستشارين الحاليين للبيت الأبيض والبنتاغون الذين يستخدمون "الكليشيهات" ذاتها، النمطيات المهينة ذاتها، وتبريرات العنف ذاتها (القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمون).
يطرح سعيد سؤالا عما إذا كانت الحقبة الاستعمارية قد انتهت، أم أن الشرق ما يزال يرزح تحت وطأة الإمبريالية منذ حملة نابليون على مصر قبل قرنين من الزمان، مشددا على فكرة المقاومة، أو حق الشعوب في أن تكون "مختلفة"، ومنسجمة مع ذاتها.
تتعرض المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة إلى هجمة عدوانية ومحسوبة، بسبب ما يقال عن تخلفها، وافتقارها إلى الديمقراطية، وانتقاصها حقوق المرأة؛ ولكن مفاهيم الحداثة والتنوير والديمقراطية -بحسب سعيد- ليست مفاهيم بسيطة وقطعية ومتفقا عليها.
الحرب على العراق تمثل في جوهرها واحدة من أكبر الكوارث في التاريخ، حيث هندست مجموعة من المسؤولين الأميركيين "غير المنتخبين" حربا إمبريالية على دكتاتورية "عالمثالثية" بناء على قواعد أيديولوجية، وسعيا إلى الهيمنة على الموارد الشحيحة، في الوقت الذي جرى فيه التكتم على الأهداف الحقيقية للحرب، وتبريرها من قبل حفنة من المستشرقين خانوا أمانتهم العلمية.
الحرب تذكر بحقيقة لم تغب يوما، وهي أن الاستشراق هو الذراع الثقافية للإمبريالية الغربية.
تأثرت إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش إلى حد بعيد بأطروحات "خبراء" مثل برنارد لويس، وفؤاد عجمي، تحذر من عقل عربي أهوج، وقرون من الانحدار الإسلامي، تملك أميركا وحدها تغيير مساره.
فجأة، واستجابة لإيقاع ما بعد الحادي عشر من سبتمبر نُفض الغبار عن كتب قديمة، وتدفق سيل من كتب جديدة تحمل عناوين صارخة حول "الإسلام والإرهاب"، و"الخطر العربي"، كتبها من يزعمون المعرفة، ويؤكدون أنهم سبروا أغوار الشرق، وتعرفوا عن كثب على طرائق تفكير شعوبه.
وأعادت جوقة الميديا السائدة والتي تشمل "فوكس نيوز" و "سي إن إن"، وعددا لا يحصى من الإذاعات اليمينية، إنتاج تلك التعميمات الهادفة إلى إثارة أميركا ضد "الشيطان الأجنبي".
ثمة فرق في رأي سعيد بين دراسة الشعوب من أجل فهمها والتعايش معها، وبين دراستها من أجل إخضاعها والهيمنة عليها.
لا يمكن تشكيل صورة عن العالمين العربي والإسلامي لا يظهر فيها سوى الإرهاب، والحرب الاستباقية، وتغيير النظام من طرف واحد، مدعومة بأكبر موازنة عسكرية في التاريخ، ومصحوبة بضخ دعائي واسع النطاق.
كل ما ينبغي أن يحدث من نقاش عقلاني، واعتراف بحق البشر في صناعة تاريخهم بأنفسهم، يتوارى أمام أفكار هلامية تحتفل بالتفوق الاستثنائي الغربي، وتنظر إلى الثقافات الأخرى بازدراء.
يدمر الاستشراق، من خلال قصف المواطن الغربي بسيل من الصور الجامدة "للآخر" الفاسد والقبيح، كل فرص التفاهم و"التقمص" الوجداني. الاستشراق، في جوهره إذن عمل عنصري ولا إنساني.
الحل -في نظر سعيد- هو تفكيك الطابع الإمبريالي للثقافة، وتوظيف النقد المستمد من التوجه الإنساني لفتح مجالات الصراع، وتقديم سياق متواصل من التفكير والتحليل يحل محل ردود الفعل الآنية الغاضبة التي تعوق التفكير.
الكلمة التي تصف هذا السلوك الرشيد هي "الإنسانية"، وتعني الفهم التأملي المتحرر من "الأغلال المكبلة للذهن"، كما يشير الشاعر الإنجليزي وليم بليك.
الخيار الإنساني هو خط المقاومة الأخير ضد الممارسات الوحشية، والمظالم التي تشوه التاريخ، وربما أسهمت ديمقراطية الإنترنت، ووسائط الميديا الاجتماعية، في تعبئة المجتمعات الإنسانية للدفاع عن قضايا تهم سكان الأرض كافة مثل الحريات، وحقوق الإنسان، وسلامة البيئة.
ما تزال أطروحات إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" وتعليقاته عليه تثير النقاش بعد مرور 35 عاماً على صدوره. وما تزال المقارنة بين العقيدة الاستشراقية القديمة، وبين التفكير السياسي الغربي تجاه المجتمعات العربية والإسلامية، تتجدد كلما حدث احتكاك أو اتصال بين الشرق والغرب.
يمكن لنا اليوم ببساطة أن نستدعي كثيراً من هذه الأطروحات ونحن نرى المخاض العسير للربيع العربي، وهو يصارع للبقاء في "مجتمع دولي" يعتقد كثير من أربابه أن الديمقراطية عنصرية الطابع، وأنها لا يمكن أن تنشأ وتزدهر في أرض غير أوروبية، وغربية تحديداً، أو تعيش على ثراها سلالات أوروبية، وهو بالضبط ما يقوله برنارد لويس. لهذا السبب لم يفقد كتاب "الاستشراق" وهجه الأكاديمي والمعرفي، ولا يبدو أنه سيفقده أبداً.
في إحدى حلقات برنامج "نايت لاين" الذي يستضيفه الصحافي تِد كابِل، ظهر إدوارد سعيد ووزير "الدفاع" الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين. تحدث سعيد عن معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، ورفض التحاور مع رابين قائلا لكابل إنه مسؤول عن طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، وإنه يعد سياساته "غير إنسانية وغير عقلانية" (inhumane and senseless).
في إطار إعدادي رسالة الماجستير حول "تناول صحافة النخبة الأميركية للانتفاضة الفلسطينية"، كان لا بد أن أقرأ شيئا من إنتاج سعيد حول القضية الفلسطينية وتناول الميديا الأميركية لها.
من أعماله التي ألهمتني الكثير "تناول الإسلام"، و "لوم الضحايا" (الذي اشترك في تحريره مع كريستوفر هيتشنز)، وصدر له في ما بعد كتاب "الثقافة والإمبريالية" (1993)، ولكن الكتاب الأشهر على الإطلاق كان "الاستشراق" الذي يوافق هذا العام ذكرى مرور 35 عاما على ظهوره لأول مرة عام 1978.
تُرجم الكتاب إلى عشرات اللغات، وحظي باهتمام منقطع النظير، وانتشرت قراءاته ومراجعاته في الدوريات العلمية وفي الصحافة، وما تزال أطروحاته تسهم في شرح العلاقة بين الشرق والغرب مضيفة الكثير إلى حقول الدراسات الثقافية والإعلامية، ومؤسسة لدراسات ما بعد الكولونيالية، وما بعد الحداثة، وملهمة البحث الاستقصائي في مجالات الثقافة الإمبريالية، وإنتاج المعرفة.
لم تكن المعرفة الغربية بالشرق مبنية على حقائق، بل على أمثولات متخيلة مسبقا تنظر إلى المجتمعات الشرقية بوصفها شديدة الشبه ببعضها، وشديدة الاختلاف عن المجتمعات الغربية |
لم تكن المعرفة الغربية بالشرق مبنية على حقائق، بل على أمثولات متخيلة مسبقا تنظر إلى المجتمعات الشرقية بوصفها شديدة الشبه ببعضها، وشديدة الاختلاف عن المجتمعات الغربية.
هذا الخطاب، الذي يؤسس لشرق متناقض مع الغرب، تجلى في نصوص أدبية ومدونات تاريخية، وفّرت غالبا فهما محدودا لحقائق الحياة في الشرق.
تمحورت أطروحة سعيد حول تقسيم "الاستشراق" للكون إلى قسمين: الشرق والغرب، أو القسم المتحضر، وغير المتحضر، تقسيم مصطنع تماما، أُسس بنيانه على مفهوم: نحن، وهم، ويعمل بوصفه عازلا جمعيا يشل التفكير الذاتي.
استخدم الأوروبيون الاستشراق ليعرّفوا أنفسهم، ويكتسبوا فرادة أو اختلافا. عرّفوا أنفسهم بوصفهم عنصراً متفوقا على الشرقيين، وأرسوا "كولنياليتهم" على هذا المفهوم. قالوا إن واجبهم يحتم عليهم "تمدين" العالم الباهت المفتقر إلى إكسير الحياة، ناسبين صفات محددة إلى الشرقيين، نقيضها تماما هو نمط الحياة عند الغربيين.
إذا كان العرب والمسلمون مثلا كسالى وقساة وأوغادا، فإن الغربيين تلقائياً يصبحون العكس. لا يمكن أن يحتل الأوروبي مكانا عاليا إلا إذا هبط الشرقي إلى الحضيض. يتشكل التفكير بالمشرق من خلال استدعاء الرؤية الكونية الغربية، فيوصف الإسلام مثلا بـ"المحمدية"، نسبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، تماما كما يُنسب الدين المسيحي إلى المسيح.
المحمدية مصطلح أوروبي قديم لا علاقة له بالإسلام، ولا يوجد مسلم يصف نفسه بأنه "محمدي"، وبهذا فإن الغرب صنع صورا مصطنعة لا حقيقية عن الشرق (artificially created)، معبرا من خلالها عن تجربته وموروثه، أو هو قام بـ"شرقنة" الشرق الذي بدا كيانا أخرس غير قادر على تمثيل نفسه، فجاء المستشرق ليمثله بحسب رؤيته.
مفهوم "الأصولية" الشائع اليوم، وإسقاطه على الظاهرة الإسلامية من دون اعتبار للسياقات التاريخية والثقافية، يبدو أيضا من تجليات الاستشراق.
الأصولية في الأدبيات المسيحية هي حركة لاهوتية بروتستانتية ظهرت في الولايات المتحدة أواخر القرن التاسع عشر، وكانت تشدد على التمسك بحرفية الإنجيل، وعلى رفض أي تأويل لنصوصه.
ثم تطور استخدام المصطلح ليتناول الجماعات الإسلامية. وصارت "الميديا" الغربية السائدة تروجه مستصحبة الصورة النمطية للأصوليين البروتستانت المتسمة بالتعصب والانغلاق. وهكذا تعيد "الميديا" إنتاج "الكليشيهات" الاستشراقية القديمة. والخلاصة، كما يقول سعيد، أن الغرب أراد توثيق الشرق، فانتهى إلى توثيق نفسه.
إذا كان العرب والمسلمون مثلا كسالى وقساة وأوغادا، فإن الغربيين تلقائيا يصبحون العكس. لا يمكن أن يحتل الأوروبي مكانا عاليا إلا إذا هبط الشرقي إلى الحضيض |
منذ نهاية القرن الثامن عشر، عمل الاستشراق على اختزال الحضارة العربية الإسلامية في قوالب سهلة وثابتة (stereotypes) الأمر الذي خدم أهداف القوى الإمبريالية في السيطرة على الشرق.
أنتج الرحالة والكُتّاب سلسلة من الصور تدور في مجملها حول انهماك الشرق في الفسوق، نزوعه إلى الاستبداد، عقليته الشاذة، سذاجته، تخلفه.
كانت صورة العالم العربي في اللوحات الفنية الفرنسية، والروايات الإنجليزية، وحتى في بعض الأعمال الأكاديمية خلال القرن التاسع عشر؛ صورة حافلة بالغرابة والخيال واللامنطق.
كان هناك أيضا تصوير للشرق بوصفه مكانا شهوانيا يوفر -كما يقول سعيد- "تجربة جنسية يتعذر الحصول عليها في أوروبا".
لاحظ سعيد في هذا السياق أن الأوروبيين نظروا إلى الشرق بوصفه ساحة للمتعة الجنسية ورموزها: الحريم، الحجاب، العبيد، الأميرات، والراقصات.
ولا يوجد كاتب أوروبي كتب عن الشرق، أو سافر إليه في الفترة بعد عام 1800 إلا بحث عن هذه التجربة: فولبير، ونرفال، وبيرتن، ولين، هم فقط أبرز الأسماء.
ظهر الشرق بوصفه عالما مليئا بالرغبة، لكنه مكبّل بالصمت، وعاجز عن التعبير، وبدا الجنس الذي يعد به هذا العالم، في نظر هؤلاء الرحالة والكُتّاب، مشوباً بالعنف والغموض.
النساء ثمرة "للخيال الجامح لدى الذكور، إنهن يبدين شهوانية مطلقة، وهن تقريبا حمقاوات، وقبل كل شيء جاهزات" (Orientalism, p.207, 197).
هذه الصورة ليست بعيدة عن أهواء الإمبريالي: نساء عربيات/مسلمات يختفين وراء النقاب، ويعانين من الاضطهاد والكبت، ولذا يتطلعن بشغف إلى ذلك الأوروبي الأبيض القادم من وراء البحار ليمنحهن الدفء والأمان (مقارنة هذه الصورة الكلاسيكية بأساطير الصحافة الغربية السائدة اليوم عن المرأة المسلمة في أفغانستان أو السعودية، قد تُظهر أوجه شبه).
اللوحات الفنية أسهمت أيضا في تدعيم ثنائية الشرق/الجنس، فالمرأة المسلمة المتوارية عن الأنظار تظهر عارية في هذه اللوحات، تحيط بها الوسائد والأرائك والعطور، وربما اشتملت على سيوف وخناجر ونصال قديمة مزخرفة بآيات قرآنية، وحلي نسائية، ودماء، تُستخدم في ربط الشرق بالجنس، وربط الجنس بعنف الرجل وتوحشه واستبداده.
أنتج الرحالة والكُتّاب سلسلة من الصور تدور في مجملها حول انهماك الشرق في الفسوق، ونزوعه إلى الاستبداد، وعقليته الشاذة، وسذاجته، وتخلفه |
الشرقيون يستمتعون بالطبيعة الهادئة، ولا يوجد ما يعكر صفوهم، أو بتفسير المستشرق: لا توجد تحديات تصقلهم، وتحفزهم على الإبداع، الأمر الذي يلقي مسؤولية أكبر على الرجل الأبيض ذي النظرة البعيدة ليضطلع بواجبه (The White Man Burden)، ويقوم بتمدين الشرقي الذي لم تنضجه الحياة بعد.
صور نمطية شتى وُظفت في خدمة مصالح الحكومات الغربية وسياساتها، فظهر الشرق "فاقدا للحيوية والروح"، وفي أمسِّ الحاجة إلى إنقاذه بالحداثة، أو "الأوربة".
قبل عشر سنوات، كتب سعيد مقالا بمناسبة مرور 25 عاما على صدور كتابه "الاستشراق" (موقع كاونتر بنش، 4 أغسطس/آب 2003)، انتقد فيه النظرة العنصرية التي يصبح فيها الشرق "شرقنا" نحن نمتلكه ونديره، مؤكدا أنه لو كان الغرب مقتنعا أن الشعوب الأخرى ليست مثله، لما كانت هناك حاجة إلى الحرب على العراق أصلا.العقيدة الاستشراقية القديمة ما تزال تحرك الخطط والإستراتيجيات الغربية من مدرسة الخبراء المحترفين الذين جندتهم هولندا إبان سيطرتها على ماليزيا وإندونيسيا، وجندتهم بريطانيا إبان استعمارها الهند ومصر وغرب أفريقيا، إلى المستشارين الحاليين للبيت الأبيض والبنتاغون الذين يستخدمون "الكليشيهات" ذاتها، النمطيات المهينة ذاتها، وتبريرات العنف ذاتها (القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمون).
يطرح سعيد سؤالا عما إذا كانت الحقبة الاستعمارية قد انتهت، أم أن الشرق ما يزال يرزح تحت وطأة الإمبريالية منذ حملة نابليون على مصر قبل قرنين من الزمان، مشددا على فكرة المقاومة، أو حق الشعوب في أن تكون "مختلفة"، ومنسجمة مع ذاتها.
تتعرض المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة إلى هجمة عدوانية ومحسوبة، بسبب ما يقال عن تخلفها، وافتقارها إلى الديمقراطية، وانتقاصها حقوق المرأة؛ ولكن مفاهيم الحداثة والتنوير والديمقراطية -بحسب سعيد- ليست مفاهيم بسيطة وقطعية ومتفقا عليها.
الحرب على العراق تمثل في جوهرها واحدة من أكبر الكوارث في التاريخ، حيث هندست مجموعة من المسؤولين الأميركيين "غير المنتخبين" حربا إمبريالية على دكتاتورية "عالمثالثية" بناء على قواعد أيديولوجية، وسعيا إلى الهيمنة على الموارد الشحيحة، في الوقت الذي جرى فيه التكتم على الأهداف الحقيقية للحرب، وتبريرها من قبل حفنة من المستشرقين خانوا أمانتهم العلمية.
الحرب تذكر بحقيقة لم تغب يوما، وهي أن الاستشراق هو الذراع الثقافية للإمبريالية الغربية.
تأثرت إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش إلى حد بعيد بأطروحات "خبراء" مثل برنارد لويس، وفؤاد عجمي، تحذر من عقل عربي أهوج، وقرون من الانحدار الإسلامي، تملك أميركا وحدها تغيير مساره.
فجأة، واستجابة لإيقاع ما بعد الحادي عشر من سبتمبر نُفض الغبار عن كتب قديمة، وتدفق سيل من كتب جديدة تحمل عناوين صارخة حول "الإسلام والإرهاب"، و"الخطر العربي"، كتبها من يزعمون المعرفة، ويؤكدون أنهم سبروا أغوار الشرق، وتعرفوا عن كثب على طرائق تفكير شعوبه.
وأعادت جوقة الميديا السائدة والتي تشمل "فوكس نيوز" و "سي إن إن"، وعددا لا يحصى من الإذاعات اليمينية، إنتاج تلك التعميمات الهادفة إلى إثارة أميركا ضد "الشيطان الأجنبي".
ثمة فرق في رأي سعيد بين دراسة الشعوب من أجل فهمها والتعايش معها، وبين دراستها من أجل إخضاعها والهيمنة عليها.
لا يمكن تشكيل صورة عن العالمين العربي والإسلامي لا يظهر فيها سوى الإرهاب، والحرب الاستباقية، وتغيير النظام من طرف واحد، مدعومة بأكبر موازنة عسكرية في التاريخ، ومصحوبة بضخ دعائي واسع النطاق.
يدمر الاستشراق، من خلال قصف المواطن الغربي بسيل من الصور الجامدة "للآخر" الفاسد والقبيح، كل فرص التفاهم و"التقمص" الوجداني. الاستشراق، في جوهره إذن عمل عنصري ولا إنساني |
يدمر الاستشراق، من خلال قصف المواطن الغربي بسيل من الصور الجامدة "للآخر" الفاسد والقبيح، كل فرص التفاهم و"التقمص" الوجداني. الاستشراق، في جوهره إذن عمل عنصري ولا إنساني.
الحل -في نظر سعيد- هو تفكيك الطابع الإمبريالي للثقافة، وتوظيف النقد المستمد من التوجه الإنساني لفتح مجالات الصراع، وتقديم سياق متواصل من التفكير والتحليل يحل محل ردود الفعل الآنية الغاضبة التي تعوق التفكير.
الكلمة التي تصف هذا السلوك الرشيد هي "الإنسانية"، وتعني الفهم التأملي المتحرر من "الأغلال المكبلة للذهن"، كما يشير الشاعر الإنجليزي وليم بليك.
الخيار الإنساني هو خط المقاومة الأخير ضد الممارسات الوحشية، والمظالم التي تشوه التاريخ، وربما أسهمت ديمقراطية الإنترنت، ووسائط الميديا الاجتماعية، في تعبئة المجتمعات الإنسانية للدفاع عن قضايا تهم سكان الأرض كافة مثل الحريات، وحقوق الإنسان، وسلامة البيئة.
ما تزال أطروحات إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" وتعليقاته عليه تثير النقاش بعد مرور 35 عاماً على صدوره. وما تزال المقارنة بين العقيدة الاستشراقية القديمة، وبين التفكير السياسي الغربي تجاه المجتمعات العربية والإسلامية، تتجدد كلما حدث احتكاك أو اتصال بين الشرق والغرب.
يمكن لنا اليوم ببساطة أن نستدعي كثيراً من هذه الأطروحات ونحن نرى المخاض العسير للربيع العربي، وهو يصارع للبقاء في "مجتمع دولي" يعتقد كثير من أربابه أن الديمقراطية عنصرية الطابع، وأنها لا يمكن أن تنشأ وتزدهر في أرض غير أوروبية، وغربية تحديداً، أو تعيش على ثراها سلالات أوروبية، وهو بالضبط ما يقوله برنارد لويس. لهذا السبب لم يفقد كتاب "الاستشراق" وهجه الأكاديمي والمعرفي، ولا يبدو أنه سيفقده أبداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق