المرابطون من الرواق إلى الورّاق
شعب الورّاق، تلك الجزيرة الفقيرة التي يلفها النيل من كل اتجاه، يعيدون الاعتبار لقيمة الدفاع عن الأرض والتشبث بالجذور، هذه القيمة التي ماتت وتحللت عند تحالف العسكريين والأوليجارك في مصر، فبات بيع التاريخ والتراب أمراً اعتيادياً، لا يخجل منه الذين قرّروا قتل مفهوم الوطن.
ليست المسألة، كما تزعم منظومة الحكم الحالية، دفاعاً عن الدولة وهيبتها وأملاكها، بل العكس هو الصحيح، إذ تستأسد الدولة، بمعنى النظام السياسي، على المواطن، وتعتبر الوطن ذبيحةً مشويةً تقتطع منها كل يوم، وتبيع لهذا وتتنازل لذاك، وتهرب، بالحصيلة، لتسمين فرق القنص والقرصنة.
أكثر من ثلاثة أجيال ولدت وعاشت حياتها كاملة على أرض الوراق، مواطنين لا مستوطنين، أصحاب أرضٍ لا معتدين، يملكون كل وثائق المواطنة والملكية، حتى عرفت مصر، في عصر حسني مبارك، نمط حكم العصابة، ذلك التحالف الشرّير بين السلطة وطبقة رجال الأعمال الجدد الذين وضعت بذورها بعد "كامب ديفيد"، وأينعت في زمن ما بعد "أوسلو"، ذلك الزمن الوغد الذي أسقط قداسة الأرض، وفتح باب الاتجار بخرائط الأوطان الجغرافية، وقيمها التاريخية، فتنازل أبو مازن (محمود عباس) عن الأرض في فلسطين، وتنازل أبو علاء (حسني مبارك) عن الأرض في مصر، لصالح عمالقة الأوليجارك الجدد، العابرين للقارات.
ثمانية آلاف فدّان اقتطعها حسني مبارك من أرض الشعب المصري ومنحها لمجموعة طلعت مصطفى وولده هشام الذي خرج من السجن، بعفو من عبد الفتاح السيسي، وريث حسني مبارك، في قضية قتل مطربةٍ تمردت على شبقه، بعد أن أن كان يمنحها مائتي ألف دولار كل شهر، إشباعاً لشهوة امتلاك أنثى جميلة.
لا أدري إن كان لخروج هشام طلعت مصطفى من السجن علاقة بإعلان حرب انتزاع جزيرة الورّاق من شعبها أم لا، لكن المعروف لي، وللمصريين جميعاً، أن حكاية الورّاق لا تختلف عن قصة أرض"مدينتي" في المسافة بين القاهرة والسويس، حيث منح النظام المباركي نحو 40 مليون متر مربع من أراضى الشعب المصرى لشخص واحد مقابل 290 جنيها للمتر، لكى يبيعه بستة آلاف جنيه، في ذلك الوقت، كما هو ثابتٌ في أوراق القضية التي كانت جزءً من مكونات الغضب الشعبي الذي أفضى إلى ثورة يناير 2011.
كتبت وقتها عن هذه الأرض "لابد أنها لاتزال تحتفظ بوقع أقدام جنودنا الذين ذهبوا إلى السويس، وعادوا منها دفاعا عن الوطن.. هذه الأرض لا تزال مخضبةً بدماء شهداء سقطوا فى أنبل معارك الدفاع عن الشرف، هي تقع على طريق السويس.. "مدينتى" لا تبعد كثيرا عن المدينة الباسلة.. مازالت تتذكّر أنين أقدام المحاربين فوق رملها الساخن، ومن ثم هي تنتحب الآن، حين تعلم أنها منحت لرجل أعمال مغامر، لكي يتربح منها وينفق من دخلها 200 ألف دولار شهريا على مطربةٍ صغيرة هام بها شوقا وغراما، وحين غضب من تمنعها تورّط فى جريمة ذبحها.
كانت أواصر تجمع بين هشام طلعت مصطفى والنظام السياسي، بالشراكة والقرابة، فلا قيمة إذن لخرائط وطنٍ أو احترام لحقوق مواطن، والآن تتكرّر القصة مع جزيرة الورّاق.. نظام جائع بشراهة لكل ما يشبع رغبات الذين منحوه السلطة، من ضباع متوحشة في الخارج، وثعالب خسيسة في الداخل، فليكن الانقضاض على فقراء الوراق فرصة رائعة للقنص.
بسالة شعب الورّاق في الدفاع عن حقه في الأرض والتاريخ أربكت السلطة التي ظنت أنها في رحلة صيدٍ، تشبه رحلتها الدموية في "رابعة العدوية" وأخواتها، والتي انتهت بقنص السلطة من الذين وصلوا إليها عبر الطرق القانونية والشرعية.. لكن صمود المرابطين في الورّاق دفع القراصنة إلى التراجع، وهو تراجع تكتيكي، إلى حين.
هنا يبرز سؤال: أين المجتمع المدني من التربص المجنون بالورّاق، أرضاً وشعباً، والذي بلغ حد المطالبة بدكّ الجزيرة ومحوها من الوجود، واقتلاع سكانها اقتلاعاً..
هو الامتحان ذاته الذي رسب فيه النظام العربي، الذي وقف متفرّجاً، فرجة المتواطئ، على الهجمة الصهيونية لاقتلاع المسجد الأقصى برواقيه وأبوابه العشرة من الفلسطينيين، والاستحواذ على مفاتيحه وأبوابه، ليصبح ملكية إسرائيلية خالصة.
الورّاق تخوض الآن واحدةً من معارك الثورة المصرية ضد حكم عصابات السلطة والثروة، حتى وإن كان شعب الورّاق وقع في غواية نكبة يونيو/ حزيران 2013 بثورتها المضادّة وانقلابها، فالجزيرة الفقيرة، ذات الربع مليون نسمة، تواجه حملةً مسعورةً تستهدف وجودها، وجزرٍ أخرى عديدة مثلها، فلا تخذلوها في معركة العيش والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.. ولا تفعلوا بها كما فعلتم بجزيرتي تيران وصنافير، حين شفطتم الغضب من الشوارع، وخبأتوه، مجمداً، تحت الأرواب السوداء.
أن تكتفوا بالفرجة على نحرها، ثم تبدأوا النحيب فذاك هو التواطؤ، الذي يشبه تواطؤ العرب على ذبح الأقصى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق