خريج مدرسة الهولوكوست
قبل أن يمتشق عبد الفتاح السيسي الميكروفون، ويضع طالبة الثانوية العامة المتفوقة، ابنة حارس العقار، إلى جانبه في الصف الأول، أمام الكاميرا، كانت قواته قد اغتالت، مع سبق الإصرار والترصد، ثمانية شبّان، جدداً، كانوا، حسب المنشور في وسائل إعلامه، قيد الحبس والاعتقال.
يصنف الخبر الاعتيادي في هذه الجرائم الضحايا الأبرياء إرهابيين، ويكيّف عملية القتل بأنها تصفية في أثناء تبادل إطلاق النار مع قوات الأمن، القوات ذاتها التي أعلنت قبلاً نبأ القبض عليهم وحبسهم.
لكن ذلك كله لا يحرّك ضمائر أحد من الذين انشغلوا، وشغلوا الدنيا، بمقتل ثلاثة مستوطنين، محتلين، صهاينة على يد مقاومين فلسطينيين، كما لم يوقف السيسي عن مواصلة أدائه الركيك في دراما صناعة المستقبل من أجل الأجيال الشابة.
والحاصل أننا بصدد سلطةٍ تمارس عمليات القتل والإبادة، بمنتهى الأريحية وهي واثقةٌ من أن غضباً لن يندلع، وأن أحداً لن يكلف نفسه عناء تفنيد أكاذيبها، ما دامت تضع ملصق"إرهابي" على كل جثةٍ تلقى في العراء بعد تصفيتها، وكل صرخة في البرية تتوخّى العدل، وتدافع عن الإنسان، عملاً بقانون "كل معترض خائن، وكل معارض إرهابي، وكل متألم مما يدور معدوم الوطنية".
وتفلتاً من واجبٍ أخلاقي، ومسؤولية إنسانية، يجد الذين ينتظر منهم رفع الصوت في أداء عبد الفتاح السيسي، في الخطابة وفي الحكم، ملاذا. آمناً من التورّط في معارضة حقيقية، جذرية، تحاول فعل شيء بمواجهة الجحيم الذي يديره خريج مدرسة الهولوكوست، وينفذ حرفياً ما يتلى عليه من أبناء القتلة الأوائل.
تعرف منظومة عبد الفتاح السيسي كيف تحوّل الدفة بمهارة من الجاد والحقيقي في المأساة المصرية الكاملة، إلى التافه والمثير من ملهاة الأداء، إذ يعرف القائمون على الهولوكوست كيف يخطفون الأنظار والأفئدة إلى معارك صغيرة، مثل الاشتباك حول توصيف الطالبة المغلوب على أمرها، الجالسة بجوار السيسي: بنت البواب أم ابنة حارس العقار، ليندلع حول هذه الإشكالية جدل هائل، تتطاير فيها مفردات العنصرية والطبقية، ويجد القسم الأعظم من المشتبكين ضالته، لكي يسبغ على جنرال المقتلة صفات القدّيسين والرهبان، وذوي القلوب الرحيمة الذين يعلمون البشرية كيف تكون الرحمة والعطف والإحسان للبسطاء الضعفاء.
واستكمالاً للحبكة، لا بأس، من مجموعةٍ من السقطات، المتعمدة والمصنوعة بدقة، في كلام الزعيم، وحشو اللقاء ببعض الإيفيهات الضاحكة التي تصلح مادةً مثيرة لصناعة موجاتٍ من الجدل والسخرية. وفي وسط هذه الجلبة، يصبح قتل الشباب في المعتقلات، والعثور على جثث المختفين قسرياً مدفونةً في الرمال، يصبح موضوعاً هامشياً، على موائد السفسطة والثرثرة، قد يمر عليه بعضهم بخفةٍ قبل الانتقال إلى جدول أعمال المكلمة.
وأظن أن عبد الفتاح السيسي يدرك جيداً أنه نجح في تحقيق مبتغاه، عن طريق الوصول بقطاع واسع من الجماهير إلى حالة الاعتياد والتعايش البليد مع ما يجري من استباحةٍ لدماء المصريين، واسترخاص حياتهم وامتهان حقوقهم كموتى بعد قتلهم.
هو منذ البداية يستهدف صناعة ردة حضارية عنيفة وانسلاخ من قيم تجسّد الحد الأدنى من الفطرة الإنسانية السوية، ويبدو أنه قد نجح، نسبياً، فى استدعاء ما وصفته سابقاً الجزء المعتم من الوجود الإنسانى، وإطلاق أسوأ ما فى الشخصية المصرية من نوازع وحشية، بحيث صار المجتمع يمور برغبات الانتقام والتلذّذ بالدماء، واستعذاب التضليل والتزييف وقلب الحقائق، لينعم المجرم بإجرامه، ويُساق الضحايا إلى الجحيم، ويصبح التصفيق للفشل، والهتاف للبلادة قمة الوطنية.
مرة أخرى، لا يتعلق الخلاف مع سلطة عبد الفتاح السيسي، بأدائها البليد المهين لمصر، تاريخاً وشعباً، وإنما ينطلق من أن هذه سلطةٌ ولدت سفاحاً، لا شرعية أخلاقية، أو سياسية لها، كونها جاءت سطواً مسلحاً على أول سلطةٍ منتخبةٍ ديمقراطياً في تاريخ المصريين، والأسوأ أنها تجسيد كامل لتصور صهيوني لبنية السلطة الحاكمة في مصر وشكلها، وهل كانت إسرائيل تحلم يوماً بحاكم لدولة عربية يخاطبها بعبارة "من فضلك"، ويضع نفسه، في الظاهر، على مسافة واحدة بين الشقيق والعدو، ويساوي بين الدم الفلسطيني والدم الصهيوني، بينما هو في الواقع الفعلي يسلك مثل جندي صهيوني مخلص، هربت عائلته من هولوكوست قديم، فقرّر أن يفتتح هولوكوست جديداً، لكل من يعارضه، أو بالأحرى يعارض إسرائيل؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق